جَايمس بَيكَر: الرجلُ الذي قال لا لإسرائيل ومنع نتنياهو من دخول مبنى وزارة الخارجية

يُظهر كتابٌ جديد يؤرّخ لحياة وزير الخارجية الأميركي السابق جايمس بَيكر كيف أن الضغط الأميركي على إسرائيل أحدث تغييراً إيجابياً في الماضي.

جايمس بَيكر مع الرئيس جورج بوش (الأب): ثنائي أعطى إسرائيل درساً قاسياً

محمد زين الدين*

مرّت ثلاثة عقود منذ أن اجتمع القادة الإسرائيليون لأول مرة مع الفلسطينيين في مُنتدى تفاوضي عام في مدريد. من السهل أن ننسى أن مفهوم حلّ الدولتين، الذي يبدو اليوم أنه قد عفا عليه الزمن وغير واقعي، لم يكن على جدول الأعمال الدولي في ذلك الوقت. في مؤتمر العام 1991، كان الفلسطينيون على استعدادٍ لقبولِ شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى أنهم وافقوا على استرضاء إسرائيل من خلال الحضور إلى المؤتمر كجزءٍ من وفدٍ أردني. لقد تغيّر الكثير منذ تلك الأيام.

المهندس الرئيس لمؤتمر مدريد كان وزير خارجية الولايات المتحدة جايمس بَيكَر. في سيرة ذاتية شاملة، مدروسة جيداً وعميقة البحث، يكشف الصحافيان المتزوجان، اللذان يتمتّعان بخبرة واسعة في واشنطن، بيتر بَيكَر (لا علاقة له بجيمس بَيكر) وسوزان غلاسر في كتابهما “الرجل الذي حكم واشنطن” (The Man Who Ran Washington)، عن تفاصيل رائعة حول المُناورات التي أدّت إلى المؤتمر خلال رئاسة جورج بوش الأب. لقد أمضيا ساعات طويلة في إجراء مقابلات مع بَيكَر ومسؤولين أميركيين وإسرائيليين وفلسطينيين، بالإضافة إلى مراجعة مذكرات بَيكر وملاحظاته اليومية في أجندته.

كان بَيكر وبوش آخر دعاة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية قبل أن يُسيطر المحافظون الجدد على الحزب الجمهوري وأتباع “حقوق الإنسان” الإيديولوجيون على الحزب الديموقراطي. على هذا النحو، لم يكونا خائفَين من الاختلاف علناً مع القادة الإسرائيليين، وحتى استخدام رفض المساعدة كوسيلة لممارسة الضغط.

يُغطّي “الرجل الذي حكم واشنطن” قضايا الشرق الأوسط المُهمّة الأخرى، بما فيها حرب الخليج الأولى وقرار إدارة بوش، بعد تحرير الكويت، بعدم التوغّل في العراق للإطاحة بصدام حسين. ويذكر المؤلفان، المُعجَبان ببَيكر، لكنهما لا ينتقدان، كيف حثّ بوش العراقيين على الانتفاض ضد صدام، لكنه لم يتبع كلماته أي عمل، مثل استخدام القوة الجوية، لمنع الديكتاتور من قصف المُتمرّدين الشيعة.

يتطرق الكتاب أيضاً إلى سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وإعادة توحيد ألمانيا، فضلاً عن دور بَيكر في السياسة الداخلية بصفته رئيساً لموظفي البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان. لكن في قلب صفحاته حول الشرق الأوسط نلاحظ علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل، والتي كانت في عهد بَيكر وبوش أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى أو منذ ذلك الحين.

منع نتنياهو

كان بَيكَر قاسياً جداً مع بنيامين نتنياهو بطريقة لم تجرؤ عليها إدارتا بيل كلينتون وباراك أوباما أبداً. نتنياهو، الذي كان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت، أغضب وزير الخارجية الأميركي بزعمه أن الولايات المتحدة كانت ساذجة في تعاملها مع الفلسطينيين. وقال نتنياهو لوسائل الإعلام: “من المُدهش أن قوة عظمى مثل الولايات المتحدة التي كان من المفترض أن تكون رمزاً للعدالة السياسية والصدق الدولي، تبني سياستها على أساس التشويه والأكاذيب”.

أمر بَيكر الغاضب مسؤوليه بمنع نتنياهو من دخول وزارة الخارجية. عندما دافع دِنيس روس، أحد مساعدي بَيكر، عن أن هذا القرار كان عقاباً شديد القسوة، كان بَيكر “يبتسم فقط ويقول لا”. في النهاية رضخ لنتنياهو وسمح له بالحضور لمقابلة مسؤولين صغار فقط، لكنه رفض مقابلته شخصياً طوال فترة وجوده في المنصب.

كان البرنامج الإسرائيلي لبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة مصدرَ قلقٍ دائم لبَيكر وبوش. عندما أخبر إسحق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بوش خلال زيارةٍ للبيت الأبيض في أوائل العام 1989 أن “المستوطنات يجب ألّا تكون مشكلة”، إعتقد الرئيس الأميركي خطأً أن هذا الكلام هو التزامٌ إسرائيلي بوقف البناء. عندما تم الإعلان عن المزيد من المستوطنات بعد أسبوعين، شعر بوش أن شامير كذب عليه ولم يغفر له قط.

لم يكن مفاجئاً أن تظهر القضية مرة أخرى بعد عامين، عشية مؤتمر مدريد. طلب شامير آنئذٍ من الولايات المتحدة ضمان قروض سكنية بقيمة 10 مليارات دولار لموجة جديدة من المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي. كان بَيكر وبوش قلقَين من أن الأموال ستُستخدم في بناء المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، وأقنع بَيكر بوش بعدم الموافقة وتأجيل ضمانات القروض.

ضغط من إيباك

في لمحةٍ مُسبَقة عن الضغوط التي سيُبتَلى بها الرؤساء الأميركيون اللاحقون، استُهدِفَ بَيكر وبوش بانتظام من قبل لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية “إيباك” (AIPAC)، وهي مجموعة ضغط قوية مناصرة لإسرائيل، وأصدقائها في الكونغرس. وأطلقت اتهامات معاداة السامية.

في أيار (مايو) 1989، قال بَيكر في مؤتمر إيباك: “بالنسبة إلى إسرائيل، حان الوقت الآن للتخلّي، مرة وإلى الأبد، عن الرؤية غير الواقعية لإسرائيل الكبرى … وضمّ الأراضي، ووقف النشاط الاستيطاني، والسماح بإعادة فتح المدارس، والتواصل مع الفلسطينيين كجيران يستحقّون الحقوق السياسية”. وهنّأ بوش بَيكر على الخطاب ووصفه بأنه صريحٌ وقويٌّ ونزيه، لكن أعضاء مجلس الشيوخ من كلا الحزبين الأميركيين أدانوه. لقد شعروا أنه كان تغييراً كبيراً من احتضان ريغان الدافئ لإسرائيل.

قاوم بوش كل الضغوط، وبعد بضعة أشهر، دعا إلى إنهاء بناء المستوطنات ليس فقط في الضفة الغربية، ولكن في القدس الشرقية أيضاً – وهي المرة الأولى التي أشار فيها رئيس أميركي إلى الإسكان في المدينة على أنه مستوطنات.

تعرّض بَيكر لهجومٍ مُنتَظم من اللوبي المؤيد لإسرائيل. في آذار (مارس) 1992، عندما بدأ بوش محاولة إعادة انتخابه، نشرت صحيفة “نيويورك بوست” عنوان الصفحة الأولى: “إهانة بَيكر المُكوَّنة من 4 أحرف: وزير الخارجية يُهاجم اليهود في اجتماعٍ في البيت الأبيض”. في المقالة المُصاحِبة، كتب رئيس بلدية مدينة نيويورك السابق “إد كوخ” أن بَيكر ردّ على الانتقادات المُوَجَّهة إلى نهج الولايات المتحدة المُتشدّد تجاه إسرائيل بقوله: “اللعنة عليهم. لم يصوّتوا لنا”. بعد كلمة “هم”، أضافت الصحيفة “اليهود” بين قوسين. تم تكرار الاقتباس إلى ما لا نهاية من قبل مُنتقدي بيكر.

نفى البيت الأبيض ووزارة الخارجية أن يكون بَيكر قد قال أي شيء من هذا القبيل، ولكن أشكال التشويه الجديدة استمرّت في الظهور، وكل ذلك مع الإشارة إلى أن بَيكر كان مُعادياً للسامية. جاك كيمب، عضو الكونغرس السابق المؤيد جداً لإسرائيل والذي سمع الاقتباس المزعوم وأخبر كوخ عنه، اعتذر لبَيكر بعد سنوات وادّعى أن كوخ “أخطأ في توصيفه”. لكن الضرر كان وقع.

النفوذ المُحتَمَل

ومع ذلك، فإن سياسات بَيكر للضغط على إسرائيل آتت أكلها. في حزيران (يونيو) 1992، خرج حزب شامير، الليكود، من السلطة في انتخابات الكنيست – وهي نتيجة مباشرة، وفقاً لسيرة بايكر- غلاسر، لرفض بَيكر تقديم 10 مليارات دولار للإسكان.

قال موشيه أرينز، وزير دفاع شامير السابق المُتشدّد، لمؤلِّفَي الكتاب: “خسر شامير الانتخابات جزئياً لأنه لم يتمكّن من الحصول على ضمان القرض”. تمت هزيمة الليكود، وجاء إسحق رابين، زعيم حزب العمل، الذي كان أكثر انفتاحاً على التفاوض على اتفاقية الأرض مقابل السلام مع الفلسطينيين. لقد انتصر بَيكر.

لكن التاريخ لا يُكرّر نفسه، ومعايير الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مختلفة اليوم، بعد ثلاثة عقود من ذروة بَيكر (لا يزال على قيد الحياة في سن ال91). إن النفوذ الأميركي القوي على إسرائيل من خلال حجب المساعدات من شأنه الآن أن يساعد المُتشدّدين اليمينيين في إسرائيل أكثر من المعسكر المؤيد للسلام الذي ضعف فعلياً في البلاد، على الأقل في المدى القصير.

لكن لا ضرر من تجربة الاستراتيجية مرة أخرى. تتمتع أميركا بنفوذٍ كبير مُحتَمَل على إسرائيل، وذلك بفضل الأموال التي تضخها باستمرار. وقد تنهار المقاومة الإسرائيلية الأوّلية أمام تهديدات بفرض عقوبات أميركية مع تذكير الناخبين الإسرائيليين بأن إسرائيل بحاجة إلى الولايات المتحدة أكثر بكثير مما تحتاجه الولايات المتحدة لإسرائيل.

الدرس المُستفاد من نهج بَيكر واضح: ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل قد نجح في إحداثِ تغييرٍ إيجابي في الماضي. يجب تطبيقه للقيام بذلك مرة أخرى.

  • محمد زين الدين هو مراسل “أسواق العرب” في واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى