مي خضْر: إِحكي لنا بَعدُ عن لبنان
هنري زغيب*
كتبْتُ كثيرًا في مقالاتي، وتحدَّثتُ مرارًا في محاضراتي، عن ضرورة تعريف أَولادنا ببلادهم، في سياحاتٍ داخليةٍ تُنَظِّمُها المدارسُ والأَنديةُ والجمعيات، فيكتشفُ الجيل اللبناني الجديد مرابعَ لبنان ومُدُنَه وقُراه وطبيعتَه وعاداتِه وتقاليدَه، وما يَفتح ذهن أَولادنا على وطنهم فيعرفونَه ويحبُّونَه. لا يمكن أَن ندعُوَهم إِلى حُب لبنان إِن لم يعرفوا وطنهم، ويشاهدوا ما فيه ويختبروا ما له، خصوصًا في هذا الجو السياسي المتخبِّط الذي يعاينونه من أَجواء تتعثَّر فيها الدولة لتأْمين رفاه المواطن في أَبسط مظاهره.
إِذًا، بين تَعَثُّر الدولة وعظمة الوطن، تبقى مسافةٌ ذهنيةٌ يجب أَن يجتازها جيلنا الجديد كي يعي حقيقةَ وطنِه الثابتةَ غيرَ المتأَثِّرةِ بتعثُّرات الدولة والسُلطة التي تُدير الدولة.
في هذا الجو من انتظاراتي اليوتوبية، وصَلَتْني قبل يومين نسخةٌ من سلسلة كتَيِّباتٍ للأَولاد في ستة أَجزاء زَنْبَقية الشكل والمضمون، صاغَتْ نُصوصَها الكاتبةُ مي خُضْر، ووضَع رسومَها عاطف خضر، وصدرَت في منشورات “أَطفال سائر المشرق” وهي فرعٌ من مؤَسسة “دار سائر المشرق” في بيروت.
الكتيِّباتُ الستَّة (كلٌّ منها في 36 صفحة حجمًا كبيرًا) محوَرُها الفتى كريم، يجُول مكتشفًا مناطقَ في لبنان، يُرافقه كلبه” كيوي” (نتذكَّر الكلب “ميلو” رفيقَ “تان تان” في السلسة الفرنسية الشهيرة)، ويطَّلع على كلِّ منطقةٍ من أَشخاصٍ يشرحون له عنها. ويساعدُ القراء على ذلك نسيجٌ لطيفٌ جميلٌ من الرسوم المرافِقَةِ النصَّ في إِخراجٍ بهيجٍ يَشُدُّ إِليه عيونَ الأَولاد وهُم يقرأُون.
جمعَتْ مي خضر مناطقَ لبنانيةً نسجَت قصصَها كالآتي: صيدا وصور، بعلبك وعنجر، بيروت، طرابلس، جبيل، دير القمر وبيت الدين وبعقلين. ويتواصلُ السيناريو سلسًا مع “كريم”: إِلى صور وصيدا ترافقُه ابنةُ عمه ريَّا. إِلى بيروت ترافقُه (ورفاق صفه) المدرِّسة الآنسة ميرا. إِلى طرابلس ترافقه عمَّتُه زينة. إِلى دير القمر وبيت الدين وبعقلين ترافقُه الأَميرة سارة. إِلى بعلبك وعنجر يرافقُه الفتى الافتراضي أُغسْطُس (حفيدُ بُناةِ هياكل بعلبك). إِلى جبيل يرافقُه صديقه طوني.
اللافتُ أَنَّ الكاتبة، في كلِّ مدينةٍ زارها “كريم”، اقتطفَتْ أَبرزَ معالِمِها الأَثرية والتاريخية والجغرافية والطبيعية والجمالية والبطولية، وخاطَتْها بِخَيطٍ روائيٍّ سلِسٍ سائغ، كي تكونَ رحلةُ “كريم” وكلْبه “كيوي” مفيدةً ثقافيًّا بقدْرما هي ممتعةٌ روائيًّا. هكذا الأَولاد، حين يَطْوُون الصفحةَ الأَخيرةَ من الجزء السادس، يكونُون جالوا، نظريًّا وبوضوح، على أَبرز الكنوز من تراث لبنان المادي وغير المادي، في انتظار أَن يُبادرَ أَهلُهم أَو أَولياءُ مدرستِهم أَو أَيُّ فريقٍ ثالثٍ آخَر، إِلى مرافقتِهم ميدانيًا حيثُمَا قرأُوه في الستة الأَجزاء، فتكتملُ في أَذهان أَولادنا صورةُ لبنان الوطن ساطعةً مُشِعَّةً مُشْرقة، ويفهمون أَنَّ ما يعانون منه، مع أَهلهم ومحيطهم، حياتيًّا أَو اجتماعيًّا أَو يوميًّا، هو من تقصير السُلطة التي تُدير الدولة، ولا علاقةَ له بعظمة لبنان وتاريخه وكُنُوزه وتراثه كما قرَؤُوه في كُتُب مي خضر أَو كما سيعاينون المعالِـمَ ميدانيًّا في أَماكنها.
أَحسنَتْ مي خضر بإِصدار كتُبها الستة في العربية والفرنسية والإِنكليزية (لكُلِّ لُغةٍ أَجزاؤُها الستةُ في عُلبَةٍ أَنيقةٍ خاصة)، تعميمًا فائدَتَها على التلامذة بلغاتٍ ينْطِقون بها أَو يكتبونها، فلا يبقى أَحدٌ من الأَولاد خارجَ مشاوير “كريم” ورفيقه” كيوي” إِلى نقاط مُضيئة على خارطة لبنان. ونأْمل أَن تُكْمِلَ الكاتبة إِلى مناطقَ أُخرى في أَجزاء أُخرى وعَدَت بها الأَولاد اللبنانيين في الإِهداء: “تنتظرُكُم في هذه الصفحات كنوزٌ من بلادنا، فافتخروا بجُذُوركم. وها هي الرحلة ابتدأَتْ”.
إِنها رسالةٌ رئيسَةٌ لكتَّابنا المتخصِّصين أَن تكونَ لهم مَهارةُ الكتابة للأَولاد بِلُغة الأَولاد المبسطة. ذلك أَنهم يَكتبون للمستقبل، ومستقبلُ كتاباتهم هو لأَولاد اليوم.
شكرًا لكِ مي خُضْر، قلبًا يحلو وقلمًا يجلو، فما سوى هكذا نُنَشِّئَ أَولادَنا على وعيِهِم وطنَهُم الحقيقي: لبنان اللبناني.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).