“حزبُ الله” وخطورةُ لعبةِ “الرجل المجنون”
تجربة حرب الإسناد أثبتت أنَّ “حزب الله” لم ينجح في ضبط مسار الصراعات، ما يجعل رهانه على تكتيك “الرجل المجنون” مجازفة قد تنقلب عليه وتحرق الجميع.

ملاك جعفر عباس*
لم يَكُن إعلانُ “حزب الله” رَفضه تسليم سلاحه، والتعامُل مع القرار الصادر عن الحكومة اللبنانية على أنّهُ غير موجود، أمرًا مُفاجِئًا. غيرَ أنَّ المُفارقةَ تكمُنُ في أنَّ الحزبَ لا يزالُ حتى اللحظة مُشارِكًا في هذه الحكومة ولم يَعتكِف أو يستقِل. كما كانت مُتَوَقَّعة -حتى حَدّ المَلَل- المَسيرات “الموتوسيكلية” التي تجوبُ بعض شوارع بيروت في ساعاتٍ مُحدَّدة كل مساء من دونِ أن تتحوَّلَ إلى اعتصامٍ مفتوحٍ، مُكتفيةً بالهتافات الاستفزازية، لأبناءِ الطائفة قبل غيرهم، في مشهدٍ يوحي بفقدان الأعصاب، وكأنَّ المشاركين يبحثون عن أيِّ احتكاكٍ يُبرِّرُ إشعالَ البلاد، فيما يُنتظَر من بقية الأطراف اللبنانية ضبطَ النفس وتفادي الانزلاق نحو الفتنة.
ولم يكن مُفاجِئًا ايضًا التلويح بـ”7 أيار” جديد، لتأديب مَن تجرّأ على المساس بـ”قُدسية السلاح”، رُغمَ أن ذلك لم يترافق مع ظهور مسمدسٍ واحد في الشارع، ولكن مع حملات التخوين لرئيس الحكومة نوّاف سلام التي بلغت حدَّ الدَوسِ على صوره، وصولًا إلى مهاجمة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون على لسان إحدى المناصرات التي توعَّدت بتحويل قصر بعبدا الى حسينية.
وكما كان مُتَوقَّعًا، أُعيدَ إحياءُ وتفعيلُ الخطاب العدائي للمملكة العربية السعودية بوصفها راعية العهد الجديد في لبنان، والاستنجاد بزيارةٍ خاطفة لرئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، مدعومةً بسيل من التصريحات الإيرانية التي تتوعّدُ لبنان وحكومته بالفشل والندم على القرار، وذلك كله استباقًا لزيارة الثُنائي الأميركي توم برّاك ومورغان أورتاغوس. اختار الحزب المكوث في عنق الزجاجة: لم يُوافِق على قرار الحكومة لكنه تجنَّبَ التصعيدَ السياسي، كما لم تصل ردّة فعلِه في الشارع إلى ما ذهب إليه في السابع من أيار (مايو) 2008. فهل يمكن الاستمرار في ضبط الشارع والحفاظ على الستاتيكو السياسي طويلًا؟ وهل سيكون تاريخ 31 آب (أغسطس) فعلًا مفصليًا ليُبنى على الشيء مقتضاه؟
تكتيك “الرجل المجنون” على الطريقة اللبنانية
الواقع أنَّ الحزبَ يُحاولُ أن يتبعَ “نظرية الرجل المجنون” (The Mad Man Theory) في السياسة، وهي تكتيكٌ اعتمده الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون خلال حرب فيتنام، واستلهمه بعد ذلك دونالد ترامب، يقومُ على بناءِ هالةٍ إعلامية حول القائد باعتباره غريب الأطوار، “مجنونٌ” ومتهوّر لا يمكن التنبُّؤ بأفعاله، يمكن ان يُفرط في استخدام القوة إن تجرَّأ خصومه على استفزازه، فيدفعهم للوقاية من شرّه بتقديمِ تنازلات.
وقد حاولَ نيكسون إقناعَ العالم بأنه “متهوّر” يمكن أن يُقدِم على استخدام القنبلة النووية، فشرح ذلك لرئيس موظفيه، هـ. ر. هالدمان، تقريبًا بهذه الصيغة: “أريد أن يعتقدَ الفيتناميون الشماليون أنني وصلتُ إلى مرحلةٍ قد أفعل فيها أي شيء لوقف الحرب. سنُلمّحُ لهم: لأجل الله، أنتم تعرفون أنَّ نيكسون مهووسٌ بمحاربة الشيوعية، ولا يمكننا كبحه إذا غضب — وهو يده على الزر النووي”. الفكرة أنَّ هذا الانطباع بعدم القدرة على التنبؤ سيدفع الخصوم للتفاوض أو التراجع. أما المثال الأبرز فكانت عملية الرمح العملاق (Operation Giant Lance) في العام 1969، حين أمر نيكسون قاذفاتٍ نووية أميركية بالتحليق قرب المجال الجوي السوفياتي للإيحاء بأنه قد يذهب “إلى النهاية” إذا لم تنتهِ الحرب قريبًا.
وقد اتّبعَ ترامب هذا النهج، وإِن بحدٍّة أقل، في تعاطيه مع ملفات كوريا الشمالية وإيران وأوكرانيا، وخصوصًا غزة التي اقترحَ أن يُخليها من سكانها ليحوّلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط. لكن هذا التكتيك يحتاج إلى أن يكونَ مدعومًا بقوّة عسكرية تدميرية حقيقية كتلك التي يمتلكها الجيش الأميركي وبأدواتٍ سياسية مُتشَعِّبة أقلّها فتكًا سلاح العقوبات.
وفي حالة “حزب الله”، ظهر رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد في مقابلته على شاشة “المنار” الجمعة الماضي بأداءٍ يُحاولُ استحضارَ شبح نيكسون وملائكة ترامب، يُبكي ويُضحِك ويُبقي الغموضَ سيّد الموقف، مُطلقًا كلامًا حمّالَ أوجُهٍ، يحمل من التهديد والوعيد أكثر مما يَعِدُ بالاستقرار. وقد احترفَ الحزبُ وقادته وآلته الإعلامية دَوزَنة الأداء وعلو الصوت وحركة الإصبع، وفي مقابلةٍ مضبوطة الإيقاع أعطى رعد انطباعَ “الرجل المجنون” عن الحزب. قال أنَّ قرار الحكومة يفتح طريق كربلاء، وأنَّ باستطاعة الرئيس نوّاف سلام أن يُبلِّطَ البحر قبل أن يتمكّنَ من تسلُّمِ سلاح الحزب، وأن الحزب سينتخب الرئيس نبيه بري في الانتخابات المقبلة حتى في حال وفاته، لتنطلق بعدها الماكينة الإعلامية وجحافل “الموتوسيكلات” تُهدّدُ وتتوعّدُ ويُطلَقُ العنان على صفحات التواصل الاجتماعي وإعلام الحزب لحربٍ كلامية غير مسبوقة.
رهانات سياسية على حافة المغامرة
في الحقيقة، تحاولُ قيادةُ الحزب التلويحَ بمعادلاتٍ صفرية من دونِ أن تترجمها بخطواتٍ حقيقية على طاولة مجلس الوزراء لانتزاعِ مُكتسبات في السياسة لم تستطع انتزاعها في الميدان… بعد. ففي السياسة، يعتقد الحزبُ أنَّ استقالةَ رئيس الحكومة نوّاف سلام قد تعطيه هامشَ مناورةٍ جديدًا يتمكّنُ من خلاله من إعادة نجيب ميقاتي إلى السراي، أو حتى إلى إدخال البلاد في جولةِ تعطيلٍ سياسي تُجمّدُ قرارَ الحكومة بانتظار مآلات الملف النووي الإيراني، وربما يعتقد أنَّ هجومه على المملكة العربية السعودية قد يدفعها إلى مغادرة المسرح اللبناني للّاعب الإيراني. وفي هاتَين المُراهنتَين قصورٌ عن رؤية عمق المأزق الإيراني بعد حرب الاثني عشر يومًا وراديكالية التغيير في المشهد الإقليمي بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وسقوط النظام السوري، وتقدم السعودية في كلِّ الملفات المُمسِكة بها: من ترتيبات سوريا، إلى إدارة ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
أمّا تلويحُ مناصري الحزب بالحرب الأهلية، فسيأخُذُ الشيعة إلى عزلةٍ سياسية وجغرافية قاتلة تفتحُ المجالَ أمامَ طروحاتِ الفَدرَلة وربما التقسيم، وهي طروحاتٌ موجودة ولها جمهورها وداعموها ومموّلوها. وهذا إن حصلَ بعد دماءٍ كثيرة، من المرجح ألّا يحصلُ فيه الحزب على إقليم أو دولة قابلة للحياة، بفعل التوزُّع الجغرافي لبيئته، وتقلُّص مروحة الحلفاء إلى الصفر، وإغلاق طُرُق الإمداد والتمويل. كما إنَّ التأكيدَ على استعدادِ الحزب لجولةٍ جديدة من القتال ضدّ إسرائيل، وهو الخيارُ الكربلائي (الانتحاري بنظر البعض)، لم يُتَرجَم حتى الآن بالردِّ على أيٍّ من الخروقات الإسرائيلية المُتكرّرة يوميًا لاتفاق وقف إطلاق النار، وهو إن حصل يتوقّعُ كثيرون أن يحوّلَ قرى شمال الليطاني وصولًا إلى نهر الأوَّلي، وأحياء ضاحية بيروت الجنوبية وقرى البقاع، إلى نسخٍ مكرَّرة عن قرى جنوب الليطاني، وهو ما لا تقوى البيئة على احتماله. ولذلك يُقدِمُ الحزب على تنازلات مؤلمة لخصومه في السياسة، لكنها قد تكون أقل إيلامًا من أهوال الحرب الخارجية أو الداخلية، فيصرُّ قادته على الحديث عن استراتيجيةٍ دفاعية يتوافقُ عليها مع الجيش، من دون أن يُفسّرَ كيف يمكنُ الوثوق بهذا الجيش الذي خوَّنه النائب رعد بحجة أن “رواتبه تدفعها قطر” و”سلاحه أميركي”، وكيف يمكن بناء هذه الثقة من دون استحداث منصب نائب قائد الجيش الذي كثر الحديث عنه ضمن صيغة المثالثة، والذي قد يعتبر ضمانة للشيعة في لحظة اتخاذ قرارات الحرب والسلم.
الضمانات الدولية
ويصرُّ الحزبُ أيضًا على الحصول على ضماناتٍ من الرعاة الدوليين لاتفاق وقف إطلاق النار، من دونِ تحديدِ طبيعةِ هذه الضمانات، وما إذا كانت تقتصرُ على الطرفَين الإسرائيلي والسوري المَذكورَين في ورقة المبعوث الأميركي السفير توم برّاك، أم أنها أكثر عُمقًا وتصل ربما إلى إعادة صياغة النظام السياسي اللبناني على قاعدة المثالثة، التي قد تُشكّلُ في نظره ضمانةً لعدم جرِّ لبنان إلى خياراتٍ يرفضها جمهور الحزب من الطائفة الشيعية. لم يتجرّأ الحزبُ بعد على طرحِ التغيير الدستوري الذي يُهدّئ ما يعتبره خوفًا وجوديًا على مصيره، وربما لن يجرؤ على طرحه قبل جولةٍ فعلية من القتال قد يعتقدُ أنه سيسجّلُ فيها نقاطًا لمصلحته، إذ أنه يُدركُ أنَّ خصومه السياسيين ليسوا في واردِ تقديم تنازلات “سلميًا” ما داموا يرونه مهزومًا، وما داموا قادرين على الاستمرار بنمطِ حياةٍ وكأنهم في عالمٍ موازٍ لعالمه، تصدحُ فيه المهرجانات الصيفية، وتمتلئ الفنادق والشواطئ عن “بكرة أبيها”، فيما ترزحُ بيئته تحت أزيزِ المُسَيَّرات والغارات.
لكنَّ استمرارَ الغليان على الأرض وفي الفضاء الافتراضي وفي الأروقة السياسية يفتحُ احتمالاتَ الانفجار الداخلي والخارجي، ولا يُمكنُ إبقاؤه في خانةِ “التنفيس” المنضبط أو التظاهر ب”الجنون” أو التهوُّر، ف”حزب الله” لم يتمكّن من التحكُّمِ بمسارِ حرب الإسناد التي أراد لها أن تكونَ محدودة المدى والتأثير، وأخطأ في قراءة المزاج الإسرائيلي والعالمي بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كلّفته خسارة جلَّ سلاحه ومعظم قياداته وعلى رأسها أمينه العام السابق السيد حسن نصرالله، لذا فالاعتقاد بأنَّ الحزب قادرٌ على إدارة لعبة “الرجل المجنون” والوصول الى مبتغاه فيه مجازفة غير مُستَندة إلى الوقائع السابقة، فقد ينقلبُ السحرُ على الساحر ويحرقُ الجميع.
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin“ على: linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.