التَخَلّي عن الدَولَار عالميًا أمرٌ لا مَفَرَّ منهُ، لكنَّ العالمَ غيرُ مُستَعِدّ

على صانعي السياسات في جميع أنحاء العالم البدء ليس فقط بالتخطيط لنظامٍ نقدي ما بعد الدولار، بل ببنائه وإنشائه بنشاط. وهذا الأمرُ لا يتطلّب التخلّي عن الدولار فورًا أو الانغماس في أحلام يقظة بشأن زواله، بل يتطلّبُ استعدادًا عمليًا لعملية انتقالٍ تبدو حتمية بشكلٍ متزايد.

ليست هناك بعد عملة بديلة تحل محل الدولار.

نيكولاس كريل*

في أواخر أيار (مايو) الفائت، قفزت عوائد سندات الخزانة الأميركية إلى أعلى مستوى لها منذ العام 2023، بعد أن أقرّ مجلس النواب تخفيضاتٍ ضريبية شاملة كجُزءٍ من الميزانية المقترحة من الرئيس دونالد ترامب. وعَكَسَ ارتفاعُ سعر الفائدة الفعلي على اقتراضِ الحكومة الأميركية مخاوفَ المستثمرين بشأن الأثر المالي لمشروع القانون، الذي سيُضيفُ، في حالِ إقراره من قِبَلِ مجلس الشيوخ وتوقيعه كقانون، 3.8 تريليونات دولار إلى الدين الفيدرالي -البالغ حاليًا 36.2 تريليون دولار- على مدى العقد المقبل، وفقًا لتقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس.

لا تُمثّل الاضطرابات التي يشهدها سوق السندات الأميركية مجرّدَ عثرةٍ مالية عابرة، بل تُشيرُ إلى الهزّات المُبكِرة لما وصفه جيمي ديمون، رئيس مجلس إدارة بنك “جي بي مورغان”، بـ”صَدَعٍ وشيك في سوق السندات”، قد يُطلقُ شرارةَ إعادةِ تنظيمٍ كارثية محتملة في النظام الاقتصادي العالمي. مع تجاوُزِ عائدات ديون الحكومة الأميركية طويلة الأجل 5%، بدأ المجتمع الدولي يُواجِهُ حقيقةً مُقلقة، وهي أنَّ القوة المُهَيمِنة عالميًا تتجه نحو أزمةِ ديونٍ سيادية بدون أيِّ حلٍّ واضح في الأفق.

وعلى عَكسِ أزمات الديون السيادية السابقة التي أثّرت في الاقتصادات الطَرَفيّة أو حتى الدول الأوروبية الكبرى، تُهدّدُ الأزمة المالية الأميركية الناشئة أُسُسَ النظام النقدي الدولي لما بعد مؤتمر “بريتون وودز”. لذا فإنَّ دورَ الدولار كعملة احتياطية عالمية، ووظيفة سوق سندات الخزانة الأميركية كملاذٍ آمن عالمي، وقدرة الولايات المتحدة على العمل كمستهلك الملاذ الأخير، باتت كلّها على المحك. وتمتدُّ هذه الآثار لتشمل كلَّ بنكٍ مركزي وصندوقِ ثروةٍ سيادي ومؤسّسة دولية بنت أسسها على افتراضِ الاستقرارِ المالي الأميركي.

المخاطر العالمية وآليات العدوى

إنَّ التداعيات الدولية للأزمة المالية الأميركية من شأنها أن تتفوَّقَ على أيِّ عدوى مالية شهدناها في التاريخ الحديث. إنَّ سندات الخزانة الأميركية تؤدّي وظائف حيوية مُتعدِّدة في النظام المالي العالمي. فهي تُمثّلُ الأصلَ الاحتياطي الرئيس للبنوك المركزية، والضمان المُفضَّل للمعاملات الدولية، وسعر الفائدة “الخالي من المخاطر” المرجعي الذي تُسَعَّر به جميع الأصول الأخرى. تحتفظُ الحكومات والمستثمرون الأجانب بحوالي 9 تريليونات دولار من سندات الخزانة، وتمتلك ثلاث دول فقط -اليابان والمملكة المتحدة والصين- ما يقرب من ثلث هذا المبلغ.

سيؤدي فقدان الثقة المُستَمِر في الإدارة المالية الأميركية إلى سلسلةٍ من العواقب. فإذا انخفضَ سعرُ سندات الخزانة، الذي يتحرّكُ عكسيًا مع العوائد، بشكلٍ حاد، ستُواجِهُ البنوكُ المركزية حولَ العالم خسائرَ ورقية فادحة في احتياطياتها، مما قد يُزعزعُ استقرارَ عملاتها. سيشهدُ النظامُ المصرفي العالمي، الذي يعتمدُ على سنداتِ الخزانة كضماناتٍ عالية الجودة، أزمةَ سيولةٍ حادة. كما ستشهدُ الأسواق الناشئة، التي غالبًا ما تُسَعِّرُ ديونها بعلاوةٍ على سندات الخزانة الأميركية، ارتفاعًا حادًا في تكاليف الاقتراض بغضِّ النظر عن حصافتها المالية.

وللتداعيات الجيوسياسية القدر نفسه من العمق. ستُواجه الولايات المتحدة، التي تُعاني من ضعفٍ مالي، صعوبةً في الحفاظ على التزاماتها العسكرية العالمية، مما سيخلق فراغات في السلطة ستسعى القوى المنافسة جاهدةً لمَلئها. سيَفقُدُ استخدامُ الدولار كسلاحٍ من خلال العقوبات -وهو أداة رئيسة في السياسة الخارجية الأميركية- فعاليته، مع تسريعِ دولٍ عدة جهودها لبناءِ أنظمةِ دَفعٍ بديلة. وبالفعل، تُشيرُ تجارب الصين مع تسويات “اليوان الرقمي” عبر الحدود وتوسيع اتفاقيات مقايضة العملات الثنائية إلى أنَّ العالم يستعد لتقليل الاعتماد على الدولار.

لماذا يختلفُ الأمرُ هذه المرة؟

راجت توقّعاتُ انهيارِ الدولار لعقود، بدءًا من أزمة الركود التضخّمي في سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى الأزمة المالية العالمية في العام 2008. في كلِّ مرة، كان الدولار يستعيد قوته، مستفيدًا مما أسماه عالم الإقتصاد والمؤرخ الإقتصادي الأميركي باري آيكنغرين “امتيازه الباهظ” -أي قدرة الحكومة الأميركية على الاقتراض بعملتها المحلية بأسعار فائدة تفضيلية، بينما تحتفظ الدول الأخرى بالدولار كاحتياطيات. وقد ثبت خطأ منتقدي الإسراف المالي الأميركي باستمرار. فلماذا إذن نعتقد أنَّ هذه المرة مختلفة؟

يكمن الجواب في التقاءٍ غير مسبوق للعوامل التي تُمَيّزُ أزمة اليوم عن الأزمات السابقة. فعندما وُضِعت توقعات سابقة بتراجع الدولار ودوره، كانت نسبة الدين الأميركي إلى الناتج المحلي الإجمالي ضئيلة للغاية مقارنةً بمستوياتها الحالية -أقل من 40% في سبعينيات القرن الماضي، وحوالي 65% قبل أزمة 2008. حاليًا، يبلغ هذا الرقم 121%، أي ضعف معيار الـ 60% الذي يُعتبَرُ على نطاقٍ واسع مستدامًا ماليًا. والأهم من ذلك، أنه في هذه الفترات السابقة، كان النظام السياسي الأميركي لا يزال قادرًا على التوصل إلى حلولٍ وسط بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي بشأنِ المسائل المالية. وقد أظهرَ إصلاحُ الضمان الاجتماعي الذي أُقرَّ في العام 1983 واتفاقيات الميزانية التيَّ تم التفاوض عليها في التسعينيات أنَّ الديموقراطية الأميركية لا تزال قادرة على اتخاذ خياراتٍ صعبة عند الضرورة.

لا يُقدّمُ المشهدُ السياسي اليوم أيَّ أملٍ من هذا القبيل. فالتحزُّبُ المُفرِط الذي شلّ واشنطن لا يُظهِرُ أيَّ بوادر على التراجع. لقد خلقت الأنظمة الأساسية، التي تُعاقِبُ الاعتدالَ المالي وتُكافئ الإسرافَ المالي، حوافزَ سياسية تضمن عمليًا استمرار التدهور. في غضون ذلك، تنضجُ بسرعةٍ البدائل التكنولوجية لنظام الدولار التي لم تكن موجودة خلال الأزمات السابقة، بدءًا من تجارب اليوان الرقمي الصيني مع الشركاء التجاريين، ووصولًا إلى شبكات تبادل العملات المتطوّرة. وتعمل الدول التي تسعى إلى عزل نفسها عن العقوبات المالية الأميركية بنشاط على بناء البنية التحتية لعالم ما بَعدَ الدولار.

ولعلَّ الأهمَّ من ذلك كله هو أنَّ السياقَ العالمي قد تَغَيَّرَ جذريًا. تُواجِهُ الاقتصادات الكبرى الأخرى ضغوطًا مالية شديدة، ما يَحُدُّ من قدرتها على العمل كعوامل استقرار. فاليابان تُعاني من نسبةِ دَينٍ هائلة إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 250%، وبدأت تنهار تحت وطأة ديونها الساحقة. أما الدول الأوروبية، التي تُعاني أصلًا من مستويات ديون مرتفعة، فتواجه الآن ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي بشكلٍ كبير، في ظلِّ عدم موثوقية الضمانات الأمنية الأميركية. ويتطلّبُ تحقيقُ هدف حلف شمال الأطلسي (الناتو) المُتمثّل في تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي من الأعضاء الأوروبيين توفير عشرات المليارات من اليوروات الإضافية سنويًا، في وقتٍ يُعاني الكثيرون بالفعل من عجزٍ كبير في ميزانياتهم. والأسوأ من ذلك، أنَّ التحالفَ يقتربُ الآن من الموافقة على طلب إدارة ترامب برفع هدف الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. حتى الصين تُعاني من أزمةِ ديونٍ حكومية محلّية وانهيارٍ في قطاع العقارات يُهدّدُ استقرارها المالي. فعندما يواجه الجميع ضغوطًا مالية، يُصبِحُ التنسيق اللازم لإدارة الأزمة شبه مستحيل.

تشريحُ أزمةٍ غير مَسبوقة

آلياتُ التدهور المالي في الولايات المتحدة واضحة، لكنها مُدَمِّرة. وتتبع حلقة ردود الفعل، التي تهدد بالترسُّخ الآن، نمطًا مألوفًا من أزمات الديون السيادية السابقة في أماكن أخرى من العالم، وإن كان على نطاقٍ غير مسبوق. فمع فقدان الأسواق ثقتها بالاستدامة المالية لدولةٍ ما، فإنها تُطالب بعوائد أعلى لتعويض المخاطر الأكبر التي تتكبّدها في شراء الديون السيادية. وتؤدي تكاليف الاقتراض المرتفعة هذه إلى تدهور الوضع المالي للدولة، مما يزيد من تآكل ثقة المستثمرين ويدفع العوائد إلى الارتفاع. وفي الأسواق الناشئة، تنتهي هذه الدوّامة عادةً بتدخّلٍ من صندوق النقد الدولي وإجراءات تصحيح هيكلي مؤلمة. أما بالنسبة إلى أكبر اقتصاد في العالم وأكبر مُصدّر لعملات الاحتياط، فلا يوجد مثل هذا المُثبِت الخارجي.

وما يُميِّزُ حالة الولايات المتحدة عن السوابق التاريخية هو التقاءَ قنابل مالية موقوتة ضخمة متعددة. سيجفُّ صندوق ائتمان برنامج معاشات الضمان الاجتماعي في العام 2033، وبعد ذلك سيتم تلقائيًا تخفيض الفوائد بنسبة 20% تقريبًا – وهو ما يُعتبر “السكة الثالثة” في السياسة الأميركية. ومن المتوقع أن يواجه برنامج التأمين الصحي للدخل المنخفض “ميديكير” ضغوطًا مماثلة بعد ثلاث سنوات على ذلك، أي في العام 2036. يُضافُ إلى ذلك حقيقة أنه عندما تضرب هذه الأزمات، يمكن للولايات المتحدة أن تتوقع إنفاق حوالي 2 تريليوني دولار سنويًا على مدفوعات الفائدة وحدها وفقًا للتوقعات الحالية.

تُعزى أزمات الاستحقاقات هذه إلى حقائق ديموغرافية لا رجعةَ فيها إلى حدٍّ كبير، وهي شيخوخة السكان وقلة عدد العمال الذين يُعيلون كلَّ متقاعد. ومما يُفاقِمُ هذا التحدي اعتماد الولايات المتحدة الآن على الهجرة كمُحرِّكٍ رئيس للنمو السكاني. ومع ذلك، في ظل الخلل السياسي الأميركي، والاستقطاب المجتمعي، وسياسات إدارة ترامب المُعادية للأجانب بشكلٍ صريح، من المرجح أن تصبح البلاد أقلَّ جاذبية للمهاجرين المُحتملين بشكلٍ متزايد، ما يعني أنها ستقطع هذا الشريان الديموغرافي في الوقت الذي تشتدُّ الحاجة إليه. وإذا استمرّت الهجرة في الانخفاض، فإنَّ حسابات الاستحقاقات تُصبح أكثر كارثية.

المحفّزات والإنذارات في المدى القريب

في حين تُمثِّلُ أزماتُ الاستحقاقاتِ في الفترة 2033-2036 نقاطَ تحوُّلٍ هَيكَلية، إلّا أنَّ العديدَ من التطوّرات في المدى القريب قد تُؤدّي إلى أزمةٍ في وقتٍ أقرب بكثير. وكما يتضح من هزّات الشهر الفائت، فإنَّ سوقَ سندات الخزانة يُظهِرُ بالفعل علامات توتُّر. أصبحت المزادات الضعيفة، التي بالكاد يُغطي فيها الطلبُ الدَينَ المَعروض وترتفعُ فيها العائدات لجذبِ عددٍ كافٍ من المشترين، أكثر تواتُرًا. قد تبدأ عودة “مراقبي السندات”، الذين يبيعون حيازاتهم من سندات الخزانة الأميركية للتعبير عن رفضهم للسياسة المالية الأميركية، برفع العوائد بشكل حاد، مما يتطلّب من المتعاملين الأساسيين -البنوك ووسطاء الأوراق المالية الذين يشترون سندات الخزانة مباشرة من الاحتياطي الفيدرالي لبيعها للمستثمرين الأفراد- استيعاب حصة كبيرة بشكلٍ غير معتاد.

وقد تمَّ بالفعل تجاوز العتبة النفسية البالغة 5% لعوائد سندات الخزانة لأجَلِ 10 سنوات مرات عدة. إذا استقرت العوائد فوق 6% -وهو مستوى لم يُرصَد إلّا في الفترة التي سبقت الأزمة المالية في العام 2008- فقد تصبح حلقة ردود الفعل بين ارتفاع تكاليف الاقتراض وتدهور المؤشرات المالية ذاتية التعزيز بسرعة.

من جهة أُخرى، ازدادت حدة تحذيرات وكالات التصنيف الائتماني. فقد خفضت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيف الدين الأميركي من “AAA” في العام 2011، وحذت وكالة “فيتش” حذوها في العام 2023. وأكملت وكالة موديز الثُلاثية الشهر الماضي، حيث سحبت من الولايات المتحدة آخر تصنيف “AAA” لها. ومع تصنيف الوكالات الرئيسة الثلاث للدين الأميركي دون المثالي، بدأت بالفعل عمليات البيع القسري من قبل المؤسّسات المُلزَمة بامتلاك الأوراق المالية المصنفة “AAA” فقط، مثل صناديق التقاعد ونقابات موظفي القطاع العام. والأمر الأكثر خطورة هو أن تكلفة التأمين ضد التخلّف عن سداد الديون الأميركية من خلال مقايضات التخلف عن سداد الائتمان قد ارتفعت إلى مستويات تشير إلى أنَّ الأسواق بدأت تُقيِّم سيناريوهات لم تكن تُصدَّق سابقًا. أصبحت مخاطر الديون السيادية الأميركية الآن مماثلة لتلك التي تُقيّم بها دول حاصلة على تصنيف “BBB+” مثل إيطاليا واليونان، وهو انفصالٌ صارخ عن التصنيفات الرسمية يكشف كيف تُقيّم الأسواق الاستدامة المالية الأميركية حقًا.

الاقتصاد السياسي للتقاعُس

إنَّ الجانبَ الأكثر إثارة للقلق في المسار المالي للولايات المتحدة هو العجزُ الواضح لنظامها السياسي عن تصحيح مساره. يتطلّب أيُّ ضبطٍ مالي جدّي زيادات ضريبية كبيرة وإصلاحًا لبرامج الاستحقاقات، وهو مزيجٌ أصبح ذا تأثير سياسي ضار. كانت آخر محاولة جادة لمثل هذه الصفقة المالية الكبرى في العام 2011، خلال إدارة الرئيس باراك أوباما آنذاك، وقد فشلت. ومنذ ذلك الحين، تراجع كلا الحزبين إلى مواقفهما، حيث رفض الجمهوريون تأييد الزيادات الضريبية، بينما حمى الديموقراطيون برامج الاستحقاقات من أيِّ إصلاحٍ ذي معنى.

لذا، يجب على المجتمع الدولي مواجهة حقيقة مزعجة: لا يوجد مسارٌ سياسي مُتَوَقَّع للاستدامة المالية الأميركية. لا يزال الهيكل الاقتصادي العالمي مرتكزًا على قوةٍ مُهَيمِنة تفتقرُ إلى القدرة السياسية على التصحيح المالي الذاتي. ينبغي أن يدفع هذا الإدراك إلى دراسةٍ عاجلة لكيفية إدارةِ انتقالٍ منظَّمٍ بعيدًا من الاعتماد على الدولار بدلًا من انتظار انهيارٍ حتمي وفوضوي.

آمالٌ كاذبة وتفكيرٌ خيالي

في مواجهة هذه الحقائق المالية المُرهِقة، يتمسّكُ العديدُ من المشاركين في السوق بسيناريوهات قد تُجنّب كارثة. ومن أبرز هذه السيناريوهات الأمل في طفرةٍ إنتاجيةٍ مدفوعةٍ بالتكنولوجيا، قادرة على توليد نموٍّ كافٍ لتجاوز دوامة الديون. ومع ذلك، حتى لو حقق الذكاء الاصطناعي أكثر وعوده تفاؤلًا، فإنَّ الجدول الزمني لهذا التحوُّل يمتد إلى ما بعد فترة أزمة الاستحقاقات (2033-2036).

والأمر الأكثر إثارةً للقلق هو أنَّ الأدلّة المتزايدة تُشيرُ إلى أنَّ ثورةَ الذكاء الاصطناعي نفسها قد تكون فقّاعة. وحتى لو آتت ثمارها في النهاية، فإنَّ السوابق التاريخية للتقنيات “الرائدة” السابقة -مثل السكك الحديدية والسيارات وفقاعة شركات الإنترنت- تُشيرُ إلى أنه سيكون هناك استثمارٌ مُفرِطٌ هائل، مع بقاءِ عددٍ قليلٍ فقط من الشركات على قيد الحياة حتى مرحلة النضج من التبنّي. إذا انهار جنون الاستثمار الحالي في الذكاء الاصطناعي، مُصطحبًا معه تريليونات الدولارات من القيمة السوقية، فإنَّ الأزمة المالية ستتسارع بشكلٍ كبير في الوقت الذي يكون الاقتصاد أقل قدرة على تحمُّلِ صدمةٍ أخرى. يشير آخرون إلى إمكانية إبرام اتفاقية دولية جديدة على غرار اتفاقية “بلازا” لإدارة تعديلات العملة بطرقٍ من شأنها أن تُعزز الاقتصاد الأميركي، وخصوصًا قطاعه الصناعي. لكن اتفاقية “بلازا” الأصلية لعام 1985 انبثقت من عالمٍ مختلف تمامًا – عالمٌ يتميّزُ بقيادة أميركية واضحة وحلفاءٍ متعاونين ومصالح مشتركة في الاستقرار. إنَّ البيئة المُجَزَّأة ومتعددة الأقطاب اليوم لا توفّرُ مثل هذا الأساس للتنسيق.

وأخيرًا، فإنَّ فكرة أن الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) يمكنه ببساطة تسييل الدين من خلال طباعة نقود غير محدودة تتجاهل كلًا من العواقب التضخّمية المترتِّبة على ذلك والضرر الذي قد يلحقه بمكانة الدولار كاحتياطي. لم تكن تجربة بنك اليابان التي استمرّت عقودًا في التوسع النقدي مُمكنة إلّا بسبب الخصائص الاقتصادية الفريدة لليابان -المدّخرات المحلية المرتفعة والانكماش المستمر وفوائض الحساب الجاري- والتي لا ينطبقُ أيٌّ منها على الولايات المتحدة.

نحو إدارة مدروسة لإزالة الدولرة

لا يكمن الخيار الذي يواجه المجتمع الدولي في إنهاء المكانة المتميزة للدولار، بل في ما إذا كان ذلك الهدف سيأتي من خلال إعدادٍ دقيق أو أزمةٍ كارثية. يُقدّمُ التاريخ بعضَ الاسترشاد – فقد استغرق تراجع الجنيه الإسترليني من وضعية العملة الاحتياطية الرئيسة عقودًا عدة، وتمت إدارته بدون انهيارٍ منهجي. ومع ذلك، استفادَ هذا التحوُّل من وجود عملةٍ بديلة واضحة في الدولار، وعلاقة تعاونية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، كقوتين متراجعة وصاعدة على التوالي. إنَّ النظامَ المالي المُترابط اليوم، وحجمَ الاعتماد على الدولار، وغيابَ بديلٍ واضح، كلها تشير إلى أننا قد لا نملك رفاهية مثل هذا التحوُّل التدريجي والمُنَظَّم.

لا تزال تحديات التخلي عن الدولار عالميًا هائلة. فتأثيرات الشبكة تجعل هيمنة الدولار مُعزّزة ذاتيًا – فالجميع يستخدم الدولار لأن الجميع يستخدمه. لا توجدُ عملةٌ بديلة تُضاهي عمق وسيولة أسواق سندات الخزانة الأميركية. يعاني اليورو من عيوبٍ هيكلية انكشفت خلال أزمة الديون السيادية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. لا يزال اليوان الصيني مُقيَّدًا بضوابط رأس المال والمخاطر السياسية. ومع ذلك، فإنَّ هذه التحديات ذاتها تجعل الاستعداد والتحضير أكثر إلحاحًا، لا أقل.

لقد فشلت المحاولات السابقة لإيجاد بدائل للدولار بسبب هذه العقبات تحديدًا. لم تحقق حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي -القائمة على سلّةٍ من العملات والمستخدمة كوِحدةِ حسابٍ وتسوية بين الدول الأعضاء- حجمًا كافيًا منذ طرحها في العام 1969، لأنها لم تُقدِّم أيَّ مزايا تُضاهي الدولار في معظم المعاملات. وظلّت أنظمة الدفع الإقليمية، مثل اتحاد المقاصة الآسيوي، هامشية لعدم قدرتها على مواكبة سهولة استخدام الدولار وقبوله. لكنَّ عواملَ متعددة تُشير إلى أنَّ المحاولات المقبلة قد تنجح حيث فشلت أخرى.

أوّلًا، تُمكِّنُ تقنية العملات الرقمية من إجراءِ معاملاتٍ مُتعدّدة العملات فورية ومنخفضة التكلفة، وهو ما لم يكن ممكنًا في العصور السابقة. ويمكن للعملات الرقمية للبنوك المركزية أن تُمكّنَ من إنشاء أنظمة تسوية فعّالة تُقلّلُ الاعتمادَ على الوساطة الدولارية. وتُظهر تجارب اليوان الرقمي الصينية قدرة التكنولوجيا على تسريع التحوُّل النقدي، لا سيما مع سعي الدول إلى حماية نفسها من العقوبات المالية الأميركية. ويمكن لنظام تسوية رقمي قائم على سلّة عملات، ربما يُديره صندوق النقد الدولي أو مؤسسة دولية جديدة، أن يُوفّرَ الاستقرارَ مع تقليل الاعتماد على عملةٍ واحدة.

ثانيًا، يُولّد العدد الهائل من الدول التي تسعى الآن إلى بدائل للدولار زخمًا لم يكن موجودًا من قبل. وتعمل دولُ مجموعة “بريكس”، التي تُمثل 40% من سكان العالم وأكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بنشاط على تطوير آلياتِ دفعٍ بديلة. ويُوفر بنك التنمية الجديد التابع لها، على الرُغم من صغر حجمه، نموذجًا لتمويل التنمية غير الدولاري. ومع انضمام المزيد من الدول إلى هذه المبادرات، قد تبدأ تأثيرات الشبكة بالعمل ضد الدولار بدلًا من أن تكون لصالحه.

ثالثًا، يتحوّطُ القطاع الخاص بشكلٍ متزايد ضد مخاطر الدولار. يُجري كبار تجار السلع الأساسية تجارب على عقودٍ مقوَّمة باليوان. ويُطوّرُ أمناء خزائن الشركات أنظمةً لإدارة النقد متعددة العملات. ويمكن أن تُسهم جميع هذه التعديلات على المستوى الجُزئي في تسريع التغيير على المستوى الكُلِّي عند وقوع الأزمات من خلال توفيرِ عددٍ من البدائل للوضع الراهن.

بالنسبة إلى حلفاء الولايات المتحدة، يُشكّل هذا التحوُّل معضلاتٍ حادة. يجب على دولٍ مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأعضاء “الناتو” الأوروبيين الموازنة بين اعتمادهم الأمني ​​على واشنطن وضرورة حماية مصالحهم الاقتصادية من عدم الاستقرار المالي الأميركي. وقد يتطلب هذا الوضع محادثاتٍ غير مريحة حول تقاسم الأعباء وتطوير ترتيبات أمنية إقليمية من شأنها أن تملأ الفراغ الذي سيخلفه تراجع قدرة الجيش الأميركي. ومع تقويض إدارة ترامب بالفعل للثقة في التزامات واشنطن الأمنية، تُصبح هذه المهمة أكثر إلحاحًا.

الطريقُ إلى الأمام

يقفُ المجتمع الدولي عند منعطفٍ حرج. تتزايد مؤشرات عدم الاستقرار المالي الأميركي، من تخفيض تصنيفات الديون إلى ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأميركية. ومع ذلك، لا يزال الهيكل المالي العالمي معتمدًا على الدولار كعادته، مما يخلق تفاوتًا خطيرًا بين المخاطر الناشئة واستعداد المؤسسات.

يجب على صانعي السياسات في جميع أنحاء العالم البدء ليس فقط بالتخطيط لنظامٍ نقدي ما بعد الدولار، بل ببنائه وإنشائه بنشاط. هذا لا يتطلب التخلّي عن الدولار فورًا أو الانغماس في أحلام يقظة بشأن زواله، بل يتطلب استعدادًا عمليًا لعملية انتقال تبدو حتمية بشكلٍ متزايد. ينبغي على البنوك المركزية، التي تُنوّع احتياطياتها من الذهب بأسرع وتيرة منذ عقود، أن تفعل ذلك بمزيد من الجدية. ينبغي على المؤسسات المالية اختبار تحملها لسيناريوهات اضطراب الدولار. وينبغي على الهيئات الدولية تسريع العمل على آليات دفع وتسوية بديلة.

لا ينبغي أن يكون هذا التحوُّل فوضويًا. فمع وجودِ قدرٍ كافٍ من التَبَصُّرِ والتعاون، يمكن للعالم أن يتطوَّر نحو نظامٍ نقدي مُتعدّد الأقطاب وأكثر توازنًا، يُعزّزُ الاستقرارَ بالفعل. لكن هذا يتطلب الاعتراف بأنَّ المسار الحالي غير مستدام، وأنَّ انتظار تصحيح الخلل السياسي الأميركي ذاتيًا هو وصفة لكارثة.

السؤال الآن هو: هل سيتصرّفُ المجتمع الدولي بناءً على هذا الاعتراف أم سيواصل التحرك نحو كارثة يمكن تجنبها؟ لقد بدأ سوق السندات بالفعل التصويت بموقفٍ متردّد. ومن الحكمة أن يحذو بقية العالم حذوه – ليس بدافع الذعر، بل استعدادًا حكيمًا لنظامٍ نقدي جديد.

  • الدكتور نيكولاس كريل هو أستاذ مشارك في قانون الأعمال والأخلاقيات في كلية وجامعة ولاية جورجيا.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى