بالنسبةِ إلى الجماعاتِ المُتَمَرِّدة، الزواجُ هو في الواقع أداةٌ حاسِمة

أولئك الذينَ يعملون على منعِ العنفِ السياسي وإعادةِ تأهيل المُتمرّدين السابقين سوف يستفيدون من النظر في الطُرُقِ التي تؤثّر فيها ممارسات الزواج على دخول المتمرّدين الأفراد إلى التمرّد وحياتهم بعد الحرب.

“بوكو حرام” في نيجيريا: تخطف الفتيات وتجبرهن على الزواج من أعضائها.

هيلاري ماتفيس*

كظاهرةٍ شبهِ عالمية التي تُشَكّلُ العلاقاتُ الأُسَرِية، يقعُ الزواج عند تقاطعِ إيديولوجياتٍ إجتماعية وسياسية وتجارب شخصية. ونظرًا إلى أنَّ العديدَ من الجماعات المُتمرّدة تسعى إلى إعادة هيكلة المجتمع بشكلٍ جذري، فليس من المُستَغربِ أن تهتمَّ هذه الجماعات أيضًا بتنظيم الزواج.

مع ذلك، فإنّ الكثير من التغطية الصحافية لزواجِ المُتمرّدين تَتَّسِمُ بالإثارة والسطحية. ولنتأمّل هنا على سبيل المثال التغطية الإعلامية للشابات الأوروبيات اللواتي سافرنَ إلى سوريا للزواج من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” في العقد الفائت، والتي صوَّرَتَهُنَّ غالبًا على أنهنَّ ساذجات وماديات ويستحقنَّ الازدراء. وقد تجاهلت هذه الأوصاف حقيقةً مَفادها أنه في حين استخدمَ تنظيم “الدولة الإسلامية” المكاسب المادية المُرتَبِطة بالزواج لجذب الشابات للانضمامِ إلى التنظيم، فإنَّ الزواجَ في حدِّ ذاته كان أيضًا جُزءًا أساسيًا من كيفية تنظيم وتشكيل تمرّده وإنشاء مجتمعه “المثالي”. وينطبق الشيء نفسه على العديد من الجماعات المتمرّدة الأخرى.

وكما ذكرتُ بالتفصيل في كتابٍ جديد بعنوان “في الحب وفي الحرب: الزواج لدى الجماعات المسلّحة غير التابعة للدولة”، فإنَّ الزواج يُشكّلُ جانبًا بالغ الأهمية من أنشطة المتمرّدين في زمن الحرب، ولكنه لا يحظى بالتقدير الكافي. تُستخدَمُ سياسات الزواج لجذب المُجنّدين وتنظيم أنشطتهم اليومية. إنَّ إيلاءَ اهتمامٍ أوثق لكيفية تعامل الجماعات المتمرّدة مع مسألة الزواج بين الأعضاء أمرٌ بالغ الأهمية لصانعي السياسات الذين يسعون إلى فَهمٍ أفضل لديناميات الصراع والمشهد الاجتماعي في مرحلة ما بعد الصراع.

التجنيد في الجماعات المتمرّدة

بينما تُركّزُ التغطية الإعلامية المُثيرة في كثيرٍ من الأحيان على ظاهرة العرائس المتمرّدات، فإنَّ هذا منظورٌ ضيّق يتجاهل الأهمية الاجتماعية الأوسع للزواج. وكما ذَكَرتُ بالتفصيل في مكانٍ آخر، يُعَدُّ الزواجُ شرطًا مهمًّا لمرحلة البلوغ والذي غالبًا ما يظل بعيدًا من متناول الشباب والرجال المُهَمّشين اقتصاديًا. ولذلك، اجتذبت الجماعات المسلّحة غير الحكومية الأعضاء من خلال وعدهم بمساعدتهم على الزواج -وبالتالي الوصول إلى مرحلة البلوغ- من خلال مجموعة واسعة من أساليب الدعم.

وقد ساعدَ عددٌ من الجماعات المتمرّدة المُجَنَّدين على دَفعِ مهر العروس المطلوب -السلع أو الأموال التي يُقدّمها العريس للعروس وأسرتها- من أجل الزواج، في حين قامت مجموعاتٌ أخرى بتأمين مهور عروس أقل لأعضائها. كما قامت مجموعاتٌ أُخرى بتزويدهم بالزوجات. لا يتمُّ التوصّل إلى هذه التكتيكات بشكلٍ عشوائي. بل على العكس من ذلك، فهي تعكس غالبًا تحليلًا ذكيًا للمظالم الاجتماعية المحلية. ووفقًا للكاتب والمعلق بول ريتشاردز، فإنَّ “الجبهة الثورية المتحدة” في سيراليون “استهدفت عمدًا عنق الزجاجة في الزواج الريفي” لتجنيد الأعضاء. ولتكتيكات التجنيد القائمة على الزواج آثار على جوانب أخرى من سلوك الجماعات المتمردة أيضًا. على سبيل المثال، كان وعد “بوكو حرام” بالزواج الميسور التكلفة كوسيلة للتجنيد عاملًا مساهمًا في عمليات الاختطاف السيئة السمعة التي قامت بها الجماعة للنساء والفتيات، اللواتي تمَّ تزويجهنَّ قسرًا في كثير من الأحيان من أعضاءٍ ذكور.

واجتذبت الجماعات المتمردة أيضًا المجنّدات من الإناث من خلال ممارسات الزواج، وذلك في كثير من الأحيان من خلال الإشارة إلى أنَّ النساءَ يُمكنهنَّ تحسين حياتهنَّ من خلال الزواج من أعضاء الجماعة. على سبيل المثال، أخبرت امرأة بلجيكية مؤلفي دراسة عن تنظيم “الدولة الإسلامية” أنَّ أحدَ القائمين على التجنيد عبر الإنترنت أخبرها أنَّ “النساءَ يتمتّعنَ بمكانةٍ هناك وأنهنَّ ثمينات القيمة. قال إنني سأمتلك فيللا، وإنني سأمتلك خيولًا… قال إنني سأكون غنيةً، حتى بالألماس”.

لكن إذا كانت التغطية الإعلامية تُركّزُ في كثير من الأحيان على التصويرِ المُثير للمكوّنات المادية للتجنيد، فإنَّ المرأة ذاتها تُوَضّحُ طريقةً أخرى تستخدم بها الجماعات المسلحة الزواج كأداةٍ للتجنيد، حيث انتهى بها الأمر بالانضمام إلى الجماعة لأنها “كانت تبحث عن شريكٍ يُحافِظُ على عهوده ويكون صادقًا مع الإسلام وزواجهما”. تمكّنت الجماعات المسلحة غير الحكومية من مختلف المشارب من تجنيد الرجال والنساء في منظمّاتها من خلال الاستفادة من الإحباطات المُماثلة بشأن كيفية مُمارسة الزواج في مجتمعاتها. ويمكن للمرء أن يرى أيضًا هذه الديناميكيات بين المنظمات في الغرب التي تؤدي أنشطتها إلى زعزعة الاستقرار ولكنها لا ترقى إلى مستوى التمرّد. والواقع أن انتشار محتوى “الزوجة التقليدية” بين المجتمعات اليمينية على الإنترنت يظهر مدى فعالية المناشدات القائمة على الحنين إلى الأدوار التقليدية بين الجنسين.

الإدارة اليومية للزواج

وكما وَصَفتُ في كتابي “في الحب وفي الحرب”، يمكن أن تكون مناهج الجماعات المتمرّدة في الزواج بمثابةِ وسيلةٍ لها لصياغة مجتمعها المثالي وفرض الأدوار والعلاقات بين الجنسَين التي تقررها. على سبيل المثال، لاحَظَت إحدى الدراسات التي أُجرِيَت عن “جيش الرب للمقاومة” في أوغندا أنَّ “تنظيم العلاقات الجنسية أصبح مبدأً تنظيميًا… وأصبح الزواج القسري وسيلةً لإعادة إنتاج –أو ولادة- الأمة”. لقد عزّزت زيجات المتمرّدين هيكلية الجماعة وعزّزت مشروعها السياسي.

وتؤثر ممارسات الزواج أيضًا في سمعة الجماعة المسلّحة بين المدنيين، مع ما يترتب على ذلك من آثارٍ واضحة على قدراتها القتالية. على سبيل المثال، وفقًا للأكاديمية والمديرة السابقة لمركز الدراسات الفلبينية في جامعة “هاواي”، فينا لانزونا، كانت العلاقات خارج إطار الزواج التي أقامها أعضاء تمرّد “هوكبالهاب” -وهو تمرّد شيوعي نشط في الفلبين من العام 1942 إلى العام 1954- مع النساء في معسكرات المتمرّدين مصدر قلق بالغ لقادة المتمردين. ردًا على ذلك، بدأت قيادة المتمرّدين ممارسة “زواج الهوك”. ومن خلال القيام بذلك، يلاحظ أستاذ علم الاجتماع في جامعة نيويورك، جيف غودوين، أنَّ “الحركة تُعيدُ صياغة حفل الزواج إلى تأكيدٍ طقسي ليس فقط على ولاء الزوجين لبعضهما البعض، ولكن أيضًا على التزامهما المُشترك بالنضال”. وساعدت هذه السياسة الهوك، كما كانوا معروفين، على الحفاظ على الشرعية في أعين المدنيين وإعادة تأكيد التزام المتمرّدين بالقضية.

يمكن أن تكون لزواج المتمردين أيضًا آثارٌ عميقة على إدارة شؤون الأفراد. على سبيل المثال، شجّع التمرّد الماوي في نيبال الزواج بين صفوفه، ولكنه بعد ذلك قام بفصل المتزوِّجين عن بعضهم البعض. كانت هذه الممارسة تهدف إلى منع المودّة الزوجية من تقويض الروح الثورية للأعضاء، مع تثبيطهم أيضًا عن الانشقاق عن المنظمة التي سمحت بعلاقتهم.

ولا يستطيع زعماء المتمرّدين أن يتجنّبوا هذه الأعباء اللوجستية الصعبة بمجرّد منع الزواج. لم تسمح القوات المسلحة الثورية الكولومبية، (أو فارك)، بالزواج بين أعضائها، ومع ذلك كان عليها أن تعمل على تطوير وإنفاذ بنية تحتية قوية لإدارة العلاقات الرومانسية التي نشأت بالفعل. كان القادة في المجموعة مسؤولين عن منح “الإذن للمقاتلين بأخذ رفيق السرير” أو “رفيق النوم” في المساء، وهي ممارسة لا يمكن أن تحدث إلّا في أيامٍ محددة، حتى لا يتدخل ذلك مع القتال. علاوة على ذلك، كان لدى المتمردين نظام منع حمل إلزامي لمنع الحمل من تقويض قدرة المرأة على المساهمة في القضية.

الآثار المترتّبة على السياسة

أدرك بعض صنّاع السياسات أهمية الزواج بالنسبة إلى المتمرّدين، وصمّموا تدخّلات وبرامج وفقًا لذلك. على سبيل المثال، أدمجت المملكة العربية السعودية الزواج في نهجها لمكافحة الإرهاب. وكما روى الكاتب والمؤرّخ البريطاني روبرت لاسي في كتابه “داخل المملكة”: إحدى الركائز الأساسية لبرنامج إعادة تأهيل المتطرّفين هو جعل “المستفيدين”، كما يطلق عليهم، يستقرّون مع زوجاتهم في أسرع وقت ممكن. وتدفع وزارة الداخلية لكل مستفيد غير متزوج مبلغ 60 ألف ريال (حوالي 18 ألف دولار)، وهو المعدل السائد للمهر، أو مهر العروس. تقوم الأسرة بترتيب الزواج، وكلما استطاع ذلك، يحضر [الأمير آنذاك محمد بن سلمان] لحضور حفل الزفاف”.

من خلال إدراك الأهمية الاجتماعية للزواج والعقبات الاقتصادية الهائلة التي يواجهها بعض الشباب في الزواج، فإنَّ النهجَ السعودي يُعَدُّ خطوة في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، فإن التدخّلات في سوق الزواج يمكن أن تحمل معها مجموعة من العواقب غير المقصودة. على سبيل المثال، عندما قام الزعماء الدينيون والقبليون في منطقة لاكاني بإقليم خوست في أفغانستان بتنظيم تكاليف الزفاف من خلال فرض حدود قصوى على مهر العروس، من بين أمور أخرى، “أدى ذلك إلى قدوم الناس إلى لاكاني من أجزاء أخرى من الإقليم من أجل العثور على فتيات محليات يمكنهن الزواج من أبنائهم مقابل مهر قليل”. وبالمثل، ينبغي لواضعي السياسات أن يدركوا أنه لا يوجد حلٌّ بسيط وجاهز يمكنهم استخدامه لمنع التجنيد على أساس الزواج في الجماعات المسلحة. إن الزواج ظاهرة اجتماعية معقّدة، والتدخلات في أسواق الزواج يجب أن تأخذ في الاعتبار مجموعة متنوعة من العواقب غير المقصودة التي قد تنجم عن ذلك، خشية أن تؤدي عن غير قصد إلى خلق مظالم جديدة مزعزعة للاستقرار.

بالإضافة إلى صياغة السياسات بعناية مُصَمَّمة لمنع المظالم المتعلقة بالزواج من تحفيز التجنيد في التمرّد، يجب أن تأخذ برامج ما بعد الصراع في الاعتبار آثار الزواج في زمن الحرب على آفاق المتمرّدين بعد التسريح. ربما يكون هذا مهمًا بشكلٍ خاص بالنسبة إلى المتمردات. وقد يتم شطب النساء اللواتي تزوَّجن في الجماعات المتمرّدة باعتبارهن مجرد “زوجات”، وبالتالي يصبحن غير مؤهلات للحصول على مزايا التسريح المقدمة للمقاتلين. وهذا يمكن أن يعيق قدرتهن على إعادة الاندماج في مجتمع ما بعد الحرب، اجتماعيًا واقتصاديًا.

قد تواجه المتمرّدات أيضًا وصمة عار بسبب الزيجات التي تخالف التقاليد في زمن الحرب. على سبيل المثال، واجه العديد من النساء الماويات اللواتي تزوجن من خارج طبقتهن أثناء الحرب الأهلية في نيبال، بتشجيع من قيادات المتمردين، عدم الثقة من عائلاتهن بسبب تحدّيهنَّ للنظام الطبقي في البلاد.

في سياقات أخرى، انحلت حالات الزواج في زمن الحرب بعد الحرب. في كتابها “نساء بلا سلاح: بناءات المقاتلات الجندرية في إريتريا وجنوب السودان”، تشير الأكاديمية الألمانية المتخصصة في شمال شرق أفريقيا ودراسات الجندرة الاجتماعية، أنيت ويبر، إلى “ارتفاع معدل الطلاق بين المقاتلين والمقاتلات في إريتريا ما بعد الحرب، حيث يتزوج الرجال من نساء غير مقاتلات بدلًا من ذلك”. إن برامج ما بعد الحرب التي تفشل في أخذ خصائص الزواج في زمن الحرب بعين الاعتبار، واستقبال هذه الزيجات بعد الحرب، ستحتوي على نقاطٍ عمياء يمكن أن تقوّض قدرة المتمرّدات على العودة إلى الحياة المدنية.

وكما كتبتُ في كتاب  في “الحب وفي الحرب”: “في ظاهر الأمر، يبدو الحب والحرب مجالين مُتناقضَين للدراسة، ويرتبطان بشكلٍ مشهور بالقول المأثور الذي يقول إنَّ كلَّ شيءٍ عادلٌ في كلتا الحالتين. ومع ذلك، فكما أن هناك قوانين حرب، فإن الطرق التي يُمارس بها الحب تخضع أيضًا لتنظيم”.

أولئك الذين يعملون على منع العنف السياسي وإعادة تأهيل المتمردين السابقين سوف يستفيدون من النظر في الطرق التي تؤثر فيها ممارسات الزواج على دخول المتمرّدين الأفراد إلى التمرّد وحياتهم بعد الحرب.

  • هيلاري ماتفيس هي أستاذة مساعدة في كلية جوزيف كوربل للدراسات الدولية بجامعة دنفر. وهي أيضًا زميلة في مجلس العلاقات الخارجية، وزميلة أبحاث في مختبر أبحاث تنفيذ السياسات الدولية، وزميلة غير مقيمة في برنامج أفريقيا التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS). “في الحب وفي الحرب” هو كتابها الثاني.
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وترجمه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى