أوقفوا المجاعةَ في غزّة الآن
كابي طبراني*
غزة لا تنزلقُ نحوَ كارثةٍ إنسانية — بل هي بالفعل تعيشها بكلِّ جوارحها. الصورُ الآتية من هناك واضحة: أطفالٌ بعيونٍ غائرة وبطونٍ مُنتَفِخة من سوءِ التغذية الحاد، عائلاتٌ تصطفُّ لساعاتٍ من أجلِ كسرةِ خُبز، ومستشفياتٌ وعياداتٌ طبّية ترفُضُ استقبال المرضى لأنه لم يَعُد لديها ما تُقدِّمه. المجاعةُ لم تَعُد تحذيرًا مستقبليًا، بل أصبحت واقعًا حاضرًا.
هذا الوضعُ هو نتيجةٌ مباشرة لوَقفِ تدفُّقِ المساعدات الإنسانية منذ انهيارِ وَقفِ إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” في آذار (مارس) 2025. مئاتُ الشاحنات المُحَمَّلة بالغذاءِ والدواءِ ومواد الإيواءِ عالقةٌ عند المعابر، مُحاصَرةٌ بقراراتٍ سياسية ومخاوف أمنية. وحتى حين تتحرّكُ القوافل، تُواجِهُ خطرَ النهب من قبل مدنيين يائسين، أو الاستيلاء عليها من قبل “حماس”، أو الهجوم من قبل عصاباتٍ مسلّحة. وتقول منظمات الإغاثة إنَّ غزة تحتاجُ إلى دخولِ مئاتٍ عدّة من الشاحنات يوميًا لتجنُّبِ المجاعة، لكنَّ الأعدادَ في الأشهر الأخيرة لم تَكُن سوى جُزءٍ ضئيل من ذلك.
الأمرُ لا يجب أن يكونَ على هذا النحو. خلالَ السنة والنصف الأولى من الحرب، ورُغمَ القتالِ الشرس، كانت المساعدات الإنسانية —غير الكافية، لكنها مُنتَظمة— تمنعُ غزة من السقوط في المجاعة. لم يكن ذلك مصادفة، بل نتاجُ ديبلوماسيةٍ متواصلة، وضغطٍ دائمٍ على إسرائيل لإبقاء المعابر مفتوحة، وتنسيقٍ مع منظّماتِ الإغاثة الدولية لتحريكِ المواد الأساسية شاحنةً تلوَ الأخرى. كانت العملية مُعَقَّدة، مُحبِطة أحيانًا، لكنها نجحت.
إنَّ الانهيارَ الحالي يُشَكِّلُ دراسةَ حالةٍ لما يَحدثُ عندما يختفي هذا الجهدُ المُستدام.
منذ اليوم الأول لهذه الحرب، كان هناك أمران واضحان: لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد “حماس”، وعليها في الوقت نفسه التزامٌ أخلاقي واستراتيجي بحماية المدنيين والسماح بدخول المساعدات الإنسانية. من دونِ هذا التوازُن، يَفقُدُ العملُ العسكري شرعيته الدولية، ويكون المدنيون هم الضحايا.
إقناعُ إسرائيل بفتحِ مساراتِ المساعدات لم يكن أمرًا سهلًا، خصوصًا في ظلِّ مُعارضةِ أعضاء اليمين المُتطرِّف في حكومة بنيامين نتنياهو لذلك. لكنَّ الضغطَ أثمر: فُتِحَ معبرُ رفح، ثم كرم أبو سالم، ثم ميناء أشدود. وبحلول منتصف العام 2024، كانت مئات الشاحنات تدخل يوميًا. وكان هذا هو الخطَّ الرفيع الذي فصلَ بين الجوع والمجاعة.
بعد وقف إطلاق النار في كانون الثاني (يناير) 2025، ارتفع عدد الشاحنات إلى أكثر من 600 شاحنة يوميًا. لكن مع انهيارِ الهُدنة في آذار (مارس)، أغلقت إسرائيل كل المعابر الإنسانية، في محاولةٍ للضغطِ على “حماس” لإبرامِ صفقةٍ لتبادُل الرهائن. ولأول مرة منذ الأسابيع الأولى للحرب، لم يَدخُل أيُّ طعام أو غذاء على الإطلاق. كانت النتائج فورية: نفاد المخزون، فوضى في الشوارع، وظهور أولى علامات سوء التغذية الواسع النطاق.
عندما استؤنفت المساعدات، كانت عبر “مؤسّسة غزة الإنسانية”، وهي مُنظّمة جديدة مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة ودولة الإمارات. نظريًا، يُمكنها إيصال الغذاء مباشرة إلى المدنيين في مناطق آمنة. عمليًا، لم تَصِل إلّا إلى نحو 20% من السكان. أما الأمم المتحدة والمنظّمات الراسخة الأخرى، فتمَّ تهميشها، وتعرّضت قوافلها للنهب والعنف، وفُرِضَت عليها قيودٌ إسرائيلية. النتيجة كانت مزيجًا قاتلًا من النقص الحاد، والفوضى، وحوادث مميتة في نقاط التوزيع.
إذا كان لغزة أن تتجنَّب الموت الجماعي جوعًا، فلا بُدَّ من القيام بأربع خطوات فورية:
أولًا، يجب ألّا تُستَخدَمُ المساعدات كسلاح. حرمان المدنيين من الغذاء للضغط على “حماس” أمرٌ غير أخلاقي وخاطئ استراتيجيًا. إنه يُهدّدُ حياةَ عشرات الآلاف من الأبرياءِ ويعزلُ إسرائيل دوليًا. يجب إبقاء المعابر مفتوحة، ويجب أن تُراعي قواعدُ الاشتباك سلامةَ المدنيين وعمّال الإغاثة.
ثانيًا، يجب استخدام كل القنوات المُمكنة لتسليم المساعدات. لا تستطيع مؤسّسة غزة الإنسانية وحدها تلبية احتياجات مليوني إنسان، ولا تستطيعُ الأمم المتحدة وحدها ذلك في ظلِّ الفوضى الأمنية الحالية. الحلُّ هو التعاون —بين المؤسسة والأمم المتحدة والجهات الأخرى— سواء بالتوازي أو بالتنسيق المباشر. يجب أن تتدفّقَ المساعدات عبر كل معبر ومسارٍ مُتاح. لا مكانَ لصراعات النفوذ أو الخطوط الحمراء الإيديولوجية بينما الناس يتضوّرون جوعًا.
ثالثًا، يجب أن تقود الولايات المتحدة. حين تضغطُ واشنطن بجدّية وعلى أعلى المستويات، تتحرّكُ الشاحنات. وحين تنسحب، يتوقّف كل شيء. القيادةُ تعني انخراطًا يوميًا من كبارِ المسؤولين، ومتابعة أعداد الشاحنات التي تعبرُ كلَّ يوم، ورفض السماح للأزمات السياسية بإزاحةِ هذا الملف عن الأولويات. التدخُّلُ العرضي لا يُنقذُ الأرواح — وحده الضغط المستمر يفعل ذلك.
وأخيرًا، يجب على حماس إطلاق سراح الرهائن والتخلّي عن الحُكم. هذه الحرب بدأت بقرارٍ مُتَعمَّد من “حماس” لوضع المدنيين في خطر. هي تحتمي بالمدنيين، وتستغلُّ المساعدات، وتُهدّدُ مَن يُقدّمها. على الدول التي لها نفوذ على “حماس” —مثل مصر وقطر وحتى إيران— أن تُوَضِّحَ للحركة أنَّ عرقلتها للإغاثة تُساهِمُ في تجويع مَن تدّعي الدفاع عنهم.
الجدلُ الذي يُهَيمِنُ على النقاشِ الدولي —مَن المسؤول، وأيُّ مسارٍ إغاثي هو “الشرعي”، وهل الفوضى تمنع التوزيع— كلُّهُ ثانوي أمام الحقيقة الأساسية: من دونِ إغاثة واسعة وفورية، سيموتُ آلافٌ آخرون هذا العام من الجوع والمرض والتعرُّض للبرد.
هذه الأزمة قابلة للحل. الغذاء موجود. الشاحنات موجودة. المعابر موجودة. ما ينقصُ هو الإرادة السياسية لاتخاذ القرار الواضح: افتحوا البوّابات وأدخلوا المساعدات.
نحنُ نعلم من خلال التجربة ما يتطلّبهُ الأمر لحماية غزة من المجاعة. الأمرُ لا يحتاج إلى سحر، ولا إلى مثالية. إنه عملٌ ديبلوماسي مُتواصِل، شاقٌ وغير جذّاب. يعني الاتصال بالحلفاء في منتصف الليل، وتهيئة الغطاء السياسي لهم لاتخاذِ قراراتٍ غير شعبية، وقياس التقدُّم بأبسط المؤشرات: كم شاحنة عبرت اليوم؟ كلُّ بوابة مفتوحة لها أهمية. كل شاحنة تتحرّك تعني حياة.
إذا اختارَ العالمُ عدم التحرُّك، ستكونُ النتيجة غير أخلاقية ومُدانة تاريخيًا. غزّة ستجوع أمام أنظارِ الجميع، وستُذكَرُ أسماءُ مَن امتلكوا القدرة على الفعل —ورفضوا— في الصفحات المُظلمة والسوداء من التاريخ.
انتهى وقتُ الجدل. افتحوا المعابر. أغرقوا غزة بالغذاء والدواء. أوقفوا المجاعة قبل أن تَحلَّ الكارثة الأبرز لهذه الحرب.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani