تونس: كَيفَ تُؤثِّرُ أجندة مُكافَحَةِ الفسادِ في الإنتخاباتِ المُقبِلة؟

لا تزالُ شخصياتٌ مُعارِضة ممنوعة من خوضِ الانتخابات الرئاسية التي ستجري في تونس في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل على خلفية قضايا فساد. فهل تهدفُ مثل هذه الإجراءات إلى تحييد المنافسة أو إلى صرفِ الأنظار عن المشكلات الاقتصادية المتفاقمة؟

قضاة ومحامون ومواطنون يجتمعون للاحتجاج على قرار رئيس تونس، قيس سعيد، بحل المجلس الأعلى للقضاء أمام قصر العدالة في تونس، تونس في 10 شباط (فبراير) 2022.

نجلاء بن ميمون و أميمة شلبي*

أصدرَت محكمة تونسية في الخامس من آب (أغسطس) أحكامًا بحقِّ أربعةِ مُرَشَّحين مُحتَمَلين للانتخابات الرئاسية بتُهمةِ شراءِ التزكيات، وحَظّرت مشاركتهم في الانتخابات المقبلة المُزمَع إجراؤها في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. ومن بين هؤلاء كان عبد اللطيف مكّي، السياسي البارز والقيادي السابق في حركة “النهضة”، ونزار الشعري، الناشط ومقدّم البرامج التلفزيونية. إلى ذلك حُكِمَ على المرشّحة الرئاسية المُعارِضة عبير موسي التي تقبع خلف قضبان السجن منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023 حيث حُكِمَ عليها بالسجن لمدّة عامين إضافييّن بتهمة الإساءة للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. وكان عددٌ من السياسيين الآخرين الذين أعلنوا عزمهم الترشّح للانتخابات الرئاسية قد اعتُقِلوا في خلال الأشهر الماضية بتُهَمِ فسادٍ مختلفة. ويرى المنتقدون أنّ سلسلةَ الاعتقالات تأتي في إطارِ حملةٍ مُنَسّقة تهدفُ إلى التصدّي لأيِّ مُنافَسةٍ جدّية قد يواجهها الرئيس الحالي قيس سعيِّد الذي صادف أنّ قدّم ترشيحه الرسمي للانتخابات في اليوم نفسه لاستبعاد منافسيه الأربعة من السباق.

بعد بضعةِ أيامٍ على ذلك، أعلنت الهيئة المستقلّة العليا للانتخابات في تونس عن قائمةٍ أوَّليّة بأسماء المرشّحين المقبولين للانتخابات. وأفادت الهيئة أنّ من أصل 17 مرشّحًا، لم يستوفِ إلّا ثلاثة فقط الشروط القانونية والرسمية، من ضمنهم الرئيس نفسه، إلى جانب رئيس حركة “عازمون” رجل الأعمال العياشي زمال، والأمين العام لحزب “حركة الشعب” زهير المغزاوي.

وفيما اشتكى عددٌ من المرشّحين من تمنّع وزارة الداخلية عن تزويدهم ببطاقاتِ السوابق العدلية التي تُعَدُّ شرطًا أساسيًا للترشّح للانتخابات، إلى جانب جَمعِ العدد اللازم من التزكيات، أكّدت الهيئة أنّ قرارات الرفض كافّة كانت بسبب عدم استيفاء شرط التزكيات، أو في حالة أحد المرشحين المرفوضين بسبب عدم استيفائه شرط الجنسية.

تسييس مكافحة الفساد

المُفارقة أنّ سعيِّد كان قد ركّز في خلال حملاته الانتخابية منذ ترشُّحه للرئاسة أوّل مرّة في العام 2019 على قضايا مكافحة الفساد. وحمّل في حينها مَن وصفهم بالنخبة الفاسدة مسؤولية التدهور الاقتصادي، مُتعهِّدًا بمكافحة الفساد حتى “اجتثاثه” من جذوره. ولكن فيما تشارف فترته الرئاسية الأولى على الانتهاء، لم يَظهر بعد أيُّ تقدّمٍ ملموس على صعيد مكافحة الفساد الذي لا يزال مُستَشريًا في تونس، في حين يبدو أنّ جهود مكافحة الفساد وكأنها تُستَغَلُّ من أجل الدعاية السياسية والتضييق على المعارضين.

في هذا الإطار، سجّلت تونس تراجُعًا متواصِلًا في تصنيفها على مؤشّر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية منذ العام 2021. وبحلول العام 2023، تراجعت إلى المركز 87 من أصل 180 دولة، بعد أن كانت تحتلّ المرتبة 70 قبل سنتين. كما ارتفعَ تصوُّرُ الرأي العام لمستوى الفساد في البلاد، إذ أبدى 90 في المئة من التونسيين المشاركين في استطلاعٍ أجراه أخيرًا “الباروميتر العربي” عن قناعتهم بتفشّي الفساد في مؤسّسات الدولة العامة.

وهذا ليس مفاجئًا، نظرًا لأنّ جهود مكافحة الفساد كانت مُتَعثّرة. فقرارُ سعيِّد بتعليقِ عمل البرلمان لحوالي 20 شهرًا في العام 2021 أعاقَ تطبيقَ عدد من تشريعات مكافحة الفساد، وشكّل انتكاسة كبرى لمسار المُساءلة. وفي العام 2022، حلّ سعيِّد المجلس الأعلى للقضاء، وترافق معه تضييقٌ على القُضاة بشكلٍ عام على خلفية اتهامات بالفساد وعرقلة العدالة ما أسفر عن تقويض جهود مكافحة الفساد بسبب زعزعة الثقة بنزاهة المؤسّسة القضائية وفعّاليتها. كما علّق الرئيس عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ما شلّ إلى حدٍّ كبيرٍ الجهود المبذولة في هذا السياق نتيجةَ تعرقُل التحقيقات الجارية وحرمان المُبلِّغين عن الفساد من الحماية، ما أثبط عزيمة المواطنين على التبليغ.

مع توجيهِ معظم الموارد والجهود نحو الاعتقالات السياسية وأجندة مكافحة الفساد، تبقى القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحّة من دون حلّ. وربما كانت هذه الغاية من التضييق على المعارضة. فلعلّ الرئيس أطلق حملة مكافحة الفساد من أجلِ صرف الأنظار عن عدم تحسّن الأوضاع الاقتصادية في ظلّ استمرار الركود وارتفاع معدّلات البطالة ومعدّلات التضخم. إذ يعتبر التونسيون الوضع الاقتصادي التحدّي الأكبر الذي تواجهه البلاد، ويرون أنّ أداء بلادهم الاقتصادي أسوأ ممّا كان عليه عند تولي سعيِّد منصبه. وفي ظلّ ارتفاع الأسعار وغياب الفرص الاقتصادية، يعاني أكثر من ربع التونسيين من الجوع والانعدام الحاد للأمن الغذائي.

بالإضافة إلى فشل الحكومة الحالية في معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الملحّة، فهي لم تفلح أيضًا في خفض العجز العام. فقد بلغ العجز المالي السنوي ذروته في العام 2020، واستمرّ الدين العام في الارتفاع، ليستقر عند نحو 80 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي على مدى السنوات الأربعة الأخيرة من حكم سعيِّد. ومع تراكُم المتأخّرات وتزايد عبء الديون، اضطرّت السلطات لقبول قرض إنقاذ بقيمة 1,9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، مقابل تقليصات حادّة في الإنفاق وإصلاحات مالية. إلّا أنّ سعيِّد رفض الاتفاق، واصفًا الإجراءات بـ“الإملاءات الخارجية”، خصوصًا في ما يتعلّق بإلغاء الدعم الذي من شأنه مُفاقمة الفقر وانعدام المساواة. وهو رأي يؤيّده أيضًا عدد من الخبراء الاقتصاديين.

في غضون ذلك، تستمرّ الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المتردّية في دفع المزيد من التونسيين نحو البحر، مُتحَدِّين الخطر في مسعى لبلوغ الشواطئ الأوروبية على متن قوارب الهجرة غير الشرعية. وقد أعرب نحو 46 في المئة من الأشخاص الذين شملهم استطلاع الباروميتر العربي، سواء من الرجال أو النساء، عن رغبتهم في مغادرة البلاد بطريقة أو بأخرى، بارتفاع يزيد عن الضعفين مقارنة بالمعدّلات المسجّلة في العام 2011.

روايتان متناقضتان

فيما تستمرّ استطلاعات الرأي في إظهار دعمٍ قوّي لسعيِّد ولأجندة مكافحة الفساد التي يتبنّاها، فإنّ رغبة معظم التونسيين بمغادرة بلادهم تروي قصّة مختلفة. ففي حين يرى كثيرون أنّ الفساد يكمن في صلب المشكلات الاقتصادية، لا يعتقد الكثير منهم أنّ سعيِّد قادرٌ على اجتراحِ حلولٍ جذرية لذلك.

  • نجلاء بن ميمون هي باحثة مشاركة ومديرة البرامج في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. كانت سابقاً باحثة مساعدة في مركز بروكنغز الدوحة، حيث عملت على موضوعات متعدّدة منها التنويع الاقتصادي في الدول الخليجية، وانتقال الشباب من مرحلة التعلّم إلى العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وديناميكيات سوق العمل.
  • أميمة شلبي هي زميلة زائرة مبتدئة في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّجت مؤخراً من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملةً شهادة الماجستير في اقتصاديات التنمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى