تمجيدُ الكراهية: فيلم “غولدا” يُظهِرُ أنَّ الصهيونية لا تزال غير نادِمة

بعدما قامت بدور الملكة إليزابيث الثانية ونالت على أساسه جائزة الأوسكار، ها هي هيلين ميرين تقوم بدور غولدا مئير في فيلم إسرائيلي دعائي جديد مُثيرٌ للجدل عنوانه “غولدا”.

يوم حرب أكتوبر: النصر في عين المنهزمين.

رمزي بارود*

تمَّ عرضُ فيلمٍ جديد يُمجّدُ إرثَ الزعيمة الصهيونية ورئيسة وزراء إسرائيل الرابعة غولدا مئير في دُورِ عَرضٍ مُختارة في الولايات المتحدة وأوروبا.

الفيلم عبارة عن دعاية إسرائيلية نموذجية. وقد حاول المخرج الإسرائيلي، غي ناتيف، تبييض إرث مئير من العنف والعنصرية الصريحة المُعادية للعرب من خلال تصويرها على أنها “سيدة إسرائيل الحديدية”، و”اللبوة” التي انتصرت كسياسية وتألّقت كقائدة عسكرية.

يصبح السرد في الفيلم أكثر تعقيدًا عندما يتم دمج أوكرانيا في هذا المزيج. ونُقل عنها قولها: “عندما كنتُ طفلة صغيرة في أوكرانيا، كان الناس يضربون اليهود بالهراوات”، مؤكدةً “لم أعد تلك الفتاة الصغيرة بعد الآن”.

يُعَدُّ إعادة التركيز على جغرافية الفيلم وسياقه التاريخي حول أوكرانيا أمرًا بالغ الأهمية لفيلم “غولدا”. يستغل المخرج بذكاء الصور التي غمرتها وسائل الإعلام للبطولات الأوكرانية ضد تقدم الجيوش الروسية، وبالتالي يُعيدُ كتابةَ الإرث، ليس فقط لمئير ولكن أيضًا للصهيونية.

والرسالة التي تم استخلاصها هي أنه على الرغم من أنَّ أخلاقيات خيارات الصهيونية في بعض الأحيان لا تكون مثالية دائمًا، إلّا أنه لم يكن لدى مئير ولا مؤسسي الصهيونية خيار؛ إن الحروب الوجودية في عالم مليء بالأعداء والمذابح ومعاداة السامية تتطلب خيارات صعبة.

يتمحور الفيلم حول هذه الخيارات التي يفترض أنها صعبة، خلال حرب العام 1973، عندما شغلت مئير منصب رئيسة وزراء إسرائيل بين العامين 1969 و1974.

يتم تقديم مئير، مثل معظم القادة الإسرائيليين الصهاينة، كشخصية في صراعٍ مستمر بين الولاءات المتعددة للعرق والخلفية الثقافية والهويات الدينية والقومية. بالنسبة إلى مئير، تمَّ حلُ الصراع من خلال إعطاء الأولوية للهوية اليهودية حصرًا. وقد تجلّى ذلك في الحوار الشهير الذي دار بين مئير ووزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر.

وفي رسالة كتبها إلى مئير، قال كيسنجر إنه يعتبر نفسه “أميركيًا أوّلًا، ووزيرًا للخارجية ثانيًا، ويهوديًا ثالثًا”. وكان ردّها، الذي أبرز أولوياتها الخاصة، وكيف أرادت أن تُفهِمَ علاقة كيسنجر بإسرائيل، هو: “في إسرائيل، نقرأ من اليمين إلى اليسار”.

وبغض النظر عن الدعاية، فعندما وصلت غولدا مئير إلى فلسطين في العام 1921 في سنّ الثالثة والعشرين، لم تكن آتية مباشرة من كييف، التي كانت آنذاك جُزءًا من الإمبراطورية الروسية، بل من الولايات المتحدة. في مدينة ميلووكي، طوّرت مئير أفكارها حول الصهيونية، والحقوق الفطرية المفترضة لجميع اليهود الصهاينة في “العودة” إلى فلسطين.

ولذلك، فإن كراهية مئير المطلقة للفلسطينيين والعرب قد تشكلت قبل فترة طويلة من لقائها بفلسطيني واحد. ولم يلعب الفلسطينيون ولا العرب أي دور في إيذاء المجتمعات اليهودية في الإمبراطورية الروسية أو في أيِّ مكانٍ آخر في أوروبا.

يشير هذا إلى أنَّ العنصرية المعادية للعرب -وهي عنصرٌ أساس في خطاب مئير السياسي طوال حياتها- هي نتيجة للديناميكيات التاريخية الغربية إلى حدٍّ كبير.

كان العرب ينظرون إلى الصهاينة كمستعمرين وإمبرياليين، وليس لأنَّ العربَ كانوا مُعادين للسامية. وكانت الدول العربية تنظرُ إلى الصهاينة في فلسطين بالمنطق عينه الذي كانت تنظر به إلى الاستعمار الفرنسي في سوريا، والبريطاني في مصر، والإيطالي في ليبيا.

لقد عمل المؤرخون الصهاينة والمؤيدون لإسرائيل على الفصل بين الظاهرتين، ظاهرة الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط والاستعمار الصهيوني في فلسطين.

إنَّ مثلَ هذا التفسير الخاطئ للتاريخ لا يتطرّقُ إلى هذه القضية بطريقة صادقة. والأسوأ من ذلك، في بعض الأحيان، يتم تقديم الاستعمار الصهيوني، ليس كغرسةٍ بريطانية في فلسطين من خلال وعد بلفور، ولكن كقوة سياسية مُعارِضة للاستعمار و”الانتداب” البريطاني في فلسطين.

اعتمدَ جُزءٌ كبير من حياة مئير السياسية على الإرث نفسه الذي يتقاسمه جميع مؤسّسي الصهيونية: لقد أرادت أن تكون جُزءًا من بناء دولة صهيونية في فلسطين، إسرائيل اليوم، بينما تنكر في الوقت نفسه وجود الفلسطينيين الذين عاشوا أجيالًا عديدة على الأرض نفسها.

قالت ذات مرة: “سيأتي السلام عندما يحب العرب أطفالهم أكثر مما يكرهوننا”، حيث زرعت بذرة الفكرة العنصرية القائلة بأن العرب والفلسطينيين يكرهون أطفالهم، والتي لعبت دورًا رئيسًا في تصوير الفلسطينيين في وسائل الإعلام الأميركية خلال الانتفاضة الثانية (2000-2005).

وفي مقابلة مع صحيفة “صنداي تايمز” اللندنية في حزيران (يونيو) 1969، نفت مئير وجود ما يُسمّى فلسطينيين. وقالت “لم يكن الأمر كما لو كان هناك شعبٌ فلسطيني في فلسطين يعتبر نفسه شعبا فلسطينيًا وجئنا وطردناه وأخذنا وطنه منهم. لم يكن لهم وجود”.

وحافظت على هذا الخط حتى وفاتها في العام 1978. وفي مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز في العام 1972، أصرّت: “قلتُ أنه لم تكن هناك قط أمة فلسطينية”.

مع ذلك، لا يمكن أن يُنسب الفضل إلى مئير في إنشاء هذه الفكرة العنصرية، التي لعبت دورًا في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم على مرِّ التاريخ. كانت هذه اللغة أساسية للصهاينة الأوائل الذين أرادوا أن يروا في فلسطين “أرضًا بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”، كما تظل مفيدة للصهاينة المعاصرين. وقد أعلن بتسلئيل سموتريش، وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف الحالي، أخيرًا أنه “لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني” خلال زيارة إلى فرنسا.

يمكن رؤية التوجه الفكري لفيلم غولدا بطريقتين مختلفتين: الأولى، باعتباره “هاسبارا” دعائية إسرائيلية مبدعة تهدف إلى الاستفادة من الحركة العالمية المتنامية التي تحتفي بالنساء ومساهماتهن، والثانية، باعتباره عملًا يائسًا.

في الواقع، فقدت العلامة التجارية الإسرائيلية الكثير من جاذبيتها السابقة كمشروعٍ ليبرالي وديموقراطي وحتى “اشتراكي”. إنَّ مثل هذه المصطلحات يصعب تسويقها عندما يتساءل العديد من الإسرائيليين أنفسهم عمّا إذا كانت “ديموقراطيتهم” هي ديموقراطية على الإطلاق.

عندما يشاهد الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم صور الوحشية العسكرية الإسرائيلية والعنصرية يوميًا، فمن الصعب على إسرائيل أن تُصوِّرَ نفسها على أنها “منارة الضوء” والديموقراطية في شرق أوسط متخلف وغير ديموقراطي وعنيف.

ولهذا السبب يُعَدُّ فيلم “غولدا” بمثابة قطعة دعائية وظيفية، على الرُغم من أن تأثيره محدود من حيث الوقت والنطاق. وفي أحسن الأحوال، فهو محاولة متأخرة لإعادة اختراع الصهيونية.

إن الفلسطينيين المُضطَهَدين -بل في الواقع المنطقة بأكملها التي مزقتها الحرب- في حاجة ماسة إلى مستقبل يقوم على العدالة والحرية والمساواة والسلام الدائم. إن تمجيد الحرب والإحتفاء بالأفراد المتعطشين للحرب مثل مئير لا يمكن أن يكون السبيل لتحقيق هذه الغاية المرغوبة.

  • رمزي بارود هو صحافي أميركي من أصلٍ فلسطيني ورئيس تحرير “فلسطين كرونيكل”. ألّف ستة كتب، آخرها، الذي شارك في تحريره إيلان بابي، هو “رؤيتنا للتحرير: القادة والمثقفون الفلسطينيون المشاركون يتحدثون علناً”. وبارود هو أيضًا زميل أبحاث كبير غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ramzybaroud.net

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى