التَصعِيدُ الإسرائيلي المَفتوح لإلغاءِ أُسُسِ حَلِّ الدَولَتَين
الدكتور ناصيف حتّي*
ما زالت المُفاوضات غير المباشرة بشأنِ وَقفِ الحرب على غزة تُراوِحُ مكانها، رُغمَ الجهود المُكثَّفة التي تبذلها الأطراف الوسيطة. فقد أبلغت حركة “حماس” الوسطاء باستعدادها للقبول بالمقترح الأخير للتهدئة، والذي ينصّ على وقفٍ لإطلاق النار لمدة ستين يومًا كبداية. غير أنّ الردَّ الإسرائيلي جاء رافضًا، إذ أعلن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بوضوح المبادئ/الشروط الخمسة التي يشترطها لوقف الحرب، وتشملُ: الإفراج عن جميع الرهائن، نزع السلاح كُلِّيًا من غزة، منع تصنيع الأسلحة أو تهريبها إلى القطاع، فرض سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة بما فيها إنشاء حزام أمني على محيط غزة المباشر، وأخيرًا تشكيل حكومة مدنية بديلة لإدارة القطاع، لا تضمّ “حماس” ولا السلطة الفلسطينية. بمعنى آخر، تُريدُ إسرائيل منح سلطات بلدية إدارية محدودة ومُقَيَّدة للإدارة الفلسطينية التي ستُشَكَّلُ للقطاع غداة انتهاء الحرب.
بالتوازي مع ذلك، تُصعّدُ إسرائيل عملياتها العسكرية للسيطرة على مدينة غزة، وإفراغ شمال القطاع من سكانه، وتقطيع أوصاله عبر إنشاء خطوط أمنية عسكرية، هي بمثابة أحزمة تطويق، وشلّ سُبُل التواصل الطبيعي داخله، ودفع السكان قسرًا نحو جنوب القطاع. وبحسبِ المنظور الإسرائيلي، يُشكّلُ هذا التهجير الداخلي خطوةً تمهيدية لتهيئة الظروف الضاغطة المؤدّية إلى تهجيرٍ خارج القطاع لاحقًا.
تتزامن الحرب الإسرائيلية على غزة، التي تُوشكُ أن تدخلَ عامها الثاني بعد شهرين، مع حربٍ تصعيدية متواصلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية بوسائل عسكرية وأدوات أخرى متنوّعة. وتندرجُ هذه الاستراتيجية ضمن مشروع ما يُسمى بـ”إسرائيل الكبرى”، وهو ما يصرّح به رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بوصفه “مهمة تاريخية وروحية”، ويتبنّاه وزراء اليمين الديني المُتشدّد في حكومته. وقد سبقه بعض هؤلاء بالدعوة إلى “إعلان السيادة على الضفة الغربية” باعتباره خطوة أساسية لتحقيق هذا المشروع.
وفي هذا السياق، يؤكد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ضرورة المضي قدمًا وتعزيز هذا الهدف عبر جلب مليون مستوطن جديد إلى الضفة الغربية، والعمل على تحويل البؤر الاستيطانية القائمة إلى مستوطناتٍ رسمية. ويترافق ذلك مع سياساتٍ تهدفُ إلى إقصاء الفلسطينيين عن أراضيهم الزراعية لحرمانهم من مصادر رزقهم، ودفعهم قسرًا إلى مغادرتها، فضلًا عن إحكامِ الطوق الاستيطاني حول القدس الشرقية لعزلها عن محيطها الطبيعي، الجغرافي والبشري، في الضفة الغربية. وعلى نحوٍ شبه يومي، تتكرّر التصريحات الإسرائيلية الرسمية التي تدعو إلى تسريع وتيرة مصادرة الأراضي، والعمل على جذب “مليارات الدولارات” للاستثمار فيها، بما يضمنُ استقدامَ مزيدٍ من المستوطنين وترسيخ الطريق نحو إقامة ما يُسمى بـ”إسرائيل الكبرى”.
يهدفُ ذلك بدون شك إلى القضاءِ الفعلي والعملي على إمكانيةِ إقامةِ الدولة الفلسطينية المنشودة في الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس الشرقية؛ الهدفُ العائدُ بقوة، بعدَ غيابٍ أو تغييبٍ طويل عن جدولِ القضايا الضاغطة في المنطقة، إلى جدولِ الأولويّات الديبلوماسية الإقليمية والدولية مع مؤتمر حلِّ الدولتين برعايةٍ سعودية-فرنسية مشتركة. المؤتمر الذي انعقدَ في نهاية تموز (يوليو) في الأمم المتحدة بُغيةَ إطلاق مسار التسوية السلمية عبر خريطة طريق، يُفتَرَضُ أن تتبلورَ في الأشهر القريبة مع انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر المقبل. خريطةُ طريق لا بُدَّ ان تستفيدَ من دروس وعِبَرِ الماضي وكذلك من مخاطر الجمود التي تزيد مع الوقت من التعقيدات والصعوبات أمام الهدف المنشود. وتنشط إسرائيل في إقامة حواجز على طريق حلِّ الدولتين مما يزيد من مصاعب تحقيق ذلك.
لكن لمَن يُريدُ الاستقرار في المنطقة، الذي هو مصلحة للجميع في بناءِ وتعزيز التنمية الوطنية، وكذلك الإقليمية الشاملة، فإنَّ من أهمِّ دروس وعِبَرِ الماضي البعيد والقريب ضرورة العمل على التسوية الشاملة والعادلة، وبالتالي الدائمة لهذا الصراع. التسوية التي تقضي على الوسائل الداعمة لاستمرار هذا الصراع وتغذيته وتوظيفه في صراعات الآخرين وتحت عناوين مختلفة. التسوية المنشودة تساهم في توفير شرط أساسي للاستقرار في المنطقة. فهذا الصراع، كما نعيشه حاليًا يحملُ الكثير من المخاطر على جواره المباشر والاوسع، كما يُشكّلُ بطبيعته وموقعه مادةً أساسية لتغذية صراعاتٍ قائمة أو لخلق صراعاتٍ جديدة.
خلاصةُ الأمر أنَّ تسويةَ حلِّ الدولتين بدون شك أمامها الكثير من الصعوبات والعوائق. ولكنها ليست بالتسوية المستحيلة إذا ما توفّرت الرؤية والإرادة عند الأطراف الإقليمية والدولية المعنية، ووظّفت القدرات الضرورية في هذا السياق للتوصُّل إلى هذا الحل الصعب جدًا كما أشرنا، ولكنه الوحيد الذي يوفر زخمًا أساسيًا وقويًا وضروريًا لإقامةِ شرقِ أوسطٍ جديد.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).