نظامُ “الحربِ الباردة” الجديد آخِذٌ في الاستقرار
الدكتور ناصيف حتّي*
كثيرون حَذّروا، كما حذَّرنا، من أنَّ منطقَ الحربِ الباردة الذي طبعَ النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية وسقطَ مع انهيارِ الاتحاد السوفياتي ومع التداعياتِ التغيُّرية الكبرى لذلك الانهيار، أخذَ بالاستقرار كسمةٍ اساسيةٍ تطبعُ النظامَ الدولي الجديد. النظامُ الذي ما زالَ في طورِ التشكُّلِ ولم تستَقِر قواعده بعد، والعالمُ ما زالَ في حالةٍ انتقاليةٍ تُوصَفُ ب”نظامِ ما بعدَ الحرب الباردة”.
أحداثٌ ثلاثة جرت أخيرًا تؤكّدُ على ذلك. أوَّلًا، المؤتمرُ الدولي الذي استضافته سويسرا لصُنعِ السلام في أوكرانيا ولم تُدعَ إليهِ روسيا وقاطعته الصين الشعبية، لم تُوَقِّع على بيانه الختامي أطرافٌ دولية عدة من “الجنوب العالمي” التي تتَّخذُ موقفًا وسطيًا بهدفِ دَعمِ التسويةِ السلمية لهذا النزاع المُستَمِر والمُتَصاعِد، باعتبارِ أنّهُ غيرُ مُتوازنٍ في الموقفِ الذي حمله، وخصوصًا مع عدمِ دعوة روسيا للمشاركة.
ثانيًا، قمة “مجموعة السبع” أو قمة القوى الغربية، التي تضمُّ اليابان أيضًا باعتبارها غربيةً في السياسة، أخذت موقفًا مُتَشَدِّدًا تجاهَ روسيا في سياقِ السياسة التي تتبعها هذه القوى الغربية في الحربِ الدائرة في أوكرانيا، وذلك من أبرزِ الأمثلة على ما أشرنا إليهِ حولَ طبيعةِ الصراعِ الدائرِ والذي يُغذّي ويتغذّى على الحرب المفتوحة في الزمان والتي يُحذِّرُ البعضُ من أنها قد تتوسّعُ في المكان.
الحدثُ الثالث تَمثَّلَ في القمة الروسية-الكورية الشمالية مع زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى “بيونغيانغ” وتوقِيعِ اتفاق التعاون الاستراتيجي الشامل بين الدولتين: مؤشِّرٌ في سياسة المواجهة التي تعتمدها روسيا ضدّ ما تعتبرهُ محاولةِ عزلها أو إضعاف دورها في منطقة المحيط الهادىء، المنطقة التي تحظى بأهمّيةٍ استراتيجيةٍ كبرى لموسكو في “لُعبةِ الأُمم”.
وعلى صعيدٍ آخر يجري الحديثُ عن ازديادِ قلقِ الصين الشعبية من محاولاتٍ أميركية غربية لتعزيزِ قدراتِ تايوان على مختلف الصُعُدِ، ولو دائمًا تحت عنوان عدم المسِّ بمبدَإِ “الصين الواحدة” في الوقت التي تؤدّي هذه السياسة إلى تعزيزِ تَوَجُّهِ تايوان عمليًا وفعليًا ضدّ هذه السياسة. وإذا كانَ الغزوُ الصيني الشامل أو الحصارُ العسكري لتايوان مُستَبعَدًا في ظلِّ الأوضاعِ القائمة، فقد حذّرَ البعضُ من أنَّ الصين الشعبية قد تلجأُ، إذا ما شعرت بأنَّ هناكَ مخاطرَ على رؤيتها لمُستقبل العلاقات مع تايوان، كما تراها أو تتطلّعُ إليها بكين، إلى القيام بما يُعرَفُ ب”الحجر الصحّي الكامل أو الجُزئي” على تايوان لقَطعِ أو تصعيبِ الوصولِ إليها. سياسةٌ حذّرَ البعضُ من أنَّ بكين قد تلجأُ إليها إذا ما شعرت مُستَقبَلًا أنَّ الخطوطَ الحُمر التي حدّدتها للاستمرارِ في إدارةِ الوَضعِ القائم، وحماية أمنها القومي، يجري تخطّيها بشكلٍ تدرُّجي: إنّهُ عنصرٌ آخرٌ يدفعُ إلى تعزيزِ منطقِ الحرب الباردة. قد يَحصَلُ ذلك مع تحوُّلِ الصين الشعبية من توظيف موقعها الذي يزدادُ قوةً وأهمّيةً في الجغرافيا الاقتصادية العالمية، لتعزيزِ موقعها في الجغرافيا السياسية في النظام الدولي الذي يَتشَكّلُ. ونرى إرهاصاتَ هذا الدورِ في مُختلفِ مناطق “الجنوب العالمي” في لُعبَةِ التنافُسِ مع الولايات المتحدة وبشكلٍ أكثر مرونةً مع روسيا الاتحادية.
صحيحٌ أنَّ “المسرحَ الاستراتيجي الأوروبي” عادَ عبرَ الحربِ في أوكرانيا وحَوَّلَها إلى “احتلال” موقع الساحة الرئيسة في الصراعِ الدولي المُتشَابك والمُتصاعِد، ولكن “مسرح المُحيطَين” الهادىء والأطلسي مُرَشَّحٌ للعبِ دورٍ أساسي في صياغةِ نظامِ الحرب الباردة الجديدة. النظامُ الذي يتبلورُ أكثر اليوم كما يدلُّ على ذلك غيابُ أيِّ أفُقٍ فعليٍّ حتى الآن للتوصُّلِ إلى حلٍّ سياسيٍّ سلميٍّ تفاوُضي للحربِ الأوكرانية. وللتذكيرِ، فإنَّ الحلَّ لا يُمكِنُ أن يَمُرَّ عبر انتصارِ طرفٍ على الآخر، وهو أمرٌ مستحيلٌ بسببِ طبيعةِ الحربِ والصراعِ التي تُواكبها أيضًا الأطرافُ المشاركة بأشكالٍ مختلفة.
الحلُّ، كما يذكرُ خبراءٌ كثيرون، يستدعي أخذَ المصالح الحيوية لطرفَي الحرب والنزاع بعينِ الاعتبار. حلٌّ قوامُهُ الحفاظُ على الوحدةِ التُرابية لأوكرانيا وإيجادُ صيغةٍ للسلطة تقومُ على احترامِ التنوُّعِ المُجتَمَعي، كما يدلُّ على ذلك تاريخُ بعضِ المناطق، تحتَ سقفِ الدولة الواحدة المُوَحَّدة بالطبع، وأخيرًا تحييد أوكرانيا عن الصراع الاستراتيجي بسبب دقّةِ موقعها الجغرافي أيضًا. فلا يُمكِنُ أن تكونَ عضوًا في منظمة حلف شمال الأطلسي لما يُشَكّلهُ ذلك من تهديدٍ للأمن الاستراتيجي والوطني الروسي. تهديدٌ ترفضهُ، أيٌّا كانت، القيادة التي تجلسُ في الكرملين.
ويبدو أنَّ أوكرانيا أمامَ احتمالَين حاليًا، إمّا أن تبقى نقطةً ساخنةً ومُشتَعِلة في الصراعِ الدولي الذي يتبلور بين الأقطاب القائمين والعائدين أو أن تُشَكِّلَ نموذجًا مُستَقبليًا للتعايش السلمي الواقعي في “لعبة الامم” المُتجدّدة ببعضِ عناوينها وليس بطبيعتها.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).