ليسَ أقلّ من مُعجِزة!

محمود بِرّي*

يَعيشُ لبنان أسوأ أزمةٍ ماليّةٍ واقتصاديةٍ ونقديةٍ عرفها منذ استقلاله، وهي سائرة إلى المزيد من التفاقم في ظلِّ غيابِ أيّ مؤشرٍ لحلولٍ يُمكِنُ الاطمئنان إليها. فاحتياطي المصرف المركزي انخفض إلى حدٍّ مُتدنٍ حتى بلغ مشارف عتبة الاحتياطي الإلزامي 17.5 مليار دولار، ما لم يسبق أن انحدر إليه حتى في ذروة الحروب التي عرفها لبنان على امتداد العقود الأخيرة، سواء منها البينية الداخلية أم التي نالها من العدو الخارجي. الدين العام الإجمالي تخطّى عتبة المئة مليار دولار منذ نهاية العام الماضي، ولم يحدث ما يحول دون تواصل ارتفاعه حتى الآن على الرغم من الأحاديث الكثيرة عمّا يسمّونه “خطّة التعافي الاقتصادي” التي لم يظهر شيءٌ من بشائرها حتى اليوم.

هذه الأزمة انعكست تدهورًا ماليًّا على المستوى المعيشي أصاب أكثر من ثلاثة أرباع الشعب اللبناني الذين تقلّصت أو انهارت القيمة الشرائية لمداخيلهم بشكلٍ فاضح، بينما ارتفعت في المقابل أسعار السلع والخدمات التي لا يمكنهم الاستغناء عنها، في حين ما انفكت ودائعهم الدولارية محجوبة عنهم في المصارف التي تتمتّع بمناعة استثنائية ليس أول دلائلها النزال الأخير مع “فرنسبنك” والذي انتهى لصالح المصرف كما يعلم الجميع، بينما جرى تقييد الودائع التي بالليرة اللبنانية تحت سقفٍ محدود لا يُلبّي الحاجات في الكثير من الحالات، فضلًا عن عدم إقرار قانون الدولار الطالبي الذي يستنفد رواتب الأهل ويتركهم في قِلّة مؤلمة.

فوق ذلك فالقطاعات الحيوية تُعاني من حالة ما قبيل الغيبوبة (الكوما)، حيث تضاءلت وشحّت حتى تلاشت تمامًا، أو تكاد مصادر تمويل خزينة الدولة والقطاع المصرفي عمومًا بالعملات الأجنبية، وبخاصة الدولار، ما هدّد تلك القطاعات المُشار إليها والتي عليها أعباء توفير المواد الأساسية التي لا غني عنها للمواطن، وفي طليعتها الأدوية والمُستَلزمات الطبية والقمح والمواد الغذائية والمحروقات. هذا مع العلم أن الخطرَ قائمٌ وحقيقيٌّ من احتمال التوقّف الإكراهي عن دعم هذه الضروريات بفعل الافتقار إلى المال اللازم، مع عدم القدرة بالتالي حتى عن استيرادها. وإذا أُضيفَ إلى هذا كلّه، الإلتزامات التي على الدولة اللبنانية (العاجزة) تأديتها، تتّخذ الأزمة طابعها الكارثي الذي لا قدرة لأحدٍ التصدّي له. والحل الوحيد المُمكن (وهو غير المُتاح حتى الآن) لن يكونَ إلّا في استقطاب رؤوس أموالٍ من الخارج وتوفير العملة الصعبة بالكميات المطلوبة، الأمر الذي لن يكون سهلًا في الظروف الراهنة. مع العلم أن عدم التوصّل إلى حلول حقيقية لكل ذلك لا بدّ له أن يفتح واسعًا باب المجاعات التي ترافقها الفوضى العارمة… ما بات الحديث يدور حوله في العديد من الأوساط.

بلغت تقديرات الخسارة الشهرية للناتج المحلي الإجمالي حوالى 3 مليارات دولار، وهي خسارة تتفاقم من دون كابح. وتدور أحاديث انتقلت إلى حالة الهمس عن احتمال أن تعمد السلطات إلى الإتّكاء على احتياطي المصرف المركزي من الذهب الموجود قسم كبير منه في الخارج. وهذا ما سوف يؤدّي إلى خسارة هذا الاحتياطي الذهبي من دون شك. فمعلومٌ واقع بلوغ الدين العام ما يتجاوز المئة مليار دولار، من دون مُساءلة أحد (بمعنى حصول جرائم مالية من دون وجود مجرمين)، وهذا يفتح الطريق واسعًا أمام خسارة الذهب أيضًا من دون وجود مَن يُمكن تحميله مسؤولية ذلك. ونتيجة الأمر لن تكون أقل من جعل لبنان في يد هذه “الدولة الفاشلة”، مرهونًا بكل مقدراته وثرواته إلى الدائنين، بما في ذلك الحجز على أصول الدولة وأملاكها، ووضع اليد على الثروات المحتملة في بحره وبرّه من النفط والغاز المتوقع استخراجها.

ويُضاف إلى ذلك واقعٌ يتجنّب الكثيرون الخوض فيه، وهو قفز نسبة البطالة بين اللبنانيين عن نسبة الـ 65% مقابل قيام العمالة السورية بالحلول محل اليد العاملة اللبنانية، وتسجيل عملية إقفال أكثر من 15 ألف مؤسسة إنتاجية لبنانية، تحوّل جزءٌ كبيرٌ منها إلى ملكية تجار سوريين، ما يساهم بشكل كبير في النزيف النقدي والاقتصادي، وبالتالي في اختلال المالية العامة للدولة وتدهور الحالة الاجتماعية والمعيشية للمواطن وارتفاع معدلات الفقر والعوز. وهذا يجعل من الضرورة الحيوية حلّ معضلة الوجود والعمالة السورية الكثيفين في لبنان بما يتجاوز قدراته المُنهِكة، والسعي إلى المباشرة بعملية التعافي الاقتصادي التي جرى طرحها منذ مدة طويلة.

ولعل بارقة الأمل الوحيدة وسط هذا الظلام الزاحف، تتمثّل في التخاطب الودّي الجاري حاليًا بين السلطات السعودية العُليا ورئاسة الحكومة اللبنانية بشخص رئيسها، نجيب ميقاتي، على الرغم مما نما عن الرياض بأنها سوف تساعد الشعب اللبناني، إنما بشكلٍ مباشر وليس من طريق الحكومة.

إلّا أن الرهان على هذا المَنفَذ لا يُمكن اعتباره مضمونًا أبدًا ولا بنسبة ضئيلة. فها هي الحكومة ومعها االمجلس النيابي الحالي تمكّنا حتى الآن من عدم إقرار قانون الكابيتال كونترول (الذي يضرّ بمصالحهم)، وهو القانون الذي يحفظ بطريقة غير مباشرة ودائع المواطنين في المصارف. والمعنى ان الرهان على الطرف الرسمي المُسيطر في اجتراح الحلول، ليس رهانًا في محلّه.

وإذا صدّقنا الإحصاءات التي تقول إن الإنتخابات النيابية المُنتَظَرة، إن جرت، سوف تُجدّد عمر الطواقم الحالية الحاكمة، فالليل سوف يتواصل… ولا أمل في غير… معجزة سعيدة.

  • محمود بِرّي هو كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى