مَن يُحَدّد جنس الجَنين؟

بقلم راشد فايد*

في بداية حرب 1975، زار بيروت  محمد أديب الداوودي، أول موفد رئاسي سوري، بمهمة هي وقف نذر الحرب. وبعد لقاءات مع “القيادات” المُتناحِرة، إلتقى الصحافيين والمُراسلين، وكان أبرز ما قاله في فندق الكومودور: لقد فقد اللبنانيون قدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، ونحن سنتولّاها عنهم.

كانت تلك العبارة عنوان التواطؤ العربي- الدولي على لبنان وفلسطين، وتحويل بلاد الأرز إلى ملعبٍ لِمَن يسعى إلى الفوز به أداة مُساومة على المصير، كمنظمة التحرير الفلسطينية، أو مساحة حلم أُسطوري باعتباره “لواءً” سورياً سليباً.

بعد الإجتياح الإسرائيلي سنة 1982، دخلت إيران على المشهد شريكاً مُضارباً لنظام الأسد الأب، بعد تناحر دُفٍع ثمنه من دماء شباب “حركة أمل” و”حزب الله”، في الجنوب والضاحية وبيروت، وانتهى إلى اتفاقٍ على استبعاد نقاط الخلاف، إلى يومٍ مُناسبٍ بعيد، أي بعد “النصر” على الآخرين، وسيطرة الطائفة على البلد، بالقوة أو بالتفاهمات.

نجح كل ذلك بمباركة عربية ودولية صامتة لم تكن تحول دون “تجليات” التمرّد الإيراني على “الباكسا أميرِكانا”، بتواطؤ أسدي، كخطف الأجانب، وتفجير مَقَرَّي جنود المارينز الأميركيين، والمظليين الفرنسيين (دراكار) في العام 1983. عندها إقتنع الأميركي، ومن يُشايعه، بترك لبنان للرعاية السورية – الإيرانية، بضوابط إسرائيلية. لكن هذه الثنائية، في عهد بشار، لم تستطع تحمّل حجم رفيق الحريري، فكان اغتياله (14 شباط/فبراير 2005) حدثاً مفصلياً في تاريخ لبنان والمنطقة، أخرج الوصاية السورية، أولاً بخروج جيش بشار الأسد في 26 نيسان (إبريل)، ثم مع غرقه، منذ العام 2011، في دماء السوريين، فأخلى لبنان للإيرانيين، مُمَثّلين بأداتهم الرئيسة، أي “حزب الله”.

إنتقلت الوصاية، من دمشق إلى طهران، وتحوّلت سوريا من لاعب إقليمي إلى ملعب عربي- دولي، وخلت الساحة الداخلية للهَيمَنة الإيرانية بفعل رهبة السلاح اللاشرعي، وغَلَبة نيابية أدّت إليها، أنانيات الجماعات السياسية المُعارضة له.

اليوم، وقد حلّت كارثة مرفأ بيروت، عاد لبنان إلى اهتمام المجتمع الدولي، مُحاطاً بالمواجهة الأميركية – الإيرانية، وبالعقوبات على طهران وحلفائها، وأدواتها، وفي طليعتهم “حزب الله”، ومُظللاً بـ”صفقة العصر” وقانون “قيصر”، والإنتخابات الرئاسية الأميركية، وحدث الإتفاق الإماراتي- الإسرائيلي، وما سيتبعه من إتفاقات وتغيير جيو- سياسي، سيفرض قواعد عملانية مختلفة، وتجاهها يتوزّع اللبنانيون بين مَن يرى نهاية الهيمنة الإيرانية، وعودة الغرب، أو تجديد الإنفلاش الإيراني، وحتى بالدم والدمار، على عادته، أو  التمديد للتعايش بين الندّين اللدودين.

الأغلب في الوقائع، أن زمن الوصايات ولّى، ورفع مجلس الأمن الحظر عن التسلّح الإيراني ليس هدية، بل إشارة حسن نية، ولو بـ”عتب” أميركي على الحلفاء، وطهران تحتاج إلى أن تَطمَئن وتُطَمئِن، لذا جاء وزير الخارجية محمد جواد ظريف ليُظهر وجهها المُسالم في بيروت، تاركاً التشدّد اللفظي لحليفها، المباشر، ولنسخته العونية، في كوميديا لافتة. فالمساومات تحت الطاولة مُتشعّبة، والصورة الحقيقية ليست فوقها، لذا، لا شكٌ مطلقٌ بما يروّج، ولا قبول مطلق. فالمنطقة حبلى، وجنس الجنين لم يُحدَّد بعد. لكن آنَ للبنانيين أن يكونوا أوصياء على أنفسهم.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: fayed@annahar.com.Lb
  • هذا المقال يصدر في الوقت عينه في صحيفة النهار اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى