مُخَطَّطاتُ أوروبا للنفطِ الليبي تُغذّي عَدَمَ الاستقرار
في غياب أي تقدم في الوضع السياسي في ليبيا، فإنَّ الجهود التي تبذلها أوروبا لإقامة شراكات في مجال الطاقة هناك قد تنتهي في نهاية المطاف إلى تقويض الاستقرار الذي تسعى ظاهريًا إلى دعمه.
محمّد سليم*
ثلاثةُ عشر عامًا مرّت مُنذُ انتفاضة “الربيع العربي” المحورية في ليبيا في شباط (فبراير) 2011، ومع ذلك لا تزال البلاد عالقة في شبكة من الخلاف السياسي والفساد المستشري والميليشيات الصاعدة التي تحوّلت فعليًا إلى جهاتٍ فاعلة شبه حكومية. وسط هذا المشهد المُجَزَّأ، تسعى الحكومات الأوروبية إلى تعميق شراكاتها في مجال النفط والغاز مع ليبيا، وذلك إلى حدٍّ كبير لتنويع مصادر الطاقة بعيدًا من إمدادات الطاقة الروسية. ومع ذلك، فمن خلال إهمال هذه العوامل الداخلية، قد تُعرِّضُ للخطر أهدافها الخاصة وكذلك مسار ليبيا نحو الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي.
في تذكيرٍ صارخٍ بحالتها المحفوفة بالمخاطر، حذّرَ المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا، عبد الله باثيلي، مجلس الأمن أخيرًا من أنَّ البلادَ تتأرجّحُ على حافة “التفكّك”. وحثَّ زعماء الفصائل المُتناحرة داخل البلاد على تنحية “مصالحهم” جانبًا ومواصلة جُهدٍ جماعي “لاستعادة كرامة وطنهم”.
تعودُ معضلةُ ليبيا إلى الجمودِ السياسي بين الحكومتَين المُتنافستَين في طرابلس في الغرب وسرت في الشرق. على الرُغم من أنَّ أعمالَ العنف كانت في حدّها الأدنى منذ وقف إطلاق النار الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، إلّا أنَّ المواجهة بينهما أخّرت الانتخابات لتوحيد الحكومة التي كان من المُقرَّرِ إجراؤها في الأصل في كانون الأول (ديسمبر) 2021. في غضون ذلك، أعاقت حالة النسيان والإهمال في البلاد احتمالات إحراز أيِّ تقدّمٍ أو نمو.
الإنهيار المأسوي لسدّ درنة في أيلول (سبتمبر) 2023 –والذي وُصف بـ “أحداث 11 أيلول/سبتمبر في ليبيا”، حيث قُدِّرَ عدد الضحايا بما يتراوح بين 5,300 إلى 20 ألف شخص– أثارَ بعض الآمال في أن تضع الحكومتان المتنافستان خلافاتهما جانبًا وتتعاونا من أجل مصلحة البلاد. لكن تلك الآمال لم تدم طويلًا. وبدلًا من ذلك، سعت الفصائل على كلا الجانبين إلى تصوير نفسها على أنها “مُنقذة” ليبيا وتعزيز شعبيتها من خلال استغلال جهود المساعدات والإنعاش.
من ناحية أخرى، تحوّلَ قطاع النفط الليبي رهينةً للمستنقع السياسي، وهو العمود الفقري لاقتصادها، إذ يُشَكّلُ 98% من إيرادات الحكومة و60% من الناتج المحلي الإجمالي. تمتلك البلاد ثاني أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا، كما إنَّ احتياطياتها بالنسبة إلى الفرد هي من بين أعلى المعدلات على مستوى العالم.
لكن على الرُغم من احتياطياتها الهائلة، فقد شهد إنتاج ليبيا من النفط تقلّبًا على مدى العقد الماضي مُتأثّرًا إلى حدٍّ كبير بمسارِ الحرب الأهلية. ومع ذلك، نمت صادراتها بشكل مطرد من أقل بقليل من 300 ألف برميل من النفط الخام يوميًا في العام 2015 إلى ما يزيد قليلًا عن مليون برميل في العام 2021، لتصل إلى متوسط 1.2 مليون برميل يوميًا في العام 2023. وقد حددت المؤسسة الوطنية للنفط الليبية هدفًا طموحًا يبلغ حوالي 2 مليوني برميل يوميًا بحلول العام 2027، لكن الوصول إليه سيتطلب استقرارًا وزيادة الاستثمار – حوالي 17 مليار دولار وفقًا لتقديرات المؤسسة.
من المؤكّد أنَّ الاستثمارَ الدولي سيساعد على تحقيق هذا الهدف. ومع ذلك، وفي خضمّ المفاوضات بين عمالقة الطاقة الأوروبيين والمؤسسة الوطنية للنفط، اغتنمت الفصائل الليبية المُتنافِسة الفُرَص لتوسيع نفوذها والحصول على الامتيازات بنفسها، ما خلق بيئة استثمارية أكثر صعوبة. فقد تمَّ إغلاق خطوط الأنابيب والمرافق القائمة أو التهديد بإغلاقها، الأمر الذي يهدد تدفّق الطاقة إلى أوروبا. علاوةً على ذلك، وصفت وزارة النفط الليبية صفقةً تاريخية بقيمة 8 مليارات دولار تمَّ توقيعها في شباط (فبراير) 2023 بين شركة إيني الإيطالية والمؤسسة الوطنية للنفط، بأنها “غير قانونية”، لأنها لم تُوَقّع عليها حكومة الوحدة الوطنية التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها.
في كانون الثاني (يناير)، أدت الاحتجاجات الشعبية إلى الإغلاق المؤقت لأكبر حقل نفط في ليبيا، حقل الشرارة، الذي لديه القدرة على إنتاج حوالي 300 ألف برميل يوميًا، فضلًا عن حقل الفيل القريب. وبينما أعرب المتظاهرون عن مطالبهم مثل تحسين فرص العمل وإمدادات النفط الكافية للاستخدام المحلي، تُشيرُ تقارير موثوقة إلى أنَّ الاعتصامات كانت في الواقع بأمر من صدّام حفتر، نجل الجنرال خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي” التابع في الأساس لمجلس النواب في طبرق. وتأتي هذه الادعاءات في أعقاب الجهود السابقة لانتزاع امتيازات من المؤسسة الوطنية للنفط وسلطات طرابلس، بهدف زيادة تدفقات الإيرادات إلى حكومة الاستقرار الوطني ومقرها سرت، والتي يدعمها الآن حفتر ومجلس النواب في طبرق.
في الواقع، قامت قوات حفتر بحصار منشآت النفط في الماضي احتجاجًا على ما يسميه الحصّة غير المُتناسبة لحكومة طرابلس من عائدات النفط، على الرغم من أن غالبية احتياطات النفط الليبية موجودة في الشرق. كما تعمل الحُصُر أيضًا كأداةٍ لتعزيزِ مكانته.
لكن في حين أنَّ معقلَ حفتر قد يكون في الشرق، فإن المظلّة الفضفاضة من الميليشيات التي تُشكّلُ قواته تمارس أيضًا نفوذها في جنوب وغرب ليبيا. بل إنَّ الموالين لحفتر موجودون داخل المؤسسة الوطنية للنفط، بما في ذلك رئيسها الحالي فرحات بن جدارة، الذي تم تعيينه في تموز (يوليو) 2022 بعد اتفاقٍ تمَّ التوصّلُ إليه بين حفتر ورئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة. وهذا لا يسلط الضوء فقط على النفوذ غير المباشر الذي يتمتع به حفتر على حكومة الوحدة الوطنية، على الرغم من أنه لا يعترف بها ككيانٍ سياسي، بل يؤكد أيضًا عدم وضوح الخط الفاصل بين الميليشيات والهيئات الرسمية أو المدنية.
إلى جانب حفتر، تُواصِلُ مجموعاتٌ أُخرى استغلالَ الوضعِ الراهن المُجَزَّأ في ليبيا، بما في ذلك في طرابلس. هناك، توجد مجموعات رئيسة ثلاث لا تزال تُهيمن على المشهد هي: جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب؛ وجهاز دعم الاستقرار؛ واللواء 444 قتال. بالإضافة إلى الانخراط في اشتباكات عنيفة في ما بينها، ارتكبت هذه الجماعات مجموعة من الانتهاكات ضد المدنيين والمسؤولين الليبيين، حسبما أفادت منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات غير الحكومية.
ومما يسلّطُ الضوء على التهديدات الإضافية التي يتعرّضُ لها قطاع النفط الليبي، فإنَّ اختطافَ المدير التنفيذي للشركة الوطنية العامة للنقل البحري خالد خليفة التواتي أخيرًا –في أعقابِ حوادث مماثلة مع مسؤولين تنفيذيين سابقين- يؤكّدُ ضعفَ هذا الكيان المُربح بشكلٍ متزايد. وتُعرّضُ هذه الحوادث عمليات القطاع للخطر، مثل إدارة وتوسيع شحنات النفط الخارجية، والتي تُعتبر ضرورية لتعزيز قدرات ليبيا التصديرية.
وكانت ليبيا أيضًا هدفًا للمنافسة الدولية، التي أعاقت لفترةٍ طويلة آمالها في الاستقرار في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”. كانت روسيا أحد حلفاء حفتر الرئيسيين، لكن تُفيد تقارير سرية بأن “مجموعة فاغنر”، الشركة العسكرية الروسية الخاصة، استخدمت البلاد أيضًا كممرٍّ لتهريب النفط الروسي إلى أوروبا على الرُغم من عقوبات الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن هذه السوق السوداء تُقوِّضُ إيرادات ليبيا، وتُعرقلُ الاستثمارات وتشوّه السوق المحلية، مع ما لذلك من تداعياتٍ كبيرة على تطوير صناعة النفط في ليبيا.
الآن يُهدّد النهج الثنائي الذي تتبنّاه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في التعامل مع ليبيا بتقويض الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار، بسبب مواقفها المتباينة والتنافسية في كثيرٍ من الأحيان. وعلى الرُغم من أنَّ فرنسا دعت أخيرًا إلى الاستقرار في ليبيا بعد المناقشات بين المبعوثين الخاصين للأمم المتحدة وفرنسا في شباط (فبراير)، إلّا أنها تسعى في الوقت نفسه إلى تعميق التعاون بين شركة النفط والغاز الفرنسية العملاقة “توتال إنيرجيز” والمؤسسة الوطنية للنفط الليبية. لكن الاتهامات بأنَّ باريس كانت تدعم بالفعل حفتر خلال الحرب الأهلية تعني أنَّ فرنسا لا يُنظَرُ إليها على أنها جهة فاعلة مُحايِدة.
في الوقت نفسه، في عهد رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، نظرت إيطاليا إلى ليبيا باعتبارها شريكًا متوسّطيًا مهمًّا لخطّة “ماتي” التي أطلقتها أخيرًا، والتي تتضمّن التنقيب عن عقودٍ جديدة للغاز والنفط في أفريقيا كجُزءٍ من شراكةٍ أوسع للتنمية الاقتصادية. ومع ذلك، سعت ميلوني، التي خاضت الانتخابات ببرنامجٍ مُناهِضٍ للمهاجرين، إلى التعاون مع الفصائل الليبية لمنع الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا.
الواقع أنَّ سياسة الهجرة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي تضمّنت أيضًا الشراكة مع الميليشيات الليبية، التي تَوَرَّطَ بعضها في تهريب البشر. أشارت تقارير عديدة إلى أن وكالةَ مراقبة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي، “فرونتِكس”، والسلطات المالطية تبادلت المعلومات مع فصيل طارق بن زايد، الذي يديره صدّام حفتر، من أجل منع سفن المهاجرين من مغادرة ليبيا وإعادة أولئك الذين تمكّنوا من القيام بذلك. والنتيجة هي أن الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء لديهما مصلحة في الحدّ من حالة عدم الاستقرار التي تُسبّبها الميليشيات الليبية، ولكنها تسامحت مع فصائل عدة، بل وتعاونت معها من أجل السيطرة على تدفّق طالبي اللجوء إلى أوروبا.
كان هناك بعضُ العلامات على مسارٍ أكثر وعدًا. وبالفعل، بعد الاتفاق مع شركة “ريبسول” الإسبانية، تمكّنَ حقل الشرارة من استئناف الإنتاج بنحو 260 ألف برميل يوميًا في شباط (فبراير). ومع ذلك، فإنَّ مثل هذه الصفقات تشبه إلى حدٍّ كبير وَضعَ ضمادةٍ على جُرحٍ أحدثته رصاصة، في حال تعثّرت الجهود الأوسع لمعالجة الجمود السياسي والأمني في ليبيا.
هناك العديد من الخطوات المُقتَرَحة التي يُمكِنُ للمجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اتخاذها، مثل فرض عقوبات على فصائل مُعَيَّنة لردعها عن تعريض العملية الديموقراطية للخطر. وتشمل التدابير الأخرى التي تمَّ طرحها برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، الذي دعت إليه بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا، لمنح المجتمع المدني المزيد من السيطرة على فصائل الميليشيات.
وقد يساعد تنفيذ مثل هذه التدابير في تمهيد الطريق نحو مستقبلٍ أكثر تفاؤلًا للبلاد، مع تعزيز علاقات أعمق وأكثر إنتاجية بين ليبيا وأوروبا. ولكن في غياب أي تقدّم، فإنَّ الجهود التي تبذلها أوروبا لإقامة شراكات في مجال الطاقة مع ليبيا قد تنتهي في نهاية المطاف إلى تقويض الاستقرار الذي تسعى ظاهريًا إلى دعمه.
- محمّد سليم هو صحافي من أسرة “أسواق العرب” يركّز عمله على شؤون المغرب العربي .
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.