العراق: حملاتُ تضليلٍ لتشكيلِ السياسات الخارجية

محمد صالح*

في أواخر شهر آب (أغسطس) الماضي، وبينما كان العراق يرزح تحت وطأةِ موجةِ قيظ ٍلاهبة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي وموجات الأثير بطوفانٍ من الاخبار الكاذبة والمعلومات المُضَلّلة التي لا تقل اضطرامًا. فقد قادت وسائل التواصل الاجتماعي والتلفاز العراقي حملةً واسعة الانتشار روَّجت لنظرية مؤامرة جديدة تستمد خيوطها من وجود 2,500 جندي أميركي في البلاد يعملون على مساعدة قوات الأمن العراقية وتقديم المشورة لها. واستغلت وسائل الإعلام ما شهدته بداية شهر آب (أغسطس) من تناوبٍ روتيني للقوات الأميركية اخْتُتِمَ بحفل في قاعدة أربيل الجوية، لنشر أخبار مفادها أن الولايات المتحدة تدبّر مخططاتٍ جديدة لتغيير نظام الحكم في العراق وسوريا، وللحدِّ من النفوذ الإيراني في العراق.

على الفور، حفلت منصة  (X) تويتر سابقًا) بعشرات الوسوم الجديدة مثل #القوات الأميركية و#العزم الصلب (في إشارة إلى العمليات الجارية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية) و#الأرتال الأميركية و#جرف الصخر (بلدة عراقية تحتلها الجماعات المسلحة الموالية لإيران). وانطلقَ زخمٌ إخباري زائف اعتمد فيه بعض المعلقين على مقاطع غير ذات صلة للادعاء بأن الجيش الأردني كان يشارك أيضًا في الخطط التي تقودها أميركا لإغلاق الحدود العراقية-السورية. وسرعان ما انضمَّ مُذيعو البرامج الحوارية المتلفزة والسياسيون ومن يُسَمّوْنَ، زعمًا، بالخبراء إلى الجوقة. وما زاد الطين بلّة أنَّ رئيسَ الوزراء العراقي السابق نوري المالكي أضفى مصداقية على هذه التكهّنات عندما أشارَ إلى أنَّ الجيشَ الأميركي خطّطَ لإغلاق الحدود العراقية-السورية، ومن المرجح أن يطيح بنظام بشار الأسد المجاور.

بدأت خيوط نظرية المؤامرة هذه تُحاكُ في منتصف العام 2022، عندما أثارت تصريحاتٌ زائفة أطلقها النائب العراقي السابق فائق الشيخ علي، لغطًا عن خطةٍ دولية لإسقاط النظام القائم في العراق بحلول العام 2024. واتَّسَقت تلك التصريحات – التي تعتمد في أساسها على فكرة أنَّ أيَّ تدخّلٍ عسكري-أميركي لا بدَّ أن يكونَ الهدفَ منه هو خدمة المصالح الأميركية في العراق ولا يمكن اعتباره مجرد تناوبٍ روتيني للقوات الموجودة بالفعل على الأرض – مع التحرّكات العسكرية الأميركية الأخرى في المنطقة والتي شملت نشر أكثر من 3000 جندي من مشاة البحرية الأميركية في الخليج في آب (أغسطس)، لحماية السفن المدنية من العدوان الإيراني.

على الرُغم من مسارعة كبار المسؤولين في كلٍّ من العراق والولايات المتحدة الأميركية لنفي تلك المزاعم الكاذبة إلّا أنَّ الضجّة التي أثارتها هذه التصريحات على منصّات التواصل الاجتماعي ووسائط الإعلام التقليدي كانت مؤشّرًا واضحًا على انسياق تلك الجهات التي تحوّلت إلى أرضٍ خصبة تُغذّي حملات التضليل المتعلّقة بالسياسات الخارجية. وبالطبع فضحت الوسوم التي اختارتها تلك الحملات على موقع تويتر (X) جاهزيتها المسبقة وتعمّدها الواضح، خصوصًا عندما بدأ العديد من الحسابات المُزَيَّفة نشر المعلومات المغلوطة. وسرعان ما انخرطت جماعاتٌ ذات توجّهاتٍ سياسية مُتباينة في تلك الحملات لتزداد لعبة الشدّ والجذب احتدادًا بين المجموعات المتناقضة إيدلوجيًا من الأفراد الذين يعارضون الحكومة الحالية المتحالفة مع إيران وبين الشخصيات والحسابات التابعة لجماعات الميليشيات الموالية لإيران.

مع تباين الدوافع التي تُحرِّكُ المعسكرين، سعى كلاهما إلى نشر المعلومات المُضلِّلة التي تضمن انحياز الرأي العام لصالحه. حيث ركّز الجانب المعارض للتدخل الإيراني على نشر الذعر بين القاعدة الشعبية الموالية لإيران في البلاد من خلال التلميح بضعف القبضة الإيرانية الشيعية على السلطة، مُستَفيدين من مشاعر الاستياء المُنتشرة بين العراقيين ضد هيمنة الميليشيات وفساد النُخَب السياسية. أما الجانب الموالي لإيران فسعى إلى ترويج ادّعاءاتٍ مفادها أنَّ الولايات المتحدة الأميركية لديها بالفعل خططٌ شائنة في ما يخص المنطقة، مثل الإطاحة بنظام الأسد في سوريا أو إعادة تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى الساحة من جديد. واستغلت هذه المجموعات الفرصة لاستعراض قوّتها وتعزيز رصيدها الشعبي كحركة مضادة لأميركا والضغط من أجل التخلّص من القوات الأميركية الموجودة في العراق.

على الرُغم من التراجع النسبي لزخم هذه الحملة إلّا أنه من المتوقع أن نشهد تكرارًا لها في صورة حملاتٍ مماثلة قد تكون إحداها ما راج أخيرًا عن سعي السفارات الأجنبية والمنظمات العالمية العاملة في البلاد لتطبيعِ مبادئ المثلية الجنسية والأدوار الجندرية غير التقليدية. الواقع، هو أن وسائط التواصل الاجتماعي غير المُقونَنة ووسائل الإعلام التقليدية المُتحزِّبة التي تتحرّك في بيئةٍ سياسية مُجزَّأة وشعبوية للغاية لا يمكن إلّا أن تكونَ مرتعًا خصبًا للشائعات والمعلومات المضلِّلة. وهو ما سيُشجّعُ ذوي المصالح والدوافع السياسية المتباينة على الاستمرار في التلاعب بالإعلام، وخصوصًا منصات التواصل الاجتماعي، بهدف تشكيل السياسات والعلاقات الخارجية لدولة العراق.

  • محمد صالح هو زميل أول في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا، حاصل على درجة دكتوراه في الاتصالات من كلية اننبرج في جامعة بنسلفانيا وتركز أبحاثه وكتاباته على العراق والقضايا الإقليمية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MohammedASalih 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى