سعد الحريري: ما لَهُ وما عَلَيه (الأخيرة): فَتحُ الثغور من بابِ “النأي بالنفس”
سليمان الفرزلي*
لم تَطُل المُصالحة التي أجراها سعد الحريري مع الحكم السوري كثيرًا، لأنَّ التحضيرَ للحربِ في سوريا، بهَدَفِ تغييرِ النظامِ القائمِ في دمشق، داهَمَ معظم دولِ الجوار السوري. كانت هناك تخميناتٌ بأنَّ نجاحَ ما سُمِّي “الربيع العربي” في قلب الأنظمة القائمة آنذاك في تونس، وليبيا، ومصر، ربما سيواصل عصفه في بعض الدول العربية الأخرى، وتحديدًا في الدول العربية الإفريقية. قلَّةٌ من المراقبين خطر لها، في ذلك الوقت، أنَّ “عاصفة الربيع العربي” ستهبُّ على سوريا.
ومن العوامل التي جعلت المُراقبين يستبعدون نجاحَ عمليةٍ من هذا النوع في سوريا، قوة وتماسك الجيش السوري، وتجذُّر النظام السياسي القائم هناك قرابة نصف قرن تقريبًا، ووجود القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، مما سيجعل روسيا طرفًا في الموضوع، من مشاركة عسكرية مباشرة على الأرض، إلى خوضِ صراعٍ على نطاقٍ عالمي.
وعندما بدأ التحرّكُ باتجاه سوريا، وتوزّعت الأدوار الإقليمية، الأطلسية والخليجية، صار لزامًا على سعد الحريري أن يأخُذَ المسارَ الخليجي (بصفته السعودية)، مما جعل القوى اللبنانية المُوالية لسوريا، أن تنسحبَ من حكومته، فسقطت في لحظة وجوده مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما في البيت الأبيض. وهكذا انتقلَ الحكم في لبنان إلى الرجل المُتمرّس بملء الفراغات، نجيب ميقاتي، الذي شكّلَ حكومته تحت شعار تضليلي هو “النأي بالنفس”.
وكان هذا الإعلان عن “النأيِ بالنفس”، في الحكومة اللبنانية البديلة من حكومة الحريري المُستقيلة، مُريحًا للحريري، لأنه لو بقي رئيسًا للحكومة وقتئذٍ، لما كان في مقدوره أن يسمحَ بفَتحِ الثغور اللبنانية على سوريا، ولأنَّ أحدًا لن يلحظَ فَتحَ الثغور في ظل حكومةٍ شعارها “النأي بالنفس”. وقد لعبت قوى 14 آذار/مارس، المحسوبة على الحريري، أو المحسوب هو عليها، دورًا في التضليل الهادف الى التغطية والتعمية، بأن نكرت وجود قوّات من الإسلاميين التكفيريين المُتطرّفين في الجرود الشرقية على الحدود مع سوريا، بل قام ممثلون عن 14 آذار/مارس بزياراتٍ إلى بلدة عرسال في تلك الجرود لإثبات عدم وجود هؤلاء التكفيريين.
وبعدما انكشفت الأمور في العلن، وصارت بواخر السلاح، وقوافل الإرهابيين تمر عبر موانئ وثغور لبنانية، مما وضع لبنان أمام خطر حرب أهلية جديدة، ابتعد نشاط الحريري عن لبنان، واتّخَذَ “حزب الله” في المقابل خطوةً مُماثلة بأن اختارَ أن يسدَّ الثغور اللبنانية المفتوحة على سوريا من الجانب السوري، لأنَّ سدَّها من الجانب اللبناني كان سيؤدّي الى تصادُمٍ داخلي يُنذِرُ بحربٍ أهلية (سنيَّة–شيعيَّة هذه المرة) أخطر فتكًا بلبنان من الحرب الأهلية السابقة. ولهذا أعلن السيد حسن نصر الله الأمين العام ل”حزب الله”، مُوَجِّهًا خطابه الى الفريق المُعارض، ومنهم “تيار المستقبل”، بقوله: “إنَّ مَن يُريدُ أن يُقاتلنا فليُقاتلنا على الأرض السوريَّة”.
بقي سعد الحريري في موقفه المُعارض للنظام السوري، وبقي نشاطه في هذا الاتجاه، لكن ليس من الأراضي اللبنانية، وليس من الأراضي السورية أيضًا، بل انتقلَ نشاطه إلى الثغور التركية، في منطقة الحدود بين تركيا وسوريا، مُمَثَّلًا بالنائب عقاب صقر عضو كتلته النيابية. وعندما انكشفَ نشاط هذا الأخير إلى العلن، أعلن أنَّ وجوده على الحدود التركية “غايته توزيع البطانيات وعلب الحليب” على المُحتاجين في سوريا. وتلك صيغةٌ لنفي تعاطيه مع المُسلّحين المعارضين للنظام السوري، من باب “توزيع السلاح والمال”.
وقد يكون من باب التخمين الافتراض بأنَّ ما أصابَ سعد الحريري في المملكة العربية السعودية قبل سنوات، ونقل مقرِّه من المملكة إلى دولة الإمارات، يتعلَّق في جانبٍ منه بما حدث خلال الحرب السوريَّة. وحتى هذا الانتقال من الرياض إلى أبو ظبي، يبدو وكأن فيه “قطبةً مخفيَّةً”. ذلك أن الأمير محمد بن سلمان، الرجل القوي في السعودية، والشيخ محمد بن زايد، الرجل القوي في الإمارات، كانا في ذلك الوقت على تفاهمٍ تام وكأنهما توأم. وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن اعتبار انتقال الحريري إلى أبو ظبي، أنه يحملُ تأويلًا في غير محلّه.
يُضافُ إلى ذلك، أن دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية كانتا في طليعة الدول الخليجية التي سارعت إلى إعادة فتح سفاراتها في دمشق، إيذانًا بالمصالحة مع النظام السوري، والدليل على ذلك أنَّ الرئيس السوري بشار الأسد قام، منذ سنتين (19 آذار/مارس 2022) بأول زيارة له إلى دولة عربية منذ اندلاع الحرب في سوريا في العام 2011. كما حضر القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي في الرياض برئاسة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول بأنَّ سعد الحريري، من مقرّه الراهن في أبو ظبي، له مكانٌ غيابيٌ محفوظٌ في المملكة العربية السعودية، واستطرادًا، ليس هناك ما يمنع أن يكونَ له موقعٌ غيابيٌّ في دمشق متى حان وقته. وبالتالي، يمكن الاستنتاج، ولو بصورةٍ أوَّليَّة، بأنَّ الزيارة الأخيرة لسعد الحريري إلى بيروت بمناسبة ذكرى اغتيال والده، هي بمثابة “بروفة” للعودة إلى لبنان بصورةٍ نهائية. ومن هذا القبيل، كانت بمثابة “تمرين” لتنشيط قواعده الشعبية وإعادة تأهيلها.
وإذا صحَّ هذا التقدير، فإنَّ سعد الحريري يكون قد اختار هذه المرة أن يكون لبنانيًا، بمعنى أنه سوف يودِّع شخصه “الخليجي”، ويأتي بعائلته للإقامة في بيته في بيروت. وكثيرًا ما تساءل اللبنانيون أثناء وجود سعد الحريري في الحكم باستغراب، كيف أنهم لم يشاهدوا وجه زوجة وأبناء رئيس حكومتهم في بلدهم، وكأنهم لا رابط بينهم وبين الشعب اللبناني، حتى أنَّ بعضَ المُغرِضين زَعَمَ أنَّ إقامة عائلة سعد الحريري خارج لبنان هي “إقامة جبريَّة”، أو أنهم “رهائن” لضمان سلوكه السياسي.
كلُّ اللبنانيين اليوم يُرَحّبون بسعد الحريري عندما يعود إليهم لبنانيًا مثلهم.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com