مئوية عاصي الرحباني  (1 من 2)

جوزف عازار: يوم وقف شابًّا جديدًا يغني أَمام “الأُستاذ عاصي”

هنري زغيب*

(4 أَيار/مايو: المئَوية الأُولى 1923-2023 لولادة عاصي الرحباني)

بات سائدًا أَن الأَخوين رحباني متَّحدان سيرةً ومسيرةً حتى لا يمكن، بناءً على إِرادتهما، ولا يجوز التمييز بين مَن كَتَب ومَن لَحَّن. غير أَنَّ لكلٍّ منهما، خارجَ فضاء العمل المكتوب أَو الملحَّن، شخصيةً خاصةً في تعاطيه مع السوى.  

من هنا كانت هذه الجلسة إِلى الفنان جوزف عازار الذي بداياتُه، كما يعترف دومًا، تَدين للكبير عاصي الرحباني. ومن هنا نستذكر عاصي في مئوية ولادته.

“جسر القمر”: “صالح ابن مختار القاطع”

“الأُستاذ عاصي”

خلال جلستنا الطويلة، لم يقُل مرة واحدةً “عاصي”. دائمًا يقولها بإِجلال وفيّ: “الأُستاذ عاصي”. ومنذ مطالعه إِلى اليوم ما زال يدين بالولاء لــ”الأُستاذ عاصي” في مسيرته الفنية التي ابتدأَت قبل 62 سنة.

كان ذلك في ربيع 1961 يومَ اتصلَت به نسيبةٌ له، عضو في “لجنة مهرجان بعلبك”، تُخبره أَن الأَخوين رحباني يَبحثان عن أَصوات جديدة لإِغناء “الفرقة الشعبية اللبنانية” التي كانا أَسَّساها سنة 1960 مع زميلهما صبري الشريف لـ”إِحياء التراث الشعبي اللبناني”.

يومها كان الشاب جوزف عازار في ربيعه الرابع والعشرين (هو من مواليد جزين سنة 1937)، ويزاول تدريس الصفوف المتوسطة لدى “مدرسة الفنار” (شرقيّ بيروت)، وكانت فرعًا لمدرسة “الحكمة” الشهيرة في قلب بيروت (الأَشرفية). ولم يكن ذاك الشاب معروفًا إِلَّا في بيئته الضيِّقة، يغنِّي في حفلات عائلية وأُخرى محلية، ويرقص الدبكة، ويغني أَو يرنِّم في بعض حفلات مدرسته “دير سيدة مشموشة”، وله ظهور واحد سنة 1959 في التلفزيون غنى خلاله “كنتُوا حناين ليش غيَّرتوا” (كلمات أَسعد السبعلي وتلحين وديع الصافي).

“الليل والقنديل”: “هَوْلُو” سيّد العتمة أَمام “منتورة” سيدة النُور

عاصي حازمًا: “جاء للغناء لا للرقص”

اتصل جوزف بالرقم المعطى له، وذهب إِلى الموعد عند محلة “المنارة” في بيروت، حيث كانت التدريبات قائمة تحضيرًا للعمل الرحباني الجديد “البعلبكية” على أَدراج معبد جوبيتر في بعلبك. لم ينتظر طويلًا في القاعة حتى ناداه مدرِّب الرقص شبل بعقليني للمشاركة، فلاحظ خفَّته في “سداسية الدلعونا”، وطلب منه أَن “يُمسِك على رأْس صف الدابكين” ففعل. وما هي حتى وصل “الأُستاذ عاصي” يسأَل عن شابٍّ طالبٍ موعدًا اسمه جوزف عازار. أَجابه شبل أَنه هنا يرقص مع الفرقة. قال عاصي إِنه جاء للغناء في الكورال لا للرقص. وأَمسك به وأَدخله إِلى مكتب مجاور كان فيه صبري الشريف ومنصور الرحباني. وبطلبٍ من عاصي غنى “يا اختي نجوم الليل شوفيها” (كلمات أَسعد السبعلي وتلحين وديع الصافي). لم يُجِب عاصي. طلبَ من صبري أَن يسجِّل رقمًا هاتفيًا للاتصال بهذا “الصوت الجديد”.

بعد 15 يومًا، جاءَه الاتصال إِلى المدرسة، فنزل إِلى مكتب الأَخوين رحباني في بدارو (حرش الكفوري). ولم يخرج من الاجتماع يومها إِلَّا بعد توقيعه أَول عقد عمل معهما للمشاركة في كورال مغْناة “البعلبكية”. وخلال التمارين في المكتب، طلب منه عاصي أَن يكون ثالثًا مع وليم حسواني وجوزف ناصيف لأَداء حوار “لوين؟؟ رايحين” مع السيِّدة فيروز.

“بياع الخواتم”: “راجح” الشخصية الخالدة

عاصي فتح له مهرجان بعلبك

هكذا كان ظهورُه الأَول في بعلبك صيفًا، تلاه العرضُ ذاتُه بعد أَسابيع في “معرض دمشق الدولي”. وبالعودة إِلى بيروت، طلب منه “الأُستاذ عاصي” أَن يرافق “الفرقة الشعبية اللبنانية” إِلى جولةِ شهرٍ كاملٍ لـ15 حفلة في البرازيل والأَرجنتين، فشعر بأَن طريقه إِلى الفن باتت تَعِدُه بمستقبل فني. بعد العودة من تلك الجولة، كانت في البرنامج الرحباني حفلتان في لندن (أَلبرت هُولّ) ومانشستر، فشارك بهما ملبِّيًا طلب عاصي الذي قال له إِنه سينفرد عن الكورال لتكون له مقاطع وحده سولو في الـمَشاهد الغنائية. وما هي حتى طلب منه “الأُستاذ عاصي” أَن يَترك التدريس (بعد خمس سنوات زاوله في تلك المدرسة) ففعل. ولم يتخلَّ عاصي عن التزامه، فخصَّص له منذئذٍ راتبًا شهريًّا يعوِّض له عن تركه التدريس.

“جسر القمر”: عاصي أَعطاه فرصته الثانية

مع اقتراب صيف 1962، بدأَت التحضيرات لـمسرحية “جسر القمر” في مهرجان بعلبك، وكان له فيها دورٌ بارز (“صالح” ابن مختار القاطع): “نحنا من أَهْل القاطع جينا لْـهالـحـَيّ… بَدنا نِحْكي ونْشارعْ عَ سَقْي الْمَيّ”، وكان له المشهد الأَخير الذي به يختتم الفصل الأَول. بعد العرض في بعلبك، كان العرض ذاتُه في “معرض دمشق الدولي” قسمًا ثانيًا من تلك الليلة بعد قسم أَول غنى فيه جوزف عازار “أَذكر يومًا كنتُ بِــيافا” ضمن باقة أُغنيات فلسطينية.

تلك الشهرة على المسرح الرحباني حملَتْ له في صيف 1963 دورًا بارزًا أَمام صباح في مسرحية “الشلال” لروميو لحود مع وليد غلمية. غير أَنه ذات ليلة، قبل صعوده إِلى المسرح، فاجأَه منصور الرحباني حاملًا له تحية “الأُستاذ عاصي” وسيناريو مسرحية “الليل والقنديل”. وعاد جوزف عازار من جديد يقف أَمام السيِّدة فيروز بدور “هَوْلو” سيِّد العتمة حيال “منتورة” سيِّدة النُور. كان ذلك أَولًا في دمشق ثم في كازينو لبنان.

“بياع الخواتم”: “راجح” الشخصية الخالدة

ولم يغادره “الأُستاذ عاصي”. بينما كان جوزف في بعلبك (صيف 1963) يشارك في مسرحية “أَرضنا إِلى الأَبد” مع فرقة “الأَنوار” (برعاية سعيد فريحة)، فاجأَه منصور الرحباني مجدًّدًا حاملًا إِليه تحيَّة عاصي وسيناريو مسرحية “بياع الخواتم”، وله فيها دور “راجح”، الشخصية التي ستبقى ملازمةً مسيرتَه الفنية حتى اليوم، أَطلَّ بها سنة 1964 على مسرح غابة الأَرز ثم في “معرض دمشق الدولي”. وفي تلك السنة أَيضًا، شارك في عرض “حصاد ورماح” الذي به دخل الأَخوان رحباني عمَّان للمرة الأُولى.

ثم تتالت بعدها أَعمال جوزف عازار في الفضاء الرحباني: “عودة العسكر” (سينما كابيتول – بيروت)، “حكاية الإِسوارة” (تلفزيون لبنان والمشرق)، “القدس في البال” (تلفزيون لبنان والمشرق)، وسواها.

يَغيم جوزف عازار في ذاكرته، ويَعود إِليَّ بعد ثوانٍ مثْمرة: “كان للأُستاذ عاصي حُنوٌّ خاصٌّ علَيّ، وكانت له عناية غامرة بكل عنصر من أَعضاء الفرقة الشعبية. كان حضورُه لازمًا كي ينضبطَ العمل، ضروريًّا كي ينجحَ العمل، وأَساسيًّا كي يبقى العمل على المستوى الذي يريد الأُستاذ، وهو المتشدِّد جدًّا في شأْن المستوى الفني الأَعلى… كان كريم النفس والقلب… كان فريدًا في شخصه وشخصيته”.

ماذا بعدُ مع جوزف عازار في مئوية “الأُستاذ عاصي”؟

هذا ما أَكشفه في الجزء المقبل من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى