الخليجُ وإسرائيل بَعدَ حربِ الـ12 يومًا: سلامٌ أم هَيمَنة؟
على دولِ الخليج إعادة النظر في شكل نظام إقليمي قابل للاستمرار. لا يمكن توسيع اتفاقيات أبراهام بدون تغييرٍ في السلوك الإسرائيلي. لن ينبعَ السلام من الهيمنة، بل من التعاون. وهذا يتطلّب من إسرائيل التصرّف كمواطن في المنطقة، وليس كقوة احتلال.

محمد بهارون وأليكس فاتانكا*
في الوقت الذي تسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى توسيعِ نطاق اتفاقيات أبراهام في الشرق الأوسط لتشمل القوقاز وآسيا الوسطى، فإنها تتجاهَلُ تحوُّلًا جذريًا في النظرة إلى إسرائيل في العالم العربي والإسلامي. فبينما كان يُنظَرُ إلى الدولة العبرية في السابق على أنها داوود الذي يُحارِبُ عالَمًا عربيًا أشبه بجالوت، تبدو الأدوار اليوم معكوسة. فإسرائيل، المدعومة بقوّةٍ عسكرية غير محدودة ودَعمٍ أميركي ثابت، يُنظَرُ إليها بشكلٍ متزايد ليس فقط كقوة إقليمية، بل كقوّة مُهَيمِنة إقليمية مدعومة أميركيًا. بالنسبة إلى دول الخليج العربية، يُمثّلُ هذا التحوُّلُ مُعضِلة: هل يمكن لجالوت أن يكونَ شريكًا في السلام؟
لقد دفعت الحملاتُ العسكرية التي تلت 7 تشرين الأول (أكتوبر) -والتي شملت غزة ولبنان وسوريا واليمن، والتي بلغت ذروتها بالضربة الإسرائيلية المباشرة التاريخية على إيران- العديدَ من المسؤولين الخليجيين إلى الإستنتاجِ بأنَّ إسرائيل لم تَعُد تسعى إلى الرَدعِ فحسب، بل إلى الهَيمَنة. من وجهة نظرهم، انتقلت إسرائيل من التصرُّف كقوة الوضع الراهن في الشرق الأوسط إلى استخدام قوتها العسكرية لقلب النظام الإقليمي. وإذا كانت اتفاقيات أبراهام تهدفُ جُزئيًا إلى إنشاءِ جبهةٍ مُوَحَّدة بين قوى الوضع الراهن ضد تهديد إيران التعديلية وما يُسمى “محور المقاومة”، فإنَّ متغيّراتٍ رئيسة في هذه المعادلة قد حدثت الآن. فقد تضاءل التهديدُ الإيراني بشكلٍ كبير، بينما تُمثل إسرائيل تحدّيًا جديدًا خاصًا بها للاستقرار الإقليمي، مما يثيرُ تساؤلاتٍ جوهرية حول الاتفاقيات.
إنَّ تصرُّفاتَ الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك قرار الكنيست الصادر في تموز (يوليو) 2024 برفضِ أيِّ دولةٍ فلسطينية مستقبلية، ورفض المقترح السعودي-الفرنسي لحلِّ الدولتين الصادر عن مؤتمرٍ للأمم المتحدة عُقدَ في تموز (يوليو) 2025، تُعزّزُ الانطباع برؤيةٍ متطرِّفة. ومع مقتلِ أكثر من 60 ألف فلسطيني منذ بدء حرب غزة، ونجاة مدن الخليج بصعوبةٍ من تداعيات الحرب الإسرائيلية-الإيرانية التي استمرّت 12 يومًا، يتزايدُ الاعتقادُ بأنَّ إسرائيل مُستعدّة لاستخدامِ القوة ليس فقط للدفاع عن نفسها، بل أيضًا لمتابعة التحوُّل الاستراتيجي في المنطقة.
يتجاوَزُ هذا التحوُّلُ ساحةَ المعركة بكثير. إنَّ قدرةَ إسرائيل على تحدّي الضغوط الدولية من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، بدونِ عواقب تُذكَر، تُشيرُ إلى تحوُّلٍ سياسي أعمق. ويُشيرُ مراقبو الخليج إلى أنه حتى واشنطن لم تستطِع إجبارَ إسرائيل على إنهاء الأعمال العدائية، أو تأمين إطلاق سراح الرهائن، أو تجنُّب التصعيد مع إيران. في حزيران (يونيو) 2025، شنّت إسرائيل هجومها على الأراضي الإيرانية قبل أيامٍ قليلة من بدءِ جولةٍ جديدة من المحادثات النووية الأميركية-الإيرانية – رُغمَ اعتراضات واشنطن. ثم ما لبثت الولايات المتحدة أن قامت بضرب المواقع النووية الإيرانية بنفسها لمنع المزيد من التصعيد. وبالنظر إلى هذه الأحداث مجتمعة، فإنها أزالت الافتراضات القديمة حول الردع الأميركي وضبط النفس الإسرائيلي.
العدوان يحلُّ محلَّ الاتفاق
في ظلِّ هذه الخلفية، يُعيدُ قادةُ الخليج تقييم اتفاقيات أبراهام. فقد وُصِفَت في الأصل بأنها إطارُ عملٍ لتعزيز السلام والاستقرار، لكنها الآن تُخاطر بإضفاء الشرعية على التفوُّقِ الإقليمي الإسرائيلي. وهذا يُثير قلق المملكة العربية السعودية بشكلٍ خاص، التي دعمت الاتفاقيات الأصلية رمزيًا بفتحِ مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية الإسرائيلية. واليوم، تصرُّ الرياض على حلِّ الدولتين باعتباره السبيل الوحيد للتطبيع، وهو أمرٌ ترفضه إسرائيل علنًا.
في غضون ذلك، فإنَّ الجهود المبذولة لإشراك الدول ذات الغالبية المسلمة مثل أذربيجان وكازاخستان في اتفاقيات أبراهام لا تتعّلقُ بإبرام اتفاقياتِ سلامٍ جديدة بقدر ما تتعلّقُ بالإشارة إلى القيادة الأميركية وتعزيز التحالف الإقليمي ضد إيران وروسيا. وقد حافظت الدولتان على علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل لعقود، لكن ذلك لم يحمِهما من ردود الفعل الشعبية. ففي أذربيجان، أكدت الاحتجاجات خلال حرب غزة حدود التطبيع في غياب العدالة للفلسطينيين. هذا ليس العام 2020. فاليوم، تتعمّقُ المشاعر المؤيدة للفلسطينيين وتنتشر على نطاق أوسع في المجتمعات العربية والإسلامية.
يتمثّلُ الشاغلُ الأساسي لدول الخليج في أن “مبدأ الذراع الطويلة” لإسرائيل -ضرب الخصوم استباقيًا عبر مسارح متعددة- لم يَعُد يُنظَرُ إليه على أنه دفاعيٌّ بحت، بل كاستراتيجيةٍ تهدف إلى تفتيت المنطقة. في إيران، يعني هذا الأمر هجمات ليس فقط على البنية التحتية العسكرية ولكن أيضًا على السجون والقواعد شبه العسكرية بالإضافة إلى جهودٍ لإثارة الاضطرابات في المناطق ذات الأقليات مثل خوزستان وبلوشستان والمناطق الكردية. وقد ظهرَ بالفعل نمطٌ مُماثل في سوريا، حيث برّرت إسرائيل عملياتها في المناطق ذات الغالبية الدرزية تحت ذريعة حماية الأقليات. ويخشى قادة الخليج من أنه إذا أصبح هذا المبدأ طبيعيًا، فقد يُطبَّقُ في نهاية المطاف على دول أُخرى – حتى على العراق أو المملكة العربية السعودية نفسها.
هذا الخوفُ المتزايد -من أن تُصبحَ إسرائيل عملاقًا إقليميًا- يثير أسئلةً صعبة. هل ينبغي للدول العربية الاستمرار في دعم إطار عمل يُمكِّنُ هذا السلوك؟ أم ينبغي عليها إعادة صياغته ليعكس الأولويات الإقليمية: الديبلوماسية، وخفض التصعيد، والشمولية؟
دولٌ خليجية عدة، مثل قطر وسلطنة عُمان، أعادت بالفعل تموضعها كوسطاء بين إيران والغرب. دولٌ أخرى، مثل المملكة العربية السعودية، تنتهج مسارًا وسَطيًا حذرًا: إبقاءُ قنوات الاتصال مع إسرائيل مفتوحة مع إحياءِ العلاقات مع إيران والتركيز على بناء الدولة الداخلية. وهذا يشمل الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في العراق، ومنع انهيار سوريا، وإعادة إشراك الحوثيين في اليمن. الهدفُ هو التوازن الإقليمي، وليس الهَيمنة.
عزّزت حرب الاثني عشر يومًا هذا التحوُّل. فقد هزّت هجماتُ إسرائيل على المواقع النووية الإيرانية، والضربات الانتقامية الإيرانية على قاعدة العديد الجوية في قطر، ثقة دول الخليج في الحماية الأميركية. وإلى جانب فشل الرئيس دونالد ترامب السابق في الردِّ على هجمات العام 2019 على منشآت نفطية سعودية رئيسة، تُدرِكُ دولُ الخليج الآن أنَّ الضمانات الأميركية مشروطة، وأنَّ العسكرة الإسرائيلية غير المُنضَبِطة قد تجلب كارثة على أبوابها.
حتى إيران قد تكون في طور التطوُّر. منذ حرب الاثني عشر يومًا، أعادت طهران هيكلة جهاز أمنها القومي، وشكّلت مجلسَ دفاعٍ جديدًا بقيادة الرئيس مسعود بزشكيان وشخصيات وسطية مثل علي لاريجاني. وركّزت رسائل إيران ما بعد الحرب على الديبلوماسية، بما في ذلك مبادراتها تجاه باكستان ودول “بريكس”. وينظر المسؤولون الخليجيون بشكل متزايد إلى الجمهورية الإسلامية على أنها أقرب إلى داوود منها إلى جالوت.
دعواتٌ واقعية لصانعي سلام
في ضوء ذلك، يجب على دول الخليج إعادة النظر في شكل نظام إقليمي قابل للاستمرار. لا يمكن توسيع اتفاقيات أبراهام بدون تغييرٍ في السلوك الإسرائيلي. لن ينبعَ السلام من الهيمنة، بل من التعاون. وهذا يتطلّب من إسرائيل التصرّف كمواطنٍ في المنطقة، وليس كقوة احتلال.
هذا ليس استرضاءً، بل هو واقعية. إذا أرادت دول الخليج تحقيق سلام مستدام، فعليها تعزيز المبادئ الأساسية لاتفاقيات أبراهام: الاستثمار في الدولة، والعدالة، والاعتراف المتبادل. قد يكون إطار عمل مُعاد تصوّره، يشمل كلًّا من إسرائيل وإيران، ويقوم على مبدَإِ عدم الاعتداء، هو المسار الوحيد القابل للتطبيق للمضي قدمًا.
في عالمٍ مُتعدّد الأقطاب بشكلٍ متزايد، فإنَّ منطقةً خالية من جالوت ليست “يوتوبيا”، بل ضرورة استراتيجية. لكنَّ الاستقرار الحقيقي لن يأتي من مجرد غياب القوى المهيمنة. فبدون توازن قوى إقليمي، سيدعو الفراغ الناتج جالوتات خارجية جديدة للتنافس على الهيمنة، جالبين أشكالهم الخاصة من الفوضى. التحدّي إذن ليس في التخلي عن السلطة بالتمني، بل في إدارتها – بناء نظام إقليمي متجذِّر في ضبط النفس، والمعاملة بالمثل، والسيادة.
- محمد بهارون هو المدير العام لمركز دبي لأبحاث السياسات العامة (بحوث) في دبي، الإمارات العربية المتحدة.
- أليكس فاتانكا هو زميل أول في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.