جان كميد: كُتَّابُ العرب في “الرسالة” اللبنانية (1 من 2)

جان كمَيد (1930-2020): ريادة في الصحافة الأَدبية

هنري زغيب*

كم رفوفُ المكتباتِ العتيقةُ تحتضن كتُبًا ومجلَّاتٍ ذبُلَت أَوراقُها من عطش النسيان، رازحةً تحت أَصداء الغبار، تتردَّد في نصوص كُتَّابٍ كانوا ذات حقبةٍ نجومَ عصرهم، وغابوا مع غروب أَيامهم، وها تسكُن اليوم نُصوصهم في صمت تلك الصفحات المصفرَّة في سكون الأَوراق الذابلة من عطش النسيان.

هو هذا قَدَر مجلة “الرسالة” اللبنانية التي، قبل ثُلثَي قرنٍ، كانت سُطوعًا أَدبيًّا من لبنان إِلى العالم العربي، وهي اليوم ترقدُ خلف غفلة الزمان.

العدد الخاص عن الياس أَبو شبكة

ذات طفولة… ذات اكتشاف

اكتشفتُ الياس أَبو شبكة الرجُل في ليلةٍ من ليالي طفولتي، ذاتَ كنتُ، ككُل صيف، أُمضي العطلة المدرسية في ضيعة جدَّتي التي أَخبَرَتْني عنه ليلتَها تفاصيلَ جنونٍ وشخصيَّةٍ فريدةٍ ومهابةِ شهرةٍ واحترام في قريته زوق مكايل، ما حبَّبني به عفويًّا في فضول لم أُدرك صيفئذٍ هويتَه. بعدها بسنوات ضئيلة، وكنتُ شارفتُ على الشباب بخيالات أَدبية، كان لي أَن أَكتشفَه شاعرًا قبل أَن أَقرأَه، يوم وجدْتُ صِدفةً في مكتبة والدي مجلةً عتيقةً (من سنة 1956) كانت أَصدرَت عنه عددًا خاصًّا (سَـمَّتْه “عددًا ممتازًا”) قرأْتُ فيه ما حبَّبني أَكثر بذاك الشاعر الذي ستكون لي معه لاحقًا مسيرةٌ طويلةٌ من الاهتمام بشعره وآثاره وتراثه.

ما إِن فتحتُ يومها ذاك العدد، حتى انتفح أَمامي أُفقُ معرفةٍ وسيعٌ في تلك المجلة كرَّسَ ميلي أَكثرَ صوب عالم الأَدب.

تلك المجلة كانت “الرسالة”، وكان وراءَها رئيسُ تحريرٍ مفردٌ بِـخَليَّة جمْع: جان كمَيد.

ومن يومها ضاءَت لي طريقٌ كنتُ أَرغب في سُلوكها منذ مطالعي، وما زلت أَسلكها وأَنبُض بجمالها.

لم أَكن أَعرف جان كمَيد. وإِذ حدَّثني عنه أَبي، وكان صديقَه ومشتركًا في “الرسالة”، وَسَمَهُ لي أَديبًا وناقدًا وكاتبًا صحافيًّا أَتقن عملَه في “الرسالة”، صادرةً عن “جمعية الـمُرسَلين اللبنانيين” في معهد الرُسُل الذي كان يومَها معهدي سحابةً غنيَّةً من سنوات دراستي.

هويَّة “الرسالة”: تحريرًا وصُدُورًا وعنوانًا

أُفُق “الرسالة”

كلُّ ذلك كان قبل أَن أَقرأَ شعر أَبو شبكة، فكانت مجلة جان كمَيد دربي إِليه على صفحات ذاك العدد الخاص (السنة الثانية – العدد الخامس – أَيار/مايو 1956). ولا أَذكر كم مرةً قرأْتُ ذاك العدد وما فيه من ملامح شاعرٍ كان أَولَ فجرٍ أَدبـيٍّ طلَع عليَّ في ما أَنا إِليه اليوم.

بين ما قرأْتُ في تلك صفحات: “شخصية العدد” عن أَبو شبكة (اكتشفتُ أَنه كان يرغب في كتابة اسمه “أَبو” شبكة في جميع حالات الإِعراب) ودراسة موسَّعة كتبَها رئيس التحرير جان كمَيد: “حكاية العمر في غَزَل أَبو شبكة” انفتحت منها أَمامي صفحة زهرية من سيرة الشاعر الذي عرف في حياته أَربع نساء طبعَت كلٌّ منهُنَّ شعره بمرحلة مغايرة حتى بلغ مع رابعتهنَّ (ليلى) قمَّة شعره في أَجمل كتابين له “نداء القلب” (1944) و”إِلى الأَبد” (1945).

ومع كل مقال عن أَبو شبكة من ذاك العدد “الممتاز”، راحت تنهمل أَمامي أَسماء مضيئة من أُدباء لبنان والعالم العربي، كم كانت تكبر عيناي وهما تنقُلانها إِلى طموحي الأَدبي الباكر: ميخائيل نعيمة، بطرس البستاني، قيصر الجميِّل، رئيف خوري، مارون عبود، فؤَاد حبيش، شفيق معلوف، عبداللطيف شرارة، أَنطُون قازان، زكي المحاسني، نقولا بسترس، إِحسان عباس، جورج غريِّب، حارث طه الراوي، ابرهيم شعراوي، علي الحلّي، محمد النقْدي، جيهان غزَّاوي، زهير أَحمد، موسى النقْدي، نديم مرعشلي، عبدالخالق فريد، خليل هنداوي، نقولا قربان.

مارون عبود: من أَبرز كُتَّاب “الرسالة”

شاب موهوب اسمه پـيار صادق

أَسماء كانت جديدةً على مجهولاتي الأَدبية فترتئذٍ، لكنها ساطعة في تلك الحقبة، بين أَصحابها مَن عرفَ أَبو شبكة، ومنهم مَن لم يعرفْه وكان يجلُّه فكتب فيه مقالًا أَو قصيدة. جميعها وعَّت فيَّ أَكثر فأَكثر، منذ تلك اليفاعة، نَهَمي على شق طريقي صوب عالم الأَدب، شعره والنثر.

ولفتَني في العدد، على ضآلة الإِمكانات الطباعية قبل 66 سنة، أَنَّ فيه لونين (الأَحمر الإِضافي إِلى الأَسود العادي)، كما لفتَني توقيع “صادق” على زخرفٍ في العناوين وخطوطها ورُسُوم بارعة لبعض الأُدباء وفي طليعتهم أَبو شبكة. كان ذلك توقيعَ شابٍّ موهوب في السابعة عشرة اسمه الكامل پـيار صادق، طالبٌ يدرس الرسم في الــ”أَلبا” (الأَكاديميا اللبنانية للفنون الجميلة)، بدأَ رُسُومه وتخطيطاته الأُولى وكاريكاتوره الصحافي مع انطلاق مجلة “الرسالة” (كانون الثاني/يناير 1955) وبقي يَرفدُها برسومه وخطوطه وأَكثر من غلاف إِلى عددها الأَخير (أَيار/مايو 1958)، حتى إذا احتجَبَت “الرسالة” انتقل إِلى مجلة “الصياد” (1958).

أَبو شبكة: رسْمًا وتخطيطًا بريشة پـيار صادق

جان كمَيد ناسكًا

تشبَّعتُ كثيرًا من ذاك العدد الذي أَعترف اليوم بفضله المزدَوج عليّ: اكتشافي أَبو شبكة وتأْكيد حبّي عالَمَ الأَدب. بقي عليَّ أَن أَتعرف بذاك الناسك الأَدبي جان كمَيد الذي أَسَّس هذه المجلة وانصرفَ إِليها رئيسَ تحريرٍ وكاتبًا وناقدًا ومشْرفًا ومتَّصلًا بكبار الأُدباء فترتئذٍ، يراسلونه ويرسلون إِليه نصوصهم، شعريَّها والنثريّ، كي ينشرها لهم في تلك المجلة الراقية التي جعلها جان كمَيد بدأْبه وثقافته الواسعة طليعة المجلات الأَدبية في منتصف الخمسينات.

وحين التقيتُهُ ذات محاضرة في “مجلس كسروان الثقافي” (جونيه)، وكان أَحدَ أَركانه المؤَسسين، قدَّمتُني إِليه فرحَّب بي صديقًا لوالدي، وبدأَت لي معه من يومها علاقةٌ أَدبية طويلة توَّجَها منذ مطْلعها بأَن أَهدى إِليّ مجموعة غنية من أَعداد “الرسالة” فتحَت لي صفحاتُها آفاقًا مثْمرةً على كوكبة مبدعة من كُتَّاب لبنان والعالم العربي، وخصوصًا في أَعدادها الخاصة عن أُدباء لبنانيين خالدين.

مَن كانت تلك الكوكبة؟ وعمَّن كانت تلك الأَعداد الخاصة؟

هذا ما يكشفه الجزء الثاني من هذا المقال (“أَسواق العرب” الجمعة المقبل).

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى