الهَوِيّة الوَطَنِيّة والمُواطَنَة والإصلاحُ السِياسي المَنشود في الأردن

مروان المعشّر*

شاركتُ في الأسبوع الماضي في ندوةٍ عقدها معهد السياسة و المجتمع بإشراف الصديق الدكتور محمد أبو رمّان، حولَ التحوّل الديموقراطي في الأردن. وقد استَهدَفَت الندوة ناشطين من الجيل الجديد، العديدُ منهم ممَن ينتمون لأحزابٍ سياسية، حول العراقيل التي تَعتَرِضُ مسيرةَ التحوّل الديموقراطي وأهداف الإصلاح السياسي في البلاد. وقد خرجتُ بانطباعٍ أن الهواجسَ الموجودة لدى بعض، وإن كان يُمثّل أقلية، أبناء الجيل الجديد لا تختلف كثيراً عن تلك الموجودة لدى عدد كبير من الجيل الحالي، والتي ساهمت الى حدٍّ كبيرٍ في بطء هذه العملية التحوّلية. يدل ذلك على مدى تعقيد عملية التحوّل الديموقراطي في الأردن، ومدى الخوف من التغيير الذي لا يزال موجوداً في المجتمع عند البعض.

لعلّ أهم الهواجس الموجودة في المجتمع والتي لا تزال بحاجة الى مُصارحةٍ وطنية في العَلَن هي تلك المُتعلّقة بالهوية الوطنية والمُواطَنة. ومن المُفارقة أنه منذ إنشاء الأردن الحديث في العام 1921، ومنذ إقرار الدستور الأردني الحالي في العام 1952، ما زالت الهوية الوطنية الأردنية بحاجة إلى تعريفٍ لدى البعض. شكّل الغموض الذي ما زال يعتري مثل هذا التعريف لأسبابٍ بعضها سياسي يتعلق بالأصل، وبعضها ذكوري يتعلّق بالجندر، عائقاً أساسياً أمام تنميةٍ سياسية واقتصادية واجتماعية نحنُ اليوم في أمسِّ الحاجةِ اليها لضمان مُستقبلٍ مُستقرٍّ ومُزدهر.

وحتى نُسمّي الأشياء بأسمائها، فإن هناك هاجساً لدى الكثير من الأردنيين من أصولٍ شرق أردنية، بأن الهوية الوطنية الأردنية اليوم بحاجة إلى أن تكون هويةً شرق أردنية خالصة، وذلك بغضِّ النظر عن وجود مُكوّنٍ أردنيٍّ كبيرٍ من أصلٍ فلسطيني ضَمَن له الدستور الأردني مُواطنة كاملة غير مَنقوصة حسب المادة السادسة منه. لهذه الفئة تفسيرٌ مُعلَن أو مُبَطَّن لهذه المادة، مفادُه أن المُكوّن الأردني من أصل فلسطيني يستطيع التمتّع بالحقوق المدنية، لكن ليس من حقّه المُطالبة بالحقوق السياسية الكاملة، قبل حلِّ الصراع العربي-الإسرائيلي وحلّ مشكلة اللاجئين (بشكلٍ يسمح لعددٍ كبيرٍ من هؤلاء المواطنين العودة إلى فلسطين). وفي غيابِ ذلك، وفقاً للتعريف أعلاه، من شأنِ تساوي كل المكوّنات في الحقوق والواجبات، طمس الهوية الوطنية الأردنية وتحقيق الحلم الاسرائيلي في أن يكون الأردن هو فلسطين.

يُهمِلُ هذا التفسير أموراً عدة، أهمّها أن الدستور الأردني لم يضع موضوعَ حلّ الصراع العربي-الاسرائيلي شرطاً للمواطنة الكاملة لدى أي مُكوّن. كما لا يتطرق هذا التفسير للسيناريو الأكثر احتمالاً، بأن فُرَصَ حلّ الصراع في المستقبل المنظور، وعودة عددٍ كبيرٍ من الأردنيين من أصل فلسطيني إلى فلسطين، هي ضعيفة على أحسن تقدير. ولا يتطرّق أيضاً الى تطوّر الهويّة الوطنية بين المُكوّنَين بعد أكثر من سبعين عاماً من التزاوج والتداخل الاجتماعي والسياسي. ويطرح سؤالاً في غاية الاهمية، وهو مدى نجاعة ربط تطوّر البلاد الضروري والمُلِحّ  والذي لم يَعُد يَحتَمِلُ التأجيل، بحلٍّ للصراع العربي-الاسرائيلي الذي قد يطول وقد لا يأتي. وهل يستطيع الأردن تحمّل تبعات تأجيل الإصلاح بشكلٍ لا مُتناهي؟

بالمقابل، هناك هاجسٌ لدى الكثير من الأردنيين من أصلٍ فلسطيني، يتم التعبير عنه صراحةً أحياناً والسكوت عنه أحياناً أخرى، بأن المطلوب من هذا المكوّن انتماء لا تشوبه شائبة للدولة الأردنية، وذلك بالتوازي مع عدم عدالة التمثيل لا على مستوى مجلس الأمة أو الحكومة أو الجيش أو الأجهزة الأمنية. ويشعر هذا المُكوّن بأن المطلوب منه التخلّي عن مشاعره المشروعة نحو القضية الفلسطينية، ومُعاملته معاملةً تشكيكية تفترض أن تطلعاته الفلسطينية تتعارض مع تطلعاته نحو وطنه الأردن.

وبمنتهى الصراحة، لا تزال هناك أيضاً عقلية ذكورية مُجتَمَعية تقف عائقاً أمام تساوي المرأة والرجل تشريعياً، ولا تزال هناك تشريعات عدة، كقوانين العمل والتقاعد والأحوال الشخصية والجنسية وغيرها، تُميّز ضد المرأة الأردنية، على الرغم من العديد من التوافقات المُجتَمَعية السابقة حول هذا الموضوع، وأهمها ما جاء في الميثاق الوطني الأردني والأجندة الوطنية.

لا يبدو أن التوافقات السابقة حول هذه المواضيع أعلاه قد نجحت في إعلاءِ هويةٍ وطنيةٍ أردنية جامعة. فالميثاق الوطني نصّ على أن الأردنيين “رجالاً ونساء امام القانون سواء، لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات، وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين”. كما أوصت الأجندة الوطنية “بتحقيق المساواة للمرأة وإزالة كافة اشكال التمييز بحقها في القوانين الأردنية”. أما المادة السادسة من الدستور، فقد عرّفت بوضوح، إلّا في ما يتعلق بموضوع الجنس، ان الأردنيين “أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق  والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين”. ويبدو أنه لا زال هناك خلطٌ، بشكلٍ مقصود أو غير مقصود، بين المُواطَنة والتوطين. المُواطَنة المُتساوية مفهومٌ إيجابي وضروري لمنعة الأردن، بل هو ضروري لمنعة أيّ بلدٍ في العالم. وهو موضوعّ بتّ فيه الدستور بشكلٍ حاسم، ويجعل من كل حاملِ رقمٍ وطنيٍّ أردني، مواطناً كامل الدسم. كما يُحصّنُ هذا المفهوم الجبهة الداخلية اليوم ويقف سداً منيعاً أمام المحاولات الخارجية لزعزعة استقرار هذا البلد الذي نُحافظ عليه جميعاً بقرّة العين، وهو كفيلٌ بالتصدّي لكلِّ المحاولات الاسرائيلية لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب الأردن.

أما التوطين، فهو مفهومٌ مُغايرٌ تماماً، ينطبق على مَن لا يحمل الجنسية الأردنية، ويُرادُ منه إنهاء الهويّة الفلسطينية، ومنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على ترابها الوطني، وإبقاء القدس تحت السيطرة الاسرائيلية، والتخلّص من أعدادٍ كبيرة من الفلسطينيين القاطنين اليوم تحت الاحتلال، باعتبار أن استمرار صمودهم خطرٌ وجودي للمشروع الصهيوني. وبالتالي فإن تهجيرَ أعدادٍ كبيرة منهم مصلحة إسرائيلية بحتة تتعارض تماماً اليوم مع المصلحة الأردنية العليا بالمقدار نفسه الذي تتعارض مع المصلحة الفلسطينية.

ان إعلاء مفهوم المُواطَنة المتساوية، كما الهوية الوطنية الجامعة لكافة أبناء الأردن وبناته، من الضروريات التي لم تعد تحتمل التأجيل من أجل استقرار الأردن ومنعته. فالأردن ليس فلسطين، وسيُحارب كل أردني وأردنية ضد أي محاولة من أجل جعله كذلك. والأردن كذلك لكل أبنائه وبناته، وليس لفئة دون أخرى، ضمن إطار هوية وطنية أردنية جامعة غير إقصائية.

نشهد اليوم مقالات ودعوات تنتقد الهوية الوطنية الجامعة وتُصوّرها بأنها تَعَدٍّ على الموروث الأردني، من دون أن تذكر هذه المقالات ما هو البديل. هل هو إعلاء هوية فرعية مُعَيَّنة؟ هل هو تجاهل للدستور، بل تعدٍّ عليه؟ هل الهواجس مشروعة إن أطلقتها فئة، وغير مشروعة إن أطلقتها أو حتى سكتت عنها فئة أخرى؟

لا بدّ من معالجة كل الهواجس لدى كافة مُكوِّنات المجتمع. مُعالجةٌ تنبع من معاملة الجميع على قدر المساواة، ففي المساواة وحدها ما يضمن تنميةً مُستدامةً تعود بالنفع على المجتمع كلّه بكافة فئاته.

والمساواة هنا ليست مُرتبطة ارتباطاً ضيِّقاً بقانون الانتخاب، لأن التمثيل السكّاني ليس العنصر الوحيد الذي يجب أن يُؤخَذ بعين الاعتبار عند تحديث القانون، فالبُعدُ الجغرافي عنصرٌ آخر، كما إن عدالةَ التمثيل عنصرٌ ثالث.

ليس من المستحيل تحديث قانون الانتخاب بحيث يَضمَنُ هذه العناصر الثلاثة مُجتمعة، بدلاً من أن يقتصر على عنصرٍ من دون الآخر. كما ليس من المستحيل تحديث كافة القوانين الناظمة للحياة السياسية ضمن إطارٍ عام هو الهوية الوطنية الأردنية الجامعة والمُواطَنة المُتساوية، كهدفَين ينبغي الوصول إليهما بشكلٍ تدريجي وجاد.

ليس لدى الأردن ترف الوقت اللامتناهي للقيام بعمليةٍ إصلاحية تُعالجُ هذه الهواجس لدى كافة مُكوّنات المجتمع وفي الوقت نفسه لا تقف عندها. وقد علّمنا التاريخ أن بلداً في العالم لم يستطع تحقيق تنمية سياسية واقتصادية مُستدامة، وتوسيع رقعة الاقتصاد والإنتاج بما ينعكس على كافة مُكوّنات المجتمع، بدون تساوي كافة المواطنين والمواطنات أمام القانون. هذا هو الإطار الأوسع الذي يمكن من خلاله معالجة المواضيع الأخرى التي تقف عائقاً أمام التقدّم كالفساد أو المحسوبية.

لا يستطيع دعاة الاصلاح في الاردن النظر للعملية الاصلاحية على أنها مُعالجة لهذه المواضيع، كالفساد والمحسوبية، في إطار هوية فرعية فقط مهما كانت ومن أيّ مُكوّن، وبما لا يتعدى إطار هذه الهوية، فهذا ليس اصلاحاً يؤدّي إلى تقدّم البلاد، وتحسين مستوى المعيشة و معالجة مشكلة البطالة وتوزيع مكاسب التنمية على الجميع، بل هو تغليبٌ لفئة على أخرى.

لدينا فرصة لا يجب أن تُهدَر لعدم تجاهل هواجس مُكوّنات المجتمع كافة، بل مُعالجتها في إطار هويّة أردنية جامعة وفي وقت قريب، لأن في الاستسلام للوضع القائم والسماح بإدامته خطر داهم على مستقبل البلاد. دعونا لا نُضَيِّع الفرصة.

  • مروان المعشّر هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الديبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والإتصالات. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @MarwanMuasher

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى