الصِدامُ الكبير… قرارُ روسيا أم قرارُ الغَرب؟

محمّد قوّاص*

قبل أسابيع من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى خَلفيّةِ التقارير الاستخبارية، لا سيما الأميركية، عن عَزمِ موسكو على دَفعِ جيشها إلى داخل أوكرانيا، خرَجَت تصريحاتٌ غربية مُتعدّدة، خصوصًا من قادة لندن وواشنطن وباريس، تُكرِّرُ وتؤكّد أنه في حال نفّذت روسيا هذا الغزو فإن البلدان الغربية لن تُرسِلَ قوّاتٍ إلى داخل أوكرانيا وأنها لن تَصطَدِمَ مُباشَرةً بالقوّات الروسية تجنّبًا لأيِّ تصعيد.

كان ذلك قبل وقتٍ طويلٍ من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 27 شباط (فبراير) الماضي، أي بعد 4 أيام فقط على بدء العمليّات العسكرية، عن أوامر لوضع أسلحة الردع الروسية (النووية) في حالة جاهزية، بما يعني أن الرجل لم يكترث لسعي الغرب إلى عدم التصعيد، وتطوَّعَ مُسبَقًا للتلويح بالحرب العدمية الشاملة.

وفق قواعد “خفض التصعيد” الغربية المُفتَرَضة وقواعد التصعيد الروسية المُعلَنة، والظاهرة في استخدامِ الصواريخ الاستراتيجية المُجَنَّحة والفرط صوتية في معارك أوكرانيا، تجري منازلة غير مُتكافئة في مستوياتها لتجنّب حرب عالمية ثالثة. في ذلك ما يرصد تفوّق الطرف الروسي وتَمَوضعه المُسبَق لخوض تلك الحرب المُحتَملة بخطابها وخِططها وأدواتها.

رفضت المنظومة الغربية منذ العام 2008 ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي”الناتو” درءًا لما من شأنه استفزاز روسيا ورئيسها. كرَّر الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، هذا الرفض وراحَ يؤكّد أن الأمر لم يدخل أساسًا داخل دائرة النقاش والتفاوض. قطع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيراً الطريق على استجابة الاتحاد الأوروبي لطلبٍ تقدّم به الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي قبل أسابيع لانضمام بلاده إلى النادي الأوروبي. قال ماكرون إن الاتحاد لا يضمُّ بُلدانًا في حالة حرب. وعليه فإن الغرب، وتجنّبًا لـ”الحرب العالمية الثالثة” لا يزال يضع أوكرانيا خارج مُنَظّماته.

على أن هذه الدينامية تَجِدُ لها فذلكات وفتاوى في قرار المنظومة الغربية بمدِّ أوكرانيا بالمال والعتاد والسلاح. وتفتّقت نصوصُ هذا المدد عن تأويلاتٍ اعتباطية بشأن ما بإمكانه أن يكون تدخّلًا مُباشرًا لـ”الناتو” وما لا يكون. بمعنى أن واشنطن تُقرّرُ مثلًا أن على موسكو اعتبار إرسال بولندا مقاتلات “ميغ-29” إلى أوكرانيا تدخّلًا أطلسيًا مباشرًا، فيما إرسال الغرب صواريخ “ستينغر” ضد الطائرات وصواريخ “جافلن” ضد المدرّعات وما شابههما وحتى إرسال منظومات “S-300” الصاروخية من سلوفينا أو غيرها تفصيلات يفترض على روسيا، وفق المعايير في واشنطن، أن تعتبرها تحت سقف المعقول الذي لا يفجّر الصدام الكبير.

والمُفارقة أن روسيا تُجاري هذا الغرب وتتعايش مع فتاويه. فحتى موسكو، المُتضايقة من حجمِ التسلّح المُقَدَّم من الغرب إلى أوكرانيا ونوعيته، والمستهدفة قواعد التدريب غربًا والمتوعِّدة قوافل المساعدات المُنسابة من حدود بولندا وغيرها، لم تذهب إلى اعتبار ذلك الدعم تدخّلًا أطلسيًا مباشرًا يستدعي مواجهة روسية شاملة. ولا ريب في أن في ذاكرة بوتين كيف تخلّى الأطلسي عن تركيا إثر أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في العام 2015، فكان لموسكو اليد الطولى في إجبار أنقرة على الاعتذار وجرّها، وهي الأطلسية، إلى اقتناء منظومة الـ “S-400” الروسية.

والواضح أن الغربَ لا يُمسِكُ بقرار الحرب العالمية الثالثة من عدمها. وحدها خطط بوتين وأجندة روسيا، وربّما بما سيَستَجِدّ من مواقف صينية، تُقرّر ما من شأنه أن يُعتَبَرَ تدخّلًا أطلسيًا مُباشرًا حتى لو اقتصر التدخّلُ جدَلًا على إرسال خوذاتٍ للجنود على منوال ما فعلت ألمانيا قبل أن ينقلب موقف برلين باتجاه الدعم التسليحي الكامل لأوكرانيا.

ولئن يردد “الناتو” وتصريحات وزيرَي الخارجية والدفاع الأميركيين تأكيد الردّ الصاعق على أيِّ اعتداءٍ يُطاوِلُ دولةً من دول “الناتو”، فإن الارتجال الغربي يُغري بوتين في أن يرتكبَ أحد صواريخه “خطأ تقنيًا” يطاول بولندا أو رومانيا أو واحدة من دول البلطيق لتفقّد الأعراض الأولى للردّ الغربي المُزلزل الموعود.

أكثر من ذلك، فإن تحوّل الموقف الصيني اللافت بعد اتصال جو بايدن وشي جين بينغ، واصطفاف بكين، خطابًا ومواقف إلى جانب رواية موسكو للصراع، يدفع الرئيس الروسي إلى رفع سقوف التوتّر أَمَلًا في تعميق الانشقاق الدولي، والتعويل على اجتذاب دعم الدول المُتردّدة للدفع إلى مراضاة موسكو وزعيمها. لا بل قد يشجع التوتّرُ على إحداث تباينات داخل التعدّد الغربي خدمةً لـ”حوار” وتفاهم مع روسيا تجنّبًا للحرب التي ما برح بايدن وحلفاؤه يُردّدون العمل على تجنّبها.

في الأجل الطويل، والطويل جدًا، فإن زمام المبادرة بيد الغرب مُعوّلًا على “القنبلة الاقتصادية” التي وجّهها إلى موسكو مُنتَظِرًا بيأس قطاف ثمارها ولو بعد حين. في الأجل القصير والآني جدًا، فإن زمام المبادرة في يد بوتين الذي قد يتجاوز حافة الهاوية ليُجبِر الخصم الكبير على النزال الخطير أو الصفقة التاريخية التي من أجلها دخل مغامرة الحرب في أوكرانيا وهو ماضٍ في التعامل مع مفاجآتها بالهروب الإجباري إلى الأمام.

ديمتري بيسكوف، المُتحَدِّثُ باسم الكرملين قال لـ”سي أن أن” (CNN) قبل أيام إنه “إذا كان هناك تهديدٌ وجودي لبلدنا، فيُمكنُ استخدامها (الأسلحة النووية)”. يبقى أن تعريف ما هو “وجودي” يبقى مفتاحًا يحمله بوتين وحده من دون غيره.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في” النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى