الاستخباراتُ التُركِيّة في العصرِ الجديد: التحوُّلُ والتوَسُّعُ في العملياتِ السِرِّيةِ في السياسةِ الخارجية
خضعت السياسة الخارجية التركية لتغييرٍ جذري في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، حيث صارت الاستخبارات الوطنية أداةً لسياسة البلاد الخارجية. يبحث هذا التقرير كيفية تحوّل العمليات الاستخباراتية السرية بشكل متزايد إلى أداة تعكس الموقف الجيوسياسي المتطور لتركيا. وأخيرًا، يدرس الآثار المترتبة عن هذه الأنشطة السرية المتزايدة على الديناميكيات الإقليمية والدولية ويسلط الضوء على التفاعل الحاسم بين أنشطة الاستخبارات المعززة وأهداف السياسة الخارجية التركية.

جون هاتزادوني وسبيريون بلاكوداس*
تَعكُسُ قصّةُ الاستخبارات التركية، التي ترجع أصولها إلى أواخر الإمبراطورية العثمانية وحتى عملياتها المعاصرة المتطوّرة، التاريخ المُعقَّد لتركيا. ويُمكن تتبُّع جذور مجتمع الاستخبارات التركي إلى العام 1299 عندما تأسست الأجهزة الإدارية المُبكرة للإمبراطورية العثمانية. كان جهاز الاستخبارات في الإمبراطورية يتركّز أساسًا حول قسم الإدارة العامة، المعروف باسم ديوان “همايون كليمي” (ديوان الإمبراطورية). وكان هذا الديوان يُركّز في المقام الأول على جمع المعلومات الاستخباراتية عن القوى الأجنبية والتهديدات الداخلية.
في السنوات الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية، بدأت محاولات مختلفة لإصلاح قدرة الاستخبارات وجعلها ذات صلة من قبل مختلف السلاطين. لقد جاء أوّلَ سلفٍ حقيقي للتجسُّدِ الحالي للمخابرات التركية مع إنشاء منظمة يلدز (النجمة) (1880-1908) في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ومع انخراط الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى، لعبت منظمة “التشكيلات المحسوسة” (المنظمة الخاصة، حوالي 1913-1920)، بقيادة أنور باشا، دورًا حاسمًا في الاستخبارات والعمليات الخاصة، حيث نجحت في الإبحار عبر تعقيدات صراع عالمي وإمبراطورية منهارة.
أعادت أنشطة الاستخبارات خلال فترة نهاية الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الجمهورية، بين العامين 1918 و1923، تركيز المهمة العملياتية بشكل صحيح حيث أصبحت أشكال الاستخبارات المختلفة تُركز في المقام الأول على التعزيز الداخلي والاستجابة لقضايا الأمن الخارجية التي هددت جمهورية تركيا الناشئة. أصبحت هذه الفترة حاسمة في تشكيل مستقبل الجمهورية، سواء من حيث الاستقرار الداخلي أو اتجاه السياسة الخارجية.
جلب الانتقالُ إلى جمهورية تركيا بطبيعة الحال انتقالًا وإصلاحاتٍ لأجهزة الاستخبارات، وأهمها إضفاء الطابع المؤسّسي على عمليات الاستخبارات. أنشأت الجمهورية الجديدة في العام 1926 رئاسة جهاز الشرطة الوطنية تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي قام بمركزية جمع المعلومات الأمنية والعمليات ولكن التركيز ظل واضحًا على قضايا الأمن الداخلي. ومع ترسيخ الجمهورية لمكانتها بين العامين 1923 و1947، بدأ جهاز الاستخبارات يتّخذُ شكلًا أكثر تحديدًا. تميّزت هذه الحقبة بالجهود الرامية إلى تعزيز الدولة التي تأسّست حديثًا والتنقّل بين تعقيدات المشهد الدولي المتطور، وخصوصًا الجهود المُتعدّدة لجرِّ الأمة إلى الحرب العالمية الثانية.
شهدت سنوات الحرب الباردة توسّعًا كبيرًا وتكييفًا لقدرات الاستخبارات التركية لتلبية هذه الاحتياجات الاستراتيجية. طرحت الحقبة تحدّياتٍ جديدة وتطلّبت تحوُّلًا استراتيجيًا في أنشطة الاستخبارات. كانت تركيا، التي تقع على جانبَي الكتلة الغربية والاتحاد السوفياتي، بحاجةٍ إلى إدارة سياستها الخارجية مع مراقبة التهديدات الداخلية والخارجية عن كثب. لذا، وفّرَ انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي إمكانية وصول قواتها العسكرية إلى التدريب والموارد والتعاون الجديد، وخصوصًا مع الولايات المتحدة ووكالة الاستخبارات الأميركية المركزية.
بلغ هذا الأمرُ ذروته في العام 1965، عندما خضعت رئاسة جهاز الشرطة الوطنية لتحوُّلٍ كبير، وتطوّرت لتصبح جهاز الاستخبارات الوطنية الحالي. مثّلت التغييرات تحسينًا استراتيجيًا لأولويات الاستخبارات لتلبيةِ احتياجات الأمن الداخلي المتوسِّعة للجمهورية وأهداف السياسة الخارجية. أصبح جهازُ الاستخبارات الوطنية المُشَكَّل حديثًا مسؤولًا عن جَمعِ وتحليل كلٍّ من الاستخبارات المحلية والأجنبية، واستخبارات الأمن الداخلي، والتنسيق العسكري. وقد كان للأخير تأثيرٌ كبير ودائم على الجهاز حتى القرن الحادي والعشرين، حيث كانت قيادة جهاز الاستخبارات الوطنية التركية يهيمن عليها ضباط عسكريون.
العملياتُ السرّية ليست جديدة على السياسة الخارجية والأمنية التركية. يُمكنُ رؤية أحد الأمثلة المبكرة على العمليات السرية للمخابرات التركية في أنشطة المخابرات العسكرية وأنشطة رئاسة جهاز الشرطة الوطنية ضد بلغاريا التي قدمت الدعم لأولويات حلف “الناتو”. مع ذلك، استهدفت تركيا أيضًا اليونان خلال الصراع القبرصي بين العامين 1953 و1970. وقد تميّزت هذه الفترة باستخدامٍ استراتيجي للأنشطة السرية التي تقوم بها المخابرات التركية داخل حلف شمال الأطلسي وضد حليف سابق. وكانت عمليات المخابرات التركية متعددة الأوجه، بما فيها: دعم حركات المقاومة، وتقديم المساعدة العملياتية، وتقييم القدرات العسكرية والاستعداد. وكما أسَرَّ صبري يرموبيش أوغلو، الجنرال السابق للقوات المسلحة التركية والأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي التركي، في مقابلةٍ أُجرِيت معه قبل بضع سنوات، فإنَّ جهاز المخابرات التركي كان مسؤولًا عن تسليح القوات شبه العسكرية القبرصية التركية وقصف القبارصة الأتراك. كان لبعضها تأثيرٌ جيد في إثارة الاضطرابات وبناء الأساس للتدخّل المحتمل. وقد تمَّ إلقاء اللوم بشكلٍ مباشر في تفجير مسجدَي البيرقدار والعميرية في نيقوسيا في 25 آذار (مارس) 1962 على منظمة المقاومة القبرصية اليونانية “إيووكا” (EOKA)، من أجل زرعِ بذورِ الانقسام بين مجتمعات الجزيرة. وقبل ذلك ببضع سنوات، أثار انفجارُ قنبلة في العام 1958 خارج القنصلية التركية في نيقوسيا اشتباكات عنيفة بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك. وقد عزّزت هذه العمليات السرية الصدع بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين قبل أحداث العامين 1963 و1974. وتُسلّطُ هذه القضية الضوءَ على الدور المُتنامي لعمليات الاستخبارات السرية في جغرافيتها المباشرة، فيما اعتبره الأتراك قضية داخلية قريبة، وتؤكد الاستخدام المبكر للعمل السري في السياسة الخارجية التركية المعاصرة.
بحلول نهاية الحرب الباردة، خضع المشهد الجيوسياسي العالمي لتحوّلٍ جذري، وكذلك الحال مع التركيز الاستخباراتي التركي. لقد تطلب تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور ديناميكيات دولية جديدة إعادة التقييم والانتقال في العمليات الاستخباراتية. وتكيّفت السياسة الخارجية التركية خلال هذه الفترة مع هذه التحديات والفرص الجديدة، عاكسةً البيئة الجيوسياسية المتغيِّرة.
حتى قبل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، كانت تركيا تتعامل مع حملة إرهابية نشطة لحزب العمال الكردستاني. ومع ذلك، فإنَّ تركيز مجتمع الاستخبارات التركي على التهديدات المحلية لم يمنع العمليات خارج المنطقة. وقد تم التعبير عن ذلك بشكل واضح في تسليم زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من نيروبي في العام 1999.
ومثلها كمثل أعضاء آخرين في حلف شمال الأطلسي، واجهت تركيا تحوّلًا كبيرًا في المشهد الأمني مع هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) على الولايات المتحدة والاستخدام الأول للمادة الخامسة من حلف شمال الأطلسي. وعلى الرُغم من امتلاكها لقدر هائل من الخبرة في مكافحة الإرهاب، فقد شهدت الفترة من 2001 إلى 2020 ارتفاعًا خاصًا في التهديدات الإرهابية وغير المتكافئة المُوَسَّعة. وقد استلزم هذا تطورًا في مجتمع الاستخبارات التركي، مما أثّرَ بشكلٍ كبير في سياستها الخارجية لتتماشى بشكل أوثق مع مبادرات مكافحة الإرهاب العالمية والديناميكيات الإقليمية. لقد لعبت المؤسّسات المتكاملة، مثل جهاز الاستخبارات الوطنية، فضلًا عن وكالات الأمن والاستخبارات الأخرى مثل رئيس الأركان العامة، ووزارة الداخلية، ووزارة الخارجية، ووكيل وزارة النظام العام والأمن، دورًا محوريًا في هذا التحوُّل. وتعكس أدوارها ومساهماتها التَكَيُّفية التحدّيات المحلية والدولية المتغيّرة التي تواجه الأمن التركي. وفي هذا السياق التاريخي، تُمهّدُ الطريق لفَهمِ التطوّرات اللاحقة في الاستخبارات التركية وتداعياتها الأوسع نطاقًا.
الانتقال والإصلاح: عصر هاكان فيدان
لم يكن تعيين هاكان فيدان، المعروف بولائه لأردوغان، يشير في البداية إلى تغييرٍ كبير. بالمعنى الدقيق للكلمة، لم يكن جهازُ الاستخبارات الوطنية تابعًا لوزارة الدفاع. مع ذلك، تاريخيًا، كانت جميع القيادات العليا تقريبًا تأتي من الفروع العسكرية. لكن فيدان كان منذ فترة طويلة يستعد للمنصب والتغيير في بنية الاستخبارات التركية وتركيزها. في الواقع، قارنت أطروحته للماجستير في العام 1999 مجتمع الاستخبارات التركية بمجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. بدأ فيدان إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات الوطنية على غرار خطته لعام 1999 من خلال دفع جهاز الاستخبارات الوطنية إلى طليعة السياسة الخارجية التركية، ما أدى إلى إنشاء إدارة العمليات الخارجية في العام 2012 واستيعاب دور الاستخبارات الإشارية للجيش.
بحلول العام 2014، تمّ ترسيخُ هذا الأمر قانونيًا عندما أقرَّ البرلمان التركي قانونًا يمنح جهاز الاستخبارات الوطنية مزيدًا من الاستقلال وإعادة تنظيم هيكل التقارير الخاص به. كان الهدف من ذلك معالجة المخاوف بشأن الهيمنة العسكرية والادّعاءات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان خلال القيادة العسكرية السابقة. وكانت لهذا التغيير ثلاثة تأثيرات رئيسة في جهاز الاستخبارات الوطني:
- إعادة التركيز على أولويات الاستخبارات. تقليديًا، كان جهاز الاستخبارات الوطني يعمل في مجال الاستخبارات الأجنبية لأنه لم تكن هناك وكالة أخرى قابلة للتطبيق والقيام بذلك. والآن أصبح يشمل رسميًا تفويضًا أوسع لجمع المعلومات الأجنبية.
- تدابير الشفافية والمساءلة لمنع إساءة استخدام السلطة وضمان العمل ضمن الحدود القانونية. وكان أحد التدابير البارزة إنشاء منصب مفتش عام مستقل داخل جهاز الاستخبارات الوطني، مما يسمح بالتحقيقات الداخلية ومراقبة أنشطة الوكالة للامتثال القانوني والأخلاقي.
- تضمّنت هذه الرقابة أيضًا إنشاء لجان برلمانية مُكَلَّفة بمراقبة أنشطة جهاز الاستخبارات الوطني. كانت هذه هي المرة الأولى التي تلعبُ فيها لجانٌ مدنية مُنتخبة دورًا في الرقابة على الاستخبارات من خلال مراجعة وتقييم أداء جهاز الاستخبارات الوطني، وتدقيق ميزانيته، وتوفير منتدى للمناقشة العامة حول مسائل الاستخبارات.
تحت قيادة هاكان فيدان
كَلّفَ أردوغان فيدان “بمهمّاتٍ خاصة” لم يكن حتى الوزراء داخل مجلس الوزراء على علمٍ بها. وهذا يُفسّرُ لماذا وصفه أردوغان ذات مرة بأنه “حارسُ أسراري … حارسُ أسرار الدولة”. وشملت هذه المهام، في البداية، المفاوضات السرّية مع حزب العمال الكردستاني المحظور في أوسلو وإمرالي بين العامين 2006 و2011. وعلى الرُغم من الصعود والهبوط، أسفرت هذه المفاوضات في نهاية المطاف عن الرسالة التاريخية التي وجهها عبدالله أوجلان في آذار (مارس) 2013 وبدء “عملية الحل”. وكان هذا إلى حدٍّ بعيد الجهد الأكثر شمولًا وطموحًا من جانب تركيا لحلِّ القضية الكردية التي استمرت عقودًا من خلال المفاوضات وليس النضال المسلّح.
لكن فيدان لم يكن مُنخرطًا في محادثات السلام فحسب. في العام 2011، اندلعت الحرب الأهلية السورية وتحوّلت بسرعةٍ كبيرة، على حدِّ تعبير مدير سابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إلى “تشرنوبيل جيوسياسية” مع انخراط العديد من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية في صراع مميت. وبعد أن انتهى نداء أردوغان العلني لبشار الأسد من أجل الإصلاحات والمصالحة إلى طريق مسدود، قررت أنقرة دعم المتمرّدين سرًا داخل الجيش السوري الحرّ للإطاحة بنظام الأسد.
وعلى الرُغم من التحفّظات الأميركية المفتوحة، سلّمت تركيا الأسلحة والأموال ــ وحتى التدريب لبعضِ الجماعات المسلّحة التي لم تخضع لفحص وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مثل أحرار الشام أو لواء السلطان مراد. لكن كانت هناك مشكلةٌ حرجة واحدة في هذا النهج: فهؤلاء المتمرّدون، على الرُغم من كونهم أكثر فتكًا في ساحة المعركة من الجيش السوري الحرّ اللامركزي، كانوا يتألفون في الأساس من المُتَشدّدين الذين تعاونوا أحيانًا مع تنظيم “القاعدة” في سوريا. وقد تمَّ هذا الدعم للمتمرّدين بعيدًا من الأضواء العامة من قبل الوكالة الوحيدة التي يُمكن لأردوغان الاعتماد عليها من أجل السرية والفعالية: جهاز الاستخبارات التركية. وعلى الرُغم من بذل الرئيس التركي قصارى جهده لعدم التسريب، فقد تمَّ توثيق هذه العمليات السرية ونشرها في نهاية المطاف من قبل الصحافيين الذين تم اعتقالهم في وقت لاحق.
لم تظهر هذه التسريبات للصحافة من فراغ؛ بل كانت مرتبطة بالصراع في الظلّ بين أردوغان وحليفه السابق ضد الكماليين ــ فتح الله غولن. ولقد عبّرت هذه الصراعات على السلطة عن نفسها بالفعل في احتجاجات حديقة جيزي في العام 2013 وفضائح الفساد في العام 2014.
جهاز الاستخبارات الوطنية بعد الانقلاب
مع ذلك، بلغت هذه الصراعات ذروتها في تموز (يوليو) 2016 عندما شنّت مجموعةٌ من الضباط العسكريين المؤيّدين لغولن انقلابًا (فشل في نهاية المطاف) ضد أردوغان. ولا يزال دور فيدان في هذه الأحداث مُحاطًا بالغموض؛ فعلى الرُغم من كونه رئيس جهاز الاستخبارات في البلاد، إلّا أنه فشل في اكتشافِ أيِّ علاماتٍ على الانقلاب الوشيك، وبالتالي مَنع حدوثه. ومهما كانت الحال، فقد كان مقر جهاز الاستخبارات الوطنية يُنظَرُ إليه باعتباره مركزًا عصبيًا من قِبَل مخططي الانقلاب، وكان هدفا لطائراتهم المروحية (الهليكوبتر). وعلى الرغم من جهودهم، لم يتمكن الانقلابيون من القبض على فيدان ــ رُغم أنهم أسروا خلوصي أكار، رئيس هيئة الأركان العامة.
أدت هذه الهجمات ضد مقر جهاز الاستخبارات الوطني إلى إصلاحٍ شامل له. فأوّلًا، أطلق العنان لتطهيرٍ شاملٍ للمُتعاطفين الحقيقيين والمشتبه بهم مع الانقلابيين داخل جهاز الاستخبارات الوطني، حيث انتهى المطاف بآلاف العملاء إلى السجن. وثانيًا، تمَّ بناءُ مقرٍّ جديد لجهاز الاستخبارات الوطني، أُطلِقَ عليه اسم “كايل” أو “القلعة”، خارج أنقرة على مساحة 5,000 فدان من الأراضي بجدران يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار وغيرها من الإجراءات الأمنية المُكَثَّفة. وثالثًا، تم توسيع جهاز الاستخبارات الوطني ليشمل قدرة شبه عسكرية سرية. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، لم يعد جهاز الاستخبارات الوطني مجرّد وكالة استخبارات تجمعُ وتُحلّلُ المعلومات الاستخباراتية أو تتعاون مع أجهزةٍ أخرى في العمليات السرية. إنَّ هذا التوجُّه من شأنه أن يُطوّرَ فرعًا شبه عسكري يتمتع بقدرات عمل مباشرة خاصة به، وهو ما من شأنه أن يسمح لجهاز المخابرات الوطنية بالعمل بشكلٍ مستقل في المسارح العسكرية. وقد مَكَّنَ هذا جهاز المخابرات الوطنية من العمل بشكل مستقل عن الجيش التركي والتحوُّل إلى “خيار ثالث” أكثر تنوّعًا في السياسة الخارجية التركية على غرار وكالة المخابرات المركزية الأميركية.
لم يكن تأثير الارتدادات العسكرية الجديدة لجهاز المخابرات الوطني التركي عميقًا في أي مكان كما كان في سوريا. فقد انخرط هذا الجهاز بالفعل في عملياتٍ سرّية داخل سوريا ضد نظام الأسد. وفرض أردوغان سيطرةً مطلقة على الجيش منذ العام 2011، ولم يعارض أحدٌ خططه الخاصة بإنشاءِ منطقةٍ عازلة في شمال سوريا. وبعد شهرٍ واحد فقط من الانقلاب، بدأت تركيا عملية “درع الفرات” في محاولةٍ لطرد “داعش” من جرابلس؛ ولكن في الواقع، كانت تركيا تنوي قطع الطريق على أكراد عفرين عن أولئك الموجودين في منبج. وكان فيدان على الصفحة نفسها مع أردوغان: في وقتٍ مبكر من آذار (مارس) 2014، اقترح عملية تحت عَلَمٍ كاذبٍ مُزيَّفٍ لتبرير توغّلٍ مُسلَّح في شمال سوريا. وخلال الفترة نفسها التي تكشّفت فيها عملية “درع الفرات”، بذلَ فيدان جهودًا كبيرة لتعزيز التمرّد داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة الأكراد في شمال سوريا؛ ولكن هذه الجماعات المسلحة العربية والكردية الموالية لتركيا (مثل لواء أحفاد صلاح الدين) فشلت، وبالتالي اختفت من المشهد.
في منتصف العام 2015، كانت للديناميكيات المتغيّرة في محافظة إدلب آثارٌ في الاستقرار الإقليمي. فضلًا عن ذلك، اعتبرت تركيا هؤلاء المتشددين شرًّا أقل بكثير من وحدات حماية الشعب، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، على الرُغم من الاعتراضات العلنية من جانب الولايات المتحدة. كان لجهاز المخابرات التركية دورٌ فعّال في تأسيس الجيش الوطني السوري في كانون الأول (ديسمبر) 2017 – والذي شكّل المَظَلَّة للجماعات المسلحة المناهضة ل”داعش” ووحدات حماية الشعب (مثل فرقة حمزة وفرقة المعتصم). وقد احتفظ جهاز المخابرات التركية بمعاملة تفضيلية للتركمان في سوريا داخل الجيش الوطني السوري المُشَكَّل حديثًا. وبمرور الوقت، شكلت هذه الجماعات المسلحة ذات الغالبية التركمانية نواة المرتزقة الذين وظفهم جهاز المخابرات التركية في مسارح الحرب خارج سوريا نفسها.
بعد عملية “درع الفرات” (2016-2017)، تدخلت تركيا مرة أخرى في شمال سوريا ثلاث مرات: مرّتان ضد الأكراد (2018 و2019)، ومرة ضد نظام الأسد (2020) لتعزيز منطقتها العازلة على طول حدودها الجنوبية. استخدمت تركيا هؤلاء المتمردين كمساعدين أو وكلاء لحروبها ضد وحدات حماية الشعب والأسد؛ وضمنت المخابرات التركية التزام قادة المتمردين بالخط؛ وأولئك الذين لم يمتثلوا، تم استبدالهم ببساطة بآخرين مطيعين.
التحديات والقضايا التي تواجه المخابرات التركية
ستخدُمُ هذه الشبكات السرية في إدلب وشمال سوريا تركيا جيدًا في تدخّلاتها في مسارح الحرب الأخرى. في أواخر العام 2019، قامت المخابرات التركية بتجنيد ونقل آلاف المتمردين من سوريا إلى غرب ليبيا كمرتزقة من أجل رفع الحصار عن طرابلس الذي كانت تفرضه قوات الجنرال خليفة حفتر. في الواقع، كانت الخسائر الوحيدة التي أبلغت عنها تركيا على الإطلاق في عملية “عاصفة السلام” في ليبيا تشمل عميلًا ومترجمًا للمخابرات التركية. تكرّرت القصة نفسها في حرب كاراباخ الثانية: رتبت المخابرات التركية لتجنيد ونقل هؤلاء المتمردين من سوريا (أو ليبيا) إلى جبال أذربيجان حيث تم استخدامهم في موجات بشرية لاجتياح المواقع العسكرية الأرمينية.
بعبارةٍ أخرى، عملت المخابرات التركية كرأسِ حربة في عقيدة السياسة التي نفذها أردوغان من عملية “غصن الزيتون” في العام 2018 فصاعدًا: وهي “الحرب بالوكالة”. في هذه النسخة على الطريقة التركية، عمل المتمرّدون أو المرتزقة من سوريا كبدائل بشرية مع الطائرات المسَيّرة (خصوصًا بيرقدار TB2 الشهيرة عالميًا الآن) كبدائل تكنولوجية. لقد كان جهاز المخابرات الوطنية عنصرًا أساسيًا في كلتا النسختين من الوكلاء: فقد قام بتجنيد المتمردين كوكلاء، من ناحية، وزوّدَ الطائرات المسيرة بالمعلومات الاستخباراتية الضرورية لتنفيذ عمليات القتل المستهدفة، من ناحية أخرى.
مع ذلك، ظهرت ثلاثة تحدّيات نتيجةً للاستخدام المستمر للعمليات السرية:
- كان الشاغل الرئيس يدور حول الترخيص السياسي للأنشطة السرية لجهاز الاستخبارات الوطني، بتوجيهٍ من الرئاسة. وقد أثارت هذه العمليات مناقشات مكثفة داخل البرلمان التركي بشأن الرقابة المناسبة لجهاز الاستخبارات.
- ثانيًا، واجه الوكلاء في كثير من الأحيان اتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد المدنيين في شمال سوريا، وخصوصًا في عفرين. وقد أدى عجز جهاز الاستخبارات الوطني أو إحجامه عن السيطرة على هذه الميليشيات غير المنضبطة إلى تشويه سمعة المنظمة.
- أخيرًا، تسبب انخراط تركيا مع الميليشيات المتشددة في شمال سوريا في إثارة المخاوف في كل من واشنطن وموسكو.
بالإضافة إلى ذلك، نظّمَ جهاز الاستخبارات الوطني حملةً شعواء ضد أنصار الإمام المنفي اختياريًا، فتح الله غولن، في جميع أنحاء العالم في أعقاب الانقلاب الفاشل. وقد أسفرت هذه الملاحقة عن عمليات تسليم بدون مراعاة الإجراءات القانونية الواجبة من بلدان عدة (مثل كازاخستان ومولدوفا)، ووفقًا لشهادات الضحايا أنفسهم، التعذيب والحبس الانفرادي في “مواقع سوداء”. وقد أدت هذه البرامج السرية، التي تديرها المخابرات التركية حصريًا، إلى توتر العلاقات بين تركيا والغرب.
لم تكن عمليات التسليم هذه هي الحالات الوحيدة التي أدت فيها تصرفات جهاز الاستخبارات الوطني التركي إلى توتّرِ علاقاته التقليدية مع الدول الغربية والدول المتحالفة مع الغرب. فقد أكدت مثل هذه الأنشطة على الأهمية المتزايدة لدور العمليات الاستخباراتية السرية في تشكيل السياسة الخارجية التركية. ويؤكد هذا التغيير على التحوُّلِ المحوري نحو موقفٍ أكثر حزمًا واستقلالية في الاستراتيجية الدولية لتركيا.
وتُمثّلُ العمليات السرية التركية في شمال سوريا مثالًا آخر. فخلال العام 2023، استهدفت الاستخبارات الوطنية التركية كل من القيادة العسكرية والمدنية للأكراد بعملائها وطائراتها المسيرة. وفي نيسان (أبريل) 2023، أدت ضربة بطائرة مسيرة تديرها الاستخبارات الوطنية التركية إلى تحييد مظلوم كوباني – القائد العام لوحدات حماية الشعب الكردية/قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا. ولم تكن محاولة قتل حليف معروف للولايات المتحدة هي الإهانة الوحيدة لواشنطن: في ذلك الوقت، كان كوباني متمركزًا في قاعدة عسكرية أميركية في شمال سوريا، وبالتالي، تعرضت سلامة مشاة البحرية الأميركية للخطر. وقد دفع هذا الهجوم الولايات المتحدة إلى تقديم شكوى ــ علنًا وفي الخفاء ــ تجاه تركيا. ولكن هذا لم يفعل الكثير لردع جهاز المخابرات التركي. والواقع أن عملاء جهاز المخابرات التركي يواصلون إثارة القبائل العربية المتمردة في دير الزور ضد الأكراد إلى الحدّ الذي أدى إلى اندلاع انتفاضة مسلحة ــباءت بالفشل في نهاية المطاف ــ بين آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) 2023.
مستقبل الاستخبارات التركية
فاز أردوغان في الانتخابات الرئاسية في أيار (مايو) 2023 على الرُغم من تحالف أحزاب المعارضة الستة. وعيَّن “حارس الأسرار” الموثوق به، فيدان، في منصب وزير الخارجية. وتولى إبراهيم كالين، مستشار الأمن القومي، منصب رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية. وأشارت هذه التغييرات إلى أنَّ الصقورَ سوف يحكمون قضايا الاستخبارات والديبلوماسية.
والواقع أن هذا كان واضحًا في العمليات الجارية في شمال العراق وسوريا. في العام 2023، قامت المخابرات التركية بتحييد 201 مقاتل من حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في 181 عملية سرية شملت استخدام الطائرات المسيرة ودمرت 45 هدفًا للبنية التحتية الحيوية (مثل آبار النفط في شمال سوريا). وقد حدثت هذه العمليات على الرُغم من احتجاجات واشنطن التي أسفرت عن حادثة “الطائرة المسيرة” في تشرين الأول (أكتوبر) 2023 عندما أسقطت الولايات المتحدة طائرة مسيرة تركية لحماية جنودها في شمال سوريا. ومع ذلك، لم يفعل هذا الحادث الكثير لردع المخابرات التركية، التي واصلت حملتها من عمليات القتل المستهدفة.
إن تعيين إبراهيم كالين رئيسًا جديدًا لجهاز الاستخبارات الوطني التركي يُمثّل تحوّلًا كبيرًا آخر في المشهد الاستخباراتي والسياسة الخارجية التركية منذ العام 2010. ويحمل كالين خلفيةً مُميزة لدوره الجديد كرئيس للاستخبارات، حيث عمل سابقًا كمستشار رئاسي كبير ومتحدث باسم الرئيس.
وقد يشير ترقية كالين إلى رئيس جهاز الاستخبارات الوطني التركي إلى تحوُّلٍ دقيق في الاتجاه الاستراتيجي للاستخبارات التركية. ونظرًا لدوره السابق، فمن المتوقع أن يحافظ كالين على محاذاةٍ وثيقة مع أهداف السياسة الخارجية لأردوغان. وقد تؤدّي هذه المحاذاة إلى استراتيجيةٍ أكثر تزامنًا وتماسكًا بين المكتب الرئاسي وعمليات الاستخبارات، مما قد يعزز فعالية السياسة الخارجية التركية، وخصوصًا مع تولّي فيدان الآن منصب وزير الخارجية.
ويشير انخراط كالين العميق في الأدوار الديبلوماسية والاستشارية إلى التركيز المحتمل على دمج نتائج الاستخبارات بشكل أكثر مباشرة في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية. وقد يؤدي هذا إلى استخدام أكثر استباقية واستراتيجية للمخابرات في تشكيل العلاقات الدولية لتركيا، وخصوصًا في تعاملاتها مع المناطق المجاورة والقوى العالمية.
ومن الجدير بالذكر أن فيدان وكالين يشتركان في الرؤية نفسها مع أردوغان بشأن مكانة تركيا في هذه البيئة الدولية المتغيرة باستمرار: أي أنَّ تركيا لا ينبغي لها أن تتمسّك بتوجهاتها القديمة نحو الغرب بل أن تنحاز إلى القوى الأوروبية-الآسيوية الصاعدة مثل روسيا والصين واللتان، مثل أردوغان، تتحديان الوضع الراهن الحالي.
مستقبل العمليات السرية لجهاز الاستخبارات الوطنية
من المُرَجَّح أن يواصلَ جهاز الاستخبارات الوطنية تحت قيادة كالين دوره النشط في العمليات السرية، والتي كانت جانبًا مهمًّا من السياسة الخارجية التركية الحازمة في عهد أردوغان. ومن المتوقع أن تظلَّ هذه العمليات، وخصوصًا تلك التي تهدف إلى مكافحة الإرهاب وحماية المصالح الوطنية، أولوية. ومع ذلك، قد يختلف نهج كالين في مثل هذه العمليات عن نهج سلفه، حيث قد يُركّز بشكل أكبر على جمع المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية وأقل على العمليات البارزة، اعتمادًا على المشهد الجيوسياسي المتطوِّر.
وقد تشهد فترة كالين أيضًا التركيز المستمر على التقدّم التكنولوجي في مجال الاستخبارات، خصوصًا في مجال الاستخبارات الإلكترونية وقدرات المراقبة. وهذا من شأنه أن يتماشى مع الاتجاه العالمي المتمثّل في الاعتماد المتزايد على الوسائل التكنولوجية لجمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها.
الخلاصة
إنَّ أحدَ التحدّيات الأساسية الذي سيواجهه كالين هو التعامل مع الديناميكيات الإقليمية المعقَّدة، وخصوصًا في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط. وسوف تشكل كيفية إدارته للعلاقات مع اللاعبين الرئيسيين في هذه المناطق، مع تعزيز مصالح تركيا، جانبًا بالغ الأهمية من فترة ولايته. بالإضافة إلى ذلك، سوف يحتاج كالين إلى معالجة الطبيعة المتطوّرة للتهديدات الأمنية، بما في ذلك التهديدات السيبرانية والمشهد المتغيّر للإرهاب والتطرّف. وسوف يكون تحقيق التوازن بين أساليب الاستخبارات التقليدية والأساليب المُبتكَرة أمرًا أساسيًا لمواجهة هذه التحدّيات بشكلٍ فعال.
إنَّ تعيين كالين كرئيسٍ جديد لجهاز الاستخبارات الوطنية يُمثّلُ لحظةً محورية بالنسبة إلى الاستخبارات التركية. وتشير خلفيته وعلاقاته الوثيقة بالرئاسة إلى تحوّلٍ مُحتمل في التركيز العملياتي والاستراتيجي للمنظمة. ومع تولي كالين لهذا الدور، فإنَّ قراراته واستراتيجياته لن تُشكّلَ المسار المستقبلي لجهاز الاستخبارات الوطنية فحسب، بل ستلعب أيضًا دورًا مهمًّا في السياسة الخارجية التركية وعملياتها السرية. وسوف تكون قيادته مفيدة في تحديد كيفية تعامل تركيا مع بيئتها الإقليمية والدولية المعقَّدة في السنوات المقبلة.
- الدكتور جون هاتزادوني هو رئيس برنامج في أكاديمية ربدان، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة.
- الدكتور سبيريدون بلاكوداس هو أستاذ مساعد في أكاديمية ربدان، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة.
- كُتِب هذا التقرير بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.