رهانُ شي على القُدرةِ التَصنيعية لا يزالُ من المُمكِنِ أن يُؤتيَ ثمارهُ في الصين
السياسةُ التي تستمِرُّ في تعزيزِ هيمنة الصين على صناعات التصدير الجديدة وتحقيق مكاسب لسمعتها في “الجنوب العالمي” هي أكثر أهمية بالنسبة إلى الرئيس شي، وخصوصًا في عامٍ حيث يُركّزُ العديدُ من الحكومات الغربية على التحدّيات الداخلية.
ماري غالاغر*
يتزايدُ التَرَقُّبُ للجلسةِ الكاملة الثالثة التي سيعقدُها الحزب الشيوعي الصيني الشهر المقبل. يُعقَدُ الإجتماع عادةً في الجُزء الأول من مؤتمر الحزب الذي يستمر خمس سنوات لتحديدِ وتوضيحِ أجندةِ الإصلاح لتلك الفترة من قيادة الحزب. وكان تأخيرُهُ في العام الفائت سببًا في إثارةِ المخاوف بشأنِ الافتقارِ الملحوظِ إلى الحاجةِ المُلِحّة إلى تَبَنّي أساليب جديدة خلال الفترة الثالثة للرئيس شي جين بينغ في منصبه لتحقيقِ استقرارِ الاقتصاد الصيني بعد سنواتٍ من النموِّ المُخَيِّبِ للآمال.
ويتناقَضُ هذا الافتقار إلى الإلحاح مع المناقشة الصريحة إلى حدٍّ مُدهش بين صُنّاعِ السياساتِ والأكاديميين الصينيين حولَ الحاجةِ إلى إصلاحاتٍ كبيرةٍ لتعزيزِ النمو، واستعادةِ الثقة ومعالجة المشاكل القديمة مثل تدابير الحماية المحلّية والتفاوت الإقليمي. على سبيل المثال، دعا وزير المالية السابق لو جيوي إلى إلغاءِ نظامِ تسجيلِ الأُسَر، المعروف باسم “هوكو”، والذي يُقَسِّمُ بشكلٍ صارخ سكّانَ الريف والحضر في الصين إلى أنظمةِ رعايةٍ اجتماعية مختلفة. كما دعا كثيرون إلى إدخالِ تغييراتٍ كبيرة على النظام الضريبي في الصين لتخفيفِ عبء الولايات المركزية غير المُمَوَّلة على الحكومات المحلية. ويبدو أنَّ الإجماعَ العام هو أنَّ شي قد اتخذ حتى الآن منعطفًا خاطئًا في توجيه الاقتصاد الصيني، والأملُ هو أن تُقدِّمَ الجلسةُ المكتملة الثالثة إشاراتٍ قد تؤدّي إلى “الإصلاح والانفتاح” –وهو المصطلح المُستخدَم منذ العام 1978 للإشارة إلى تحرير الاقتصاد الصيني في مرحلةِ ما بعد ماو– وعودتهما بقوّة.
أولئكَ الذين يتوقّعون إصلاحاتٍ كبيرة في هذا الاتجاه من المُرَجَّحِ أن يُصابوا بخيبةِ أمل. تستمرُّ الخطب المُطَّلِعة والمُلخَّصات الرسمية لسياساتِ شي في التركيز على التوسُّعِ في جانبِ العَرضِ من خلالِ الاستثمار في الصناعة والتصنيع. لهذا السبب، من المُتوَقَّعِ أن تؤكّدَ الجلسةُ المُكتَمِلةُ الثالثة رَفضَ شي لأجندةِ الإصلاح التي تُركّز بشكلٍ أكثر مباشرة على توسيع الطلب المحلّي، والتحويلات المباشِرة إلى الأُسَر، والإصلاح البنيوي الأساسي للمؤسّسات التي تتسبّب في فجوات التفاوت وعدم المساواة والتنمية الإقليمية.
ولكن، من الخطَإِ أن نستنتجَ أنَّ شي، برفضِهِ للإصلاح والانفتاح، يرفضُ الإصلاحَ والانفتاح. الواقع أنَّ تركيزَ شي على الاستثمار الصناعي والتصنيع من الممكن أن يُحقّقَ فوائد محلية ودولية. بدلًا من أن تكون الصين مُنغَلِقة، فإنها ستكونُ مُنفَتِحة بطريقةٍ مختلفة، مع التركيز بشكلٍ أكبر على “الجنوب العالمي” وشركاء بكين الإيديولوجيين، مثل روسيا وكوريا الشمالية. إنَّ صنّاعَ السياسات والنقاد الغربيين الذين يرفضون مناورَة شي يستهينون بالمزايا التي قد تسمح للصين الاستمرارَ في المنافسة اقتصاديًا، في حين تتفوّقُ على الحكومات الغربية سياسيًا في تطوير علاقاتٍ وثيقةٍ مع بقيّةِ دول “الجنوب العالمي”.
هناكَ مَنطِقٌ سياسيٌّ داخليٌّ للمسارِ الذي اختاره شي، والذي كتبتُ عنه في مقالات سابقة. مع ذلك، هناكَ أيضًا مزايا قوية تتمتّعُ بها بكين، اقتصاديًا وسياسيًا، في تنفيذِ رؤيةٍ جديدةٍ لعَولَمة الصين، مبنية على العلاقات مع دولِ “الجنوب العالمي”. وقد تمَّ عرضُ أهمية هذه الدول بالنسبة إلى السياسة الخارجية للصين في مؤتمرِ عملِ السياسة الخارجية المركزي في كانون الأول (ديسمبر) 2023. في ذلك الاجتماع، أكّدَ شي من جديد على دورِ الصين كزعيمةٍ ومُمثّلةٍ ل”الجنوب العالمي” في ما صوَّره على أنه صراعٌ ضد الولايات المتحدة ونظامها العالمي المُهَيمِن. هذه أكثر من مجرّدِ نقاطٍ للحديث عن “حرب باردة جديدة”؛ يمكن دعمها بمزايا اقتصادية ملموسة التي قد تدعم مساعي الصين في مواصلة التركيز على التصنيع في حين تُقدّمُ أيضًا فُرَصَ الاستثمار اللازمة لدولٍ مهمّة في “الجنوب العالمي”. كما إنَّ مركزية السلطة التي يَفرُضُها شي جين بينغ والقيود الصارمة المفروضة على المعارضة المفتوحة تعملُ أيضًا على عزله عن الضغوط السياسية الداخلية.
من بين هذه المزايا الاقتصادية أنَّ الصين تُمثّلُ الآن 35% من الناتج الصناعي العالمي. وكما أوجزَ تقريرٌ بحثي صادرٌ عن “مركز أبحاث السياسات الاقتصادية” في بريطانيا، فإنَّ الصين هي “القوة التصنيعية العظمى الوحيدة في العالم”، حيثُ يتجاوزُ إنتاجها الدول التسع التي تليها مُجتَمعةً. وهذه البراعة التصنيعية هي ما يُعوِّلُ عليها شي لإخراجِ الصين من الركود الاقتصادي، وخصوصًا من خلال الاستثمار في الصناعات التي من شأنها ترسيخ مكانة الصين الرائدة في صناعات التكنولوجيا الخضراء، مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية والبطاريات. كما تعملُ هَيمنةُ الصين على تصنيع السلع على زيادة نفوذها على الدول، بما فيها الولايات المتحدة، التي تعتمد على الصادرات الصينية في العديد من السلع الاستهلاكية.
من المُمكِن أيضًا استخدام هذه الميزة الاقتصادية لبناءِ شراكاتٍ استراتيجية في أجزاءٍ أُخرى من العالم، مما يُقلّلُ من اعتمادِ الصين الإجمالي على الولايات المتحدة في الصادرات. والأهم من ذلك، يمكن للصين أن تعرضَ تقاسُمَ هذه القوة التصنيعية مع دولٍ أُخرى من خلال الاستثمارات الصينية الواردة، وتوطين سلاسل التوريد وبناء حصة الشركات الصينية في السوق في أسواقٍ جديدةٍ مهمّة. في بعضِ الحالات، يُمكِنُ استخدامُ التوطين لتقسيم الكتل التجارية؛ على سبيل المثال، سيؤدّي فتحُ مصانع سيارات كهربائية في المجر والمكسيك إلى تعقيد جهود بروكسل وواشنطن، على التوالي، لمُعاقبةِ الصين على الإعانات التي تقدمها لمصنّعيها المَحلّيين في هذا القطاع.
في وقتٍ حيثُ تواجه الحكومات الغربية تحدّياتٍ انتخابيةٍ غير مسبوقة، بما في ذلك الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا وألمانيا، فإنَّ النظامَ السياسي الاستبدادي اللامركزي في الصين يُوَفّرُ للزعيم الصيني قدرًا أعظم من العزلة عن المخاوف السياسية الداخلية. ونتيجةً لهذا فقد يستطيع أن يرفضَ نصيحة الأكاديميين والنقاد بشأن التعاملِ مع المشاكل الداخلية التي تواجهها الصين في حين يسعى بدلًا من ذلك إلى التركيزِ على قوة الصين في مجال التصنيع. وعلى النقيضِ من الحكومات الغربية، التي يتعيَّن عليها أن تتعاملَ مع ردودِ أفعالِ الناخبين العنيفة ضد تكاليف التحوّلِ الأخضرِ والهجرة، فإنَّ شي لن يواجهَ ضغوطًا اجتماعية تُذكَر لتجنُّب إصلاحاتِ إعادةِ التوزيع التي تحتاجُ إليها الصين بشدّة للحَدِّ من فجوة التفاوت وعدم المساواة.
يُشَكِّلُ كلٌّ من النموِّ البطيء والمشاكل المتعلِّقة بأنظمةِ التقاعُد والتأمين الصحي تحدّياتٍ اقتصاديةٍ حقيقية في الصين اليوم، ولكن هيكل الحُكم اللامركزي في البلاد يَضَعُ عبءَ حَلِّ مثل هذه المخاوف على عاتقِ الحكومات المحلية، وليس بكين. إنَّ الشكاوى من أنَّ الصين تُنفِقُ أكثر مما ينبغي على مشاريع خارجية مثل مبادرة الحزام والطريق أو مبادرة شي للتنمية العالمية الجديدة سوفَ يجري إسكاتها، إن لم يتم قمعها أصلًا بشكلٍ كامل.
لا ينبغي لنا أن نُخطئَ في أنَّ الجلسة المكتملة الثالثة التي تدعم رؤية شي من غير المرجح أن تكونَ مُفيدةٌ للمواطنين الصينيين، الذين سيواجهون انكماشَ الاقتصادِ المحلي، وقطاع العقارات الكاسد، وتغييرًا طفيفًا في دولةِ الرفاهة الضحلة في الصين. لكنَّ السياسةَ التي تستمرُّ في تعزيز هَيمنةِ الصين على صناعاتِ التصديرِ الجديدة وتحقيق مكاسب لسمعتها في “الجنوب العالمي” هي أكثر أهمّية بالنسبة إلى الرئيس شي، وخصوصًا في عامٍ حيث يُركّزُ العديدُ من الحكومات الغربية على التحدّيات الداخلية.
- ماري غالاغر هي العميدة المقبلة لكلية كيو للشؤون العالمية في جامعة نوتردام في ولاية إنديانا الأميركية. يُمكن متابعتها عبر منصة (X) على: @MaryGao
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.