هل هو انقلابٌ فرنسي؟

محمّد قوّاص*

لم يتعامل العالم، وخصوصًا الغربي، مع انقلاب الغابون كما تعامل مع انقلابِ النيجر. صحيحٌ أنَّ المنابر الأممية والعواصم الكبرى أدانت استيلاء العسكر على الحكم في ليبرفيل ودعت إلى العودة للحياة الدستورية، لكن ردود الفعل أتت مُخفّفة مُتَفَهّمة إلى درجةٍ أنَّ هناك في أوروبا مَن تحدّث عن إنقلابٍ آخر جرى قبل ذلك قد يكون وراء ما فعله العسكر.

أطلّ جوزيب بوريل، منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الخميس الماضي، من طُلَيطَلة في أسبانيا، على هامش اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 ليقول: “الانقلاباتُ العسكرية ليست الحلّ، لكن يجب ألّا ننسى أنه في الغابون جرت انتخاباتٌ مليئة بالمخالفات”، مُضيفًا أنَّ تصويتًا مزوَّرًا يمكن عدّه بمثابة “انقلابٍ مؤسّساتي” مدني.

والواضح أنَّ بوريل والاتحاد من ورائه احتاجَ إلى انقلابٍ عسكري في الغابون حتى ينتبه إلى أنَّ الانتخابات الرئاسية التي أعادت في 26 آب (أغسطس) الماضي انتخاب علي بونغو لولاية رئاسية ثالثة كانت مزوّرة. بمعنى آخر فإنَّ العواصم كانت ستعترف بتلك الانتخابات (التي جرت في غياب مراقبين دوليين أفارقة وأوروبيين) ولن تعترض عليها ولن تُشكّكَ في نزاهتها ولن تنالَ من شرعية بونغو طالما أنه مُنتَخَبٌ وفق الأعراف والأصول ولو شكليًا.

والملفتُ في هذا الصدد هو موقف فرنسا بالنسبة إلى انقلاب الغابون الذي ظهر على نحوٍ دراماتيكي مُناقِض تمامًا لموقفها حيال انقلاب النيجر. لم يخرج الرئيس إيمانويل ماكرون وبعده رئيسة الوزراء أليزابيت بورن لإدانة انقلاب الغابون على هذا المستوى كما فعلا في التعامل مع انقلاب النيجر. جاء الموقف الفرنسي على لسان المتحدث باسم الحكومة الذي أعلن أن باريس تُدين الانقلاب، مُشيرًا إلى أنَّ فرنسا “تراقب بانتباه شديد تطورات الوضع” وتؤكد رغبتها بأن يجري احترام نتيجة الانتخابات.

بدا بيانُ باريس باهتًا مُربكًا يُعبّر عن موقفٍ روتيني لا يقارن بالموقف الصقوري الذي اتّخذته ضد نيامي وعسكر النيجر الجدد. حتى أن دعوة فرنسا إلى “احترام نتيجة الانتخابات” تتناقض مع موقف أوروبا الأشمل الذي عبّر عنه بوريل والذي تحدث عن “انتخاباتٍ مزوّرة تُعدّ انقلابًا مدنيًا”. ومع ذلك فإنَّ مصالح فرنسا التي تملي لهجة مخفّفة مع عسكر الغابون هي نفسها التي تملي لهجةً عنيفة مع عسكر النيجر.

على هذا لا تبدو الانقلابات في أفريقيا تمارين من الزمن القديم وليست تقليعة مُتقادمة خارج سياق عالم اليوم. وإذا ما غضبت فرنسا من انقلابٍ عسكري في النيجر أزاح حليفها المنتخب محمد بازوم، فلم يظهر أنها غضبت كثيرًا من انقلابٍ في الغابون أزاح حليفها علي بونغو ابن حليفها عمر بونغو ابن العائلة التي تحكم البلاد منذ العام 1967. حتى أنَّ شخصياتٍ معارضة في الغابون اتّهمت فرنسا نفسها بالوقوف وراء هذا الانقلاب. وإذا ما أشادت المعارضة بالانقلاب الذي أطاح الانتخابات المزوّرة، لكنها تعوّل على أن يؤدي الأمر إلى إعادة الاعتبار إلى البروفسور ألبير أوندو أوسا الذي اعتبرته فائزًا في هذه الانتخابات لا أن يسرق النصر انقلاب عسكري بعد أن سرقه “انقلاب مؤسساتي” حسب وصف بوريل.

كان واضحًا أنَّ عسكر النيجر ثاروا ضد “الحالة الفرنسية” في بلادهم وأرادوا من خلال خلع الرئيس بازوم توجيه صفعة إلى باريس. اعتبرت الأخيرة أن مصدر الصفعات هو موسكو وهي شبيهة بالصفعات التي تلقتها بانقلابات مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى قبل ذلك. حرّك عسكر النيجر الشارع النيجري للمطالبة بطرد القوات الفرنسية من البلاد على منوال ما جرى لهذه القوات في مالي. وذهب عسكر نيامي إلى تظهير قطيعة مع العهد الفرنسي من خلال مسلسل التصعيد ضد وجود سفير باريس في عاصمة البلاد.

لم يحصل ذلك أبدًا في الغابون. لم تخسر فرنسا شيئًا من نفوذها بسبب هذا الانقلاب. حتى أن شركة التعدين الفرنسية ” Eramet”، التي تملك وحدة ” Comilog” لإنتاج المنغنيز في الغابون أعلنت تعليق أعمالها إثر الإعلان عن الانقلاب لتعود للإعلان بعد ساعاتٍ عن إعادة استئناف أعمالها من جديد. بدا أن باريس بدأت تقلق على مصالحها الغابونية بسبب ضعف الرئيس علي بونغو وتصاعد قوة المعارضة المعادية لفرنسا في البلاد، فلم تُعادِ، وربما شجّعت، الانقلاب الذي أتى بالجنرال بريس أوليغي نغيما، الذي تربطه صلة قرابة من طريق الأم بالرئيس المخلوع، رئيسًا جديدًا للمرحلة الانتقالية في الغابون.

لا يبتعد سلوك باريس مع انقلاب الغابون عن سلوك واشنطن مع انقلاب النيجر. فمقابل الغضب الفرنسي الشديد ضد “الانقلاب غير الشرعي ضد السلطة الدستورية المنتخبة” في النيجر، لم تتحدث الإدارة الأميركية أبدا عن انقلابٍ وانقلابيين، لا بل راحت، من خلال إرسال كبيرة الديبلوماسيين في وزارة الخارجية فيكتوريا نولاند، تحاور قيادات الانقلاب ساعيةً إلى التوصل إلى تسوية واتفاق. ومقابل إصرار سلطات نيامي العسكرية على العمل لطرد السفير الفرنسي، قامت واشنطن بتعيين سفيرة لها لدى النيجر في ظل الانقلاب.

بات الموقف الغربي، وربما الدولي، من مبدَإِ الانقلاب نسبيَّ الملامح على الرغم من خروج بيانات الإدانة من الغرب والشرق والدعوة إلى التمسّك بالعملية الدستورية. فحتى حين اندلعت المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وهو أمرٌ يُفتَرَض أن يوصَف، وفق المعايير المعمول بها، بمثابةِ محاولة انقلاب على السلطة الشرعية، أجمعت العواصم المَعنية جميعها على انتهاجِ لهجةٍ مُحايدة تقرأ الحدث بعينٍ أخرى بدت قابلةً بأيِّ نتيحةٍ للحرب جاهزةً للتأقلم معها.

والواضح أنَّ مُقاربةً خبيثة بدأت تتطوّر داخل العواصم المدافعة عن الديموقراطية وحقوق الإنسان تقبل بالتغييرات في أفريقيا بوسائل أخرى غير تلك التي تمرّ عبر صناديق الاقتراع. فإذا ما ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن مصالحهم في أفريقيا لمكافحة توسّع نفوذ الصين وروسيا في القارة السمراء تتطلّب التعامل مع الأنظمة الحاكمة الجديدة حتى لو أتت بقوة سلاح العسكر، فذلك يأتي من استنتاج مدى تعويل موسكو وبكين على حراك العسكر لقلب الخرائط الجيوستراتيجية في أفريقيا.

وإذا ما أثبتت الأيام أن فرنسا كانت راضية عن مسألة التخلّص من شخص علي بونغو فقط (من دون المسّ بنفوذ عائلته وشبكاتها السياسية) إنقاذًا لنفوذها في الغابون، فإن إعادة رسم نفوذ باريس وغيرها من العواصم الحليفة والنقيضة من خلال الانقلابات قد تصبح تكتيكًا متوقّعًا يشي باحتمالات خروج “البيان رقم واحد” من عواصم أفريقية أخرى.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى