مَصيرُ ومَسَارُ المُفاوَضاتِ النَوَوِيّة الأميركيّة-الإيرانيّة
الدكتور ناصيف حتّي*
يبدو أن “الملفَّ النووي الإيراني” عادَ من جديدٍ إلى درجةٍ عاليةٍ من التأزُّمِ بعدَ الجولاتِ الخمس من المفاوضات النووية الأميركية-الإيرانية غير المباشرة، عبر الوسيط العُماني (وزير الخارجية بدر البوسعيدي)، التي عُقِدَت بين مسقط وروما، رُغمَ أنَّ طرَفَي المفاوضات أبديا، على صعيدِ الخطاب الرسمي والتصريحات “الإيحائية”، إهتمامًا بالتوَصُّلِ إلى اتفاق.
هناكَ عاملان يُشَكّلان حاليًا عُنصرَ ضغطٍ للدَفعِ نحوَ التوصُّلِ إلى اتفاق: أوّلهما عاملُ الوقت، إذ أنَّ القرارَ الأُممي رقم 2231 ،الذي كانَ أساسَ التوصُّلِ إلى الإتفاق في العام 2015 (إتفاق 5 زائد 1)، والذي اعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترة رئاسته الأولى الخروجَ منه في العام 2018 ، سينتهي العمل به في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، ما يعني العودة الى تفعيلِ سياسةِ العقوبات عبرَ ما يُعرَف بآلية “سناب باك” (كبح الزناد) (وهي آلية توصّلت إليها إدارة باراك أوباما في حال أخلّت إيران بأيٍّ من التزاماتها تجاه تعهّداتها)، الأمرُ الذي يُعيدُ هذا الملفّ الاستراتيجي من جديد إلى المربع الأوّل. علمًا أنَّ موقف الثُلاثي الأوروبي (الفرنسي، البريطاني، والألماني) في الاتفاق صارَ مُتوافقًا مع الموقف الأميركي العائد للتفاوض مع إدارة ترامب2.
ثانيًا، تقريرُ الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي قُدِّمَ إلى اجتماع مجلس المحافظين للوكالة، الذي بدأ أعماله اليوم، أشارَ إلى الازدياد الكبير في مخزون اليورانيوم عالي التخصيب ( فوق الستين في المئة) والذي يُقَرِّبُ إيران زمنيًا منَ الوصولِ إلى ما يُعرَفُ ب”العتبة النووية”. وهذا يعني امتلاكَ قدرةِ إنتاج رؤوس نووية في إطارٍ زمني محدود، أو ما يُعرَفُ تاريخيًا ب”الخيار الياباني”، أي قدرة الدخول إلى النادي النووي إذا ما أرادت ذلك. الأمرُ الذي يُعتَبَرُ بمثابةِ خطٍّ أحمر للقوى الغربية المعنية بشكلٍ خاص.
الاقتراحُ الاميركي بإنشاءِ اتحادٍ إقليمي لتخصيب اليورانيوم (يضمُّ إيران ودولًا خليجية أُخرى) كحَلٍّ عملي لوقف التصعيد والانسداد الحاصل في المفاوضات لم تعارضه ايران إذا ما أُقيمَ على الأراضي الإيرانية، وهذا شرطٌ ترفضه بالطبع الولايات المتحدة. هناكَ أيضًا “إيحاءٌ” غير رسمي لتسهيل القبول بالحلِّ المُشار إليه من طرف واشنطن، يقضي بالقبول باستمرارِ إيران بتخصيب اليورانيوم على المستوى المنخفض المقبول (3,6 في المئة تقريبًا) وذلك لأهدافٍ مدنية، لفترةٍ زمنية محدودة قبل تفعيل المقترح الأميركي المُشار إليه سابقًا، وهو ما ترفضه إيران بشدة باعتبار أنها دولةٌ عضو في معاهدة حظر الانتشار النووي، ولها بالتالي الحق بالتخصيب تحت سقفٍ مُعَيَّن على أراضيها. ويستندُ المقترح الأميركي أيضًا إلى “النموذج الليبي” عندما وافقت ليبيا (الجماهيرية) تحتَ الضغوطات الغربية في العام 2003 على تفكيك كافة البنى والتجهيزات التي تسمح بولوج باب المسار النووي. ومن نافل القول أنَّ الحالةَ الليبية تختلفُ كُلِّيًا عن الحالة الإيرانية، ما يعني الاستبعاد الكُلي لهذا الخيار الذي تجري الإشارة إليه بين الحين والآخر.
من السيناريوهات المُمكِنة أيضًا هو الدخول في لعبةِ شراء الوقت عند الطرفَين المَعنِيَين واحتواء الاختلاف والتوتر اللذين من الممكن أن ينتجان عن عدم التوصُّلِ إلى اتفاق. إنها سياسةٌ تقومُ على منطق “إبقاء المفتاح في الباب” في ظلِّ تعثُّر المفاوضات وفي ظلِّ التغييرات الإقليمية المُتسارِعة والمفتوحة على احتمالاتٍ عديدة (من الحرب الإسرائيلية المفتوحة في الزمان والمكان، إلى مسار التغيير الكبير في سوريا والذي أمامه العديد من التحدّيات). إنَّ مسارَ “الملفّ النووي” الايراني يؤثّرُ في الأوضاع الإقليمية، ولكنه أيضًا شديد التأثر بتطوّرِ هذه الأوضاع في ظلِّ لُعبةِ التنافُس والتفاهُم على إعادةِ ترتيبِ الإقليم الشرق أوسطي.
على صعيدٍ آخر، الموقفُ الإسرائيلي، الذي يُهدِّدُ باللجوءِ إلى العمل العسكري ضد إيران من دون أن يعني ذلك تنفيذه بالضرورة فيما لو نجحت المفاوضات في حرمان إيران كُلّيًا من خيار التخصيب النووي أيًّا كان مستواه وحتى في حدّه الأدنى، ما زالَ يخضع للخطِّ الأحمر الأميركي المُستَمِرّ في التفاوض رُغمَ التعثُّر الحاصل، من دون أن يعني ذلك إسقاطه كُلّيًا إذا ما اقتنعت واشنطن بالانسدادِ الكُلي لأُفُقِ التفاوض.
أيٌّ من الخيارات المُشار إليها هو الذي سيتحوّل إلى واقع سيتأثر من دون شك كما أشرنا بمساراتِ التغييرات الإقليمية والتوازنات التي تنتجُ عنها ولكنه سيؤثر بشكل كبير في منحى هذه التغييرات وبالتالي في نشوءِ نظامٍ إقليمي جديد.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).