من الصراعِ إلى التَنمِية: تَحَوُّلٌ استراتيجي في مُقارَبة المغرب لقَضِيَّةِ الصحراءِ الغربية
أثبتَ نهجُ الرباط الواقعي السياسي نجاحًا باهرًا في إقناعِ جُزءٍ كبير من العالم بحتمية سيادتها على الصحراء الغربية. لكنَّ الحوارَ والشراكة مع الناشطات الصحراويات وغيرهنَّ من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني قد يكونان المفتاح لتحقيق تكامُلٍ سلميٍّ للإقليم.

ألانا موسيري*
على مدى خمسة عقود، ظلَّ النزاعُ حول الصحراء الغربية واحدًا من أطوَلِ وأعقَدِ النزاعات الإقليمية في العالم، لكنّهُ شهدَ تحوّلًا ديبلوماسيًا بارزًا منذ العام 2020، حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب دعمه لخطّة المغرب للحُكم الذاتي في الإقليم خلال الأيام الأخيرة من ولايته الأولى. وقد شَكّلَ هذا الموقفُ نقطةَ انطلاقٍ لمَرحلةٍ جديدة في الحملة الديبلوماسية المغربية، حيث انضمّت لاحقًا دولٌ كبرى مثل إسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا إلى قائمةٍ تضمُّ أكثر من مئة دولة عضو في الأمم المتحدة سبقَ أن أيّدت الخطة.
استَثمَرَت الرباط إعلانَ ترامب إلى أقصى حد، فأعادت صياغة خطابها حول الصحراء الغربية، مُنتقلةً من التركيز الطويل الأمد على الجوانب الأمنية وخطرِ عدمِ الاستقرار الذي تُمثّلهُ جبهة البوليساريو، إلى تسويق القضية باعتبارها مشروعًا للتنمية الاقتصادية الإقليمية.
فعلى مدى عقود، أكدت المغرب أنَّ سيادتها على الصحراء الغربية تُمثّلُ الحلَّ الأمثل لمواجهة خطر تهديدات جبهة البوليساريو، وهي حركة سياسية صحراوية تدعو إلى إقامة جمهورية عربية صحراوية ديموقراطية مستقلة. وقد خاضت الحركة تمرّدًا مسلّحًا ضد القوات المغربية التي سيطرت على الإقليم عقب انسحاب إسبانيا منه في العام 1975. وقد انتهت المواجهات العسكرية في العام 1991 بوقف إطلاق نار برعاية الأمم المتحدة.
لكنَّ النزاعَ السياسي استمرَّ منذ ذلك الحين، فيما واصلت الجزائر –المُنافِس الإقليمي للمغرب– دَعمَ البوليساريو سياسيًا وعسكريًا، والتي تتلقى بدورها دعمًا ديبلوماسيًا وعسكريًا من روسيا. وبالتالي، روّجت الرباط دائمًا لخطتها للحكم الذاتي المحدود للصحراء الغربية تحت السيادة المغربية على أنها أفضل طريقة لإبعاد روسيا عن المنطقة. كما اتهمت الرباط إيران و”حزب الله” بتقديم دعم عسكري للبوليساريو عبر الجزائر.
ولكن منذ العام 2020، أعادت الرباط صياغة قضيتها من أجل السيادة على الصحراء الغربية على أنها قضيةٌ قائمة على التنمية الاقتصادية، مؤكّدةً التزامها ببناء بُنيةٍ تحتية رئيسة تجذب المزيد من الاستثمار الأجنبي والتجارة العالمية إلى المنطقة. في مقابلةٍ عبر البريد الإلكتروني، قال محمد لوليشكي، الديبلوماسي المغربي السابق الذي يعمل الآن زميلًا بارزًا في “مركز السياسة من أجل الجنوب الجديد”، إنَّ هذا التحوُّلَ الاستراتيجي “لعبَ دورًا محوريًا في حملة الحكم الذاتي المغربية”. وأشار لوليشكي تحديدًا إلى مشروع تطوير ميناء الداخلة الأطلسي، باعتباره من مبادرات البنية التحتية التي “تُعزّزُ سيادة المغرب بشكلٍ ملموس، وتَرسُمُ رؤيةً للاستقرار والترابط والتكامل الاقتصادي”.
يَحرُصُ المغرب على تسليطِ الضوء على مشروع ميناء الداخلة الأطلسي، وقد دعا صحافيين -بمَن فيهم أنا- لمُعاينته ميدانيًا. تقع مدينة الداخلة على شبهِ جزيرةٍ رملية، يجذبُ خليجها سياحَ ركوبِ الأمواج الشراعية من جميع أنحاء العالم. وتشهدُ شبكةُ الشوارع الفارغة، المُزَيَّنة بالمصابيح، المُمتَدة من المدينة إلى الخارج، على النموِّ المُتَوَقَّع أن يحققه الميناء. يقع موقع بناء الميناء، المُحاط بإجراءاتٍ أمنية مشددة، على بُعدِ نحو ساعة من المدينة في عمق الصحراء، ويجري إنشاؤه على مسافةٍ تُقارِبُ ميلًا داخل مياه المحيط الأطلسي، ويعمل فيه نحو 1500 عامل وسط حركةِ رافعات وشاحنات لا تهدأ.
هذا المشروع، الذي تبلغ تكلفته 1.2 مليار دولار، هو جوهرُ طموح المغرب لتحويل الصحراء الغربية إلى بوّابةٍ إقليمية استراتيجية تربطُ غربَ أفريقيا بالأسواق العالمية. ومع إنجازِ نصفِ مشروع بناء ميناء الداخلة، تهدفُ الرباط إلى بدء شحن السلع الزراعية والمأكولات البحرية والفوسفات والمعادن الأرضية النادرة إلى أوروبا وأميركا اللاتينية مطلع العام 2029. كما إنّها مُنشَغلةٌ ببناءِ مشروعِ طريقٍ سريع بقيمة مليار دولار لرَبطِ الداخلة بطنجة، وتجري محادثات مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر -وجميعها دول غير ساحلية- بشأن ربطها بالميناء.
تؤتي استراتيجية التكامل الاقتصادي هذه ثمارها الديبلوماسية بالفعل. لم يكن تأييد المملكة المتحدة لخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية في حزيران (يونيو) الفائت مجرَّد تحوُّلٍ ديبلوماسي، بل كانَ جُزءًا من استراتيجيةٍ اقتصادية لتعميقِ العلاقات التجارية مع المغرب وتوسيع أسواق الشركات البريطانية.
وبالمثل، عندما أعلنت فرنسا تغيير موقفها من الحياد في نزاع الصحراء الغربية إلى دعم خطة الحكم الذاتي المغربية، وجّهَ الرئيس إيمانويل ماكرون رسالةً إلى الملك محمد السادس وَصفَ فيها التنمية الاقتصادية والاجتماعية للصحراء الغربية بأنها “ضرورية”. وأشادَ الرئيس الفرنسي ب”الجهود التي يبذلها المغرب في هذا الصدد”، ووَعَدَ بأنَّ “فرنسا ستواكبه في هذا النهج بما يعود بالنفع على السكان المحليين”.
بالإضافة إلى إغراءاتِ التنمية الاقتصادية، لم تتردَّد الرباط في استخدامِ أساليب الضغط لتغيير الآراء الأوروبية بشأن هذه القضية. فلطالما استخدمت الهجرة كوسيلةٍ للضغط على مدريد، على سبيل المثال، بتخفيفِ القيودِ على الحدود استراتيجيًا للسماح بتدفُّق المهاجرين إلى مدينتَي سبتة ومليلية الإسبانيتين، تعبيرًا عن استيائها من السياسة الإسبانية بشأن الصحراء الغربية. وفي خطابٍ ألقاه في آب (أغسطس) 2022، حذّر الملك محمد السادس بشدّة من أنَّ قضيةَ الصحراء الغربية هي “النظّارة التي يَنظُرُ بها المغرب إلى العالم”، مُشَدِّدًا على أنها أيضًا “المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيسُ به صُدقَ الصداقات، ونجاعةَ الشراكات”.
يستعدُّ المغرب الآن لاستضافةِ كأس العالم لكرة القدم 2030 بالاشتراك مع إسبانيا والبرتغال. ومع اقترابِ الموعد، ستكونُ هناك شراكاتٌ اقتصادية إضافية في مجالِ التنمية والبنية التحتية مُتاحة للنقاش. وقد أشارت الحكومة البريطانية إلى ذلك في حزيران (يونيو)، مُشيرةً إلى أنَّ اتفاقياتها التجارية الجديدة مع المغرب ستضعُ الشركات البريطانية “في مقدمة قائمة المتنافسين” عند التقدُّم بعطاءات مشاريع البنية التحتية المُتعلِّقة بكأس العالم.
مع كلِّ هذا التدفُّقِ الهائل من الأموال، يسهل نسيان مخيمات اللاجئين في تندوف، جنوب غرب الجزائر، التي تؤوي نحو 173 ألف لاجئ صحراوي منذ خمسة عقود. وتشهدُ هذه المخيّمات، الخاضعة لسيطرة جبهة البوليساريو، انتهاكاتٍ واسعة لحقوق الإنسان. ومما يثيرُ القلق بشكلٍ خاص محنة اللاجئات الصحراويات، اللواتي واجهنَ عنفًا قائمًا على النوع الاجتماعي، وزواجًا قسريًا، وقيودًا على حرية التنقل والتعبير. ومع ذلك، لم تتخذ الجزائر خطواتٍ جادة لتخفيف معاناتهن، ووفقًا لتقريرٍ حديث للأمم المتحدة، فإنَّ جبهة البوليساريو تستنزفُ المساعدات الدولية المُوَجَّهة للشعب الصحراوي.
ومنذ العام 1963، تُصنّف الأمم المتحدة الصحراء الغربية كإقليمٍ غير متمتع بالحكم الذاتي، ويدعو اتفاقُ وقف إطلاق النار لعام 1991 إلى استفتاءٍ يقرر فيه الشعب الصحراوي مصيره. لكن المغرب أرجأ هذا الاستحقاق، وطرَحَ في العام 2007 خطته للحكم الذاتي التي تمنح الإقليم صلاحيات سياسية محلية، مع احتفاظ الرباط بالسيطرة على الشؤون الخارجية والدفاعية والعملة.
في الوقت الحالي، تبدو حملة المغرب للاعتراف بالصحراء الغربية كأقاليمها الجنوبية لا يمكن إيقافها. لكن يمكن للرباط أن تضيفَ قشرةً أخلاقية إلى انتصاراتها الديبلوماسية والسياسية من خلال تقديمِ خطة حُسنِ نيّة لإعادةِ اللاجئين الصحراويين من مخيمات تندوف. لكنَّ أيَّ خطةِ تكامُلٍ حقيقية ستتطلّبُ شراكاتٍ مع منظمات المجتمع المدني الصحراوية، والتي يوجد منها العديد خارج جبهة البوليساريو، بما في ذلك الناشطات الصحراويات اللواتي أدلينَ أخيرًا بشهاداتهن حول محنتهنَّ أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف.
لقد أثبتَ نهجُ الرباط الواقعي السياسي نجاحًا باهرًا في إقناعِ جُزءٍ كبير من العالم بحتمية سيادتها على الصحراء الغربية. لكنَّ الحوارَ والشراكة مع الناشطات الصحراويات وغيرهن من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني قد يكونان المفتاحَ لتحقيقِ تكامُلٍ سلميٍّ للإقليم.
- آلانا موسيري هي محللة علاقات دولية وكاتبة وأستاذة في كلية العلوم السياسية والاقتصادية والشؤون الدولية في جامعة “ IE“في مدريد. يُمكن متابعتها عبر منصة “إكس” على: @alanamoceri.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.