القروض المصرفية في لبنان… هل تعود؟

بقلم سليم مهنّا*

تعليقُ منحِ القروض المصرفية فضلاً عن تقييد حرية سحب الودائع من المصارف، شكّلا الحدث الأبرز الذي شغل اللبنانيين منذ انطلاق حركة الإحتجاجات في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، الأمر الذي أدى إلى اهتزاز الثقة بالقطاع المصرفي وأحدث ذهولاً عاماً، وصدمة بالغة القوة سيتردد صداها وتأثيرها لسنوات طويلة.

بدأت بوادر الأزمة المصرفية بالظهور قبل عامين تقريباً مع إعلان المؤسسة العامة للإسكان في تموز (يوليو) 2018 توقّفها عن استقبال طلبات القروض السكنية. ثم تبع ذلك بعد فترة وجيزة توقّف أغلب المصارف عن إسداء القروض على مختلف أنواعها، وصولاً الى قيام العديد منها بتعليق العمل بالتسهيلات الإئتمانية وتخفيض سقوفها إلى حدودِ ما كان مُستَعمَلاً منها يوم بدء الاحتجاجات، في مؤشر واضح إلى انخفاض مستويات السيولة لديها والى النظرة المُتشائمة لمستقبل الإقتصاد الوطني.

لقد أدّى تعليق العمل بالتسهيلات الإئتمانية الى تضرّر العديد من رجال الأعمال والمزارعين وأصحاب الحرف والمصانع والشركات، فتعدّلت خططهم أو توقّفت كلّياً، وارتفعت أعداد الشيكات (الصكوك) المُرتَجَعة بشكل قياسي وتسبّبت بارتدادات سلبية ومؤلمة.

وعلى صعيد المصارف، تُشير الأرقام إلى تراجعٍ كبير في حجم التسهيلات المصرفية بسبب توقّف الإقراض من جهة، وعمليات “إطفاء” الديون التي بادر إليها المُقترضون من جهة أخرى، مُستفيدين من تسييل موجوداتهم نتيجة الطلب الكثيف على العقارات والسلع المُعَمِّرة إثر تراجع ثقة المُودعين وتخوّفهم على مصير أموالهم وهبوط قيمتها الشرائية. ولا شك أن تراجع التسهيلات بموازاة تراجع حجم الودائع سيترك أثره على ربحية المصارف وأدائها بشكل ملحوظ.

يُعتَبَر الإئتمان المصرفي الأداة الأساسية لتمويل أنشطة القطاع الخاص، وقد شكّلت القروض المدعومة إحدى ركائز نمو الإقتصاد اللبناني خلال العقدين الماضيين، لا سيما تلك الممنوحة بضمانة شركة “كفالات”، حيث شهدنا قيام مئات المشاريع الإنتاجية من زراعية وصناعية وسياحية وتقنيات مُتخصّصة، ولا ننسى أهمية القروض التعليمية فضلاً عن قروض الإسكان التي أدّت إلى فورة عمرانية ونجحت في حلّ مشاكل آلاف الشباب المُقبلين على الزواج.

يتكرّر الحديث اليوم عن صعوبات تُواجه المُودعين، ولكننا نعتقد أن تردّدات الأزمة المصرفية الحالية قد طاولت المُقترضين بشكل أقسى، وأن الغياب الكلّي لعمليات الإقراض المصرفي ليس حدثاً عابراً وعادياً، بل هو أمرٌ بالغ الخطورة على مستقبل الإقتصاد الوطني وفُرَص تقدّمه ونموّه، وينذر بعواقب وخيمة.

فمع توقّف منح القروض الإستهلاكية الشخصية، وتوقّف إصدار البطاقات الإئتمانية وتعليق استخدامها في الخارج، وتوقّف منح التسهيلات بالحساب الجاري وتخفيض سقوفها، وتجميد فتح الإعتمادات، وتوقّف القروض المدعومة بمختلف أنواعها التعليمية والصناعية والزراعية والسياحية والإسكانية، فإننا بلا شك أمام حالة جديدة من الشلل في بيئة تطوير الأعمال وتباطؤ الدورة الإقتصادية الإنتاجية، وسوف تظهر نتائج ذلك على الأوضاع الإجتماعية مع ارتفاع نسبة البطالة وتعطّل المشاريع وإقفال الكثير من المؤسسات التي تعتمد بشكل او بآخر على مصادر إضافية للتمويل، لا سيما مع تراجع او انعدام الإستثمارات المحلية والأجنبية الجديدة في ظل الأوضاع القائمة.

ويبقى السؤال الأهم حول مستقبل القطاع المصرفي وقدرته على استعادة نشاطه بصيغته المعروفة، أي تلقّي الودائع ومنح القروض، وحول المدة اللازمة لاستعادة هذا الدور الحيوي الذي طبع اقتصاد لبنان بطابعه وجعله مركز استقطاب لرؤوس الأموال المحلية والأجنبية. فهل ستتمكن المصارف من فتح باب الإقراض من جديد، وما هي متطلبات ذلك؟

إن عودة الحيوية إلى القروض المصرفية تتطلب توفر مجموعة عوامل أساسية تبدو صعبة المنال في المرحلة الحاضرة أهمها:

  • توقف وتيرة السحوبات من المصارف وعودة تدفق الودائع إليها؛
  • بدء تعافي الإقتصاد وتحسّن نشاط القطاع الخاص؛
  • إيجاد حلول مناسبة لمسألة ديون القطاع الخاص المُتعثّرة؛
  • تمكّن المصارف من استعادة ودائعها لدى البنك المركزي؛
  • إيجاد حلول لمشكلة اكتتابات المصارف بسندات الخزينة وال”يوروبوندز”؛
  • نجاح عملية إعادة هيكلة المصارف وزيادة رساميلها بأموال جديدة محلية أو خارجية؛
  • قيام المصارف بعقد اتفاقات تمويل مع مصارف او هيئات أجنبية تُخَصَّص لإقراض المؤسسات الإنتاجية؛
  • نجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتخصيص جزء من أموال القروض أو المساعدات المُرتَقبة لتأمين التمويل للقطاعات الإنتاجية.

تبدو الحاجة ملحة إلى قيام الحكومة بدور أساسي لاستعادة حيوية النشاط الإقتصادي وكسر حالة الجمود الراهنة، وذلك عبر رزمة من الإجراءات النقدية ذات التأثير المباشر في السيولة المالية لتمكين قطاعات الإنتاج من الصمود وإعادة الانطلاق، مروراً ببعض الحوافز والإعفاءات الضريبية والحمايات الجمركية، لأجل الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات ووقف مسلسل الإقفال المتدحرج في مختلف القطاعات، والسعي الجاد إلى الحد من تداعيات الأزمة الإجتماعية الخانقة التي كوت بنارها آلاف العائلات وضاعفت أعداد الفقراء على حساب متوسطي الدخل.

إن المصارف مَدعوَّة إلى تخفيف القيود والإجراءات التي فرضتها بسبب الظروف الإستثنائية، من أجل أن تستعيد ما خسرته من ثقة، خصوصاً بعد تراجع التعاملات المصرفية والتحوّل الكبير نحو الإقتصاد النقدي الذي تسبّب به توقّف التحويلات المالية للخارج، خصوصاً للمستوردين، ما أدى إلى ارتفاع الطلب على الأوراق النقدية ولجوء المتعاملين الى استخدام العملات الورقية على حساب التداول بالشيكات والحوالات المالية.

إن أية خطة تنموية يجب أن تتضمّن مصادر تمويلها، لذا فإن الحاجة إلى دعم القطاع المصرفي وحمايته وضمان استقراره وتمكينه من العودة الى لعب دوره الطليعي في خدمة الإقتصاد الوطني هي حاجة جوهرية وأساسية لأجل الحفاظ على فُرَص النهوض والإزدهار وبناء اقتصاد حقيقي قائم على أسس العدالة الإجتماعية والإنتاج.

  • سليم مهنّا هو مصرفي وباحث اقتصادي ومالي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى