لا تَدَعُوا الجغرافيا السياسيّة تُدَمِّرُ التَحَوُّلَ السياسي في سوريا
إذا ركّزت الحكومات الأجنبية والهيئات الدولية على مصالحها الضيّقة وفرضت شروطًا مُرهِقة على منح المساعدات، فمن المؤكد أنَّ التحوُّل في سوريا سوف يتعثّر. لذلك يتعيّن عليها بدلًا من ذلك أن تدعمَ البلاد في جهودها لإعادة بناء الاقتصاد، والانفتاح على العالم، والسلام مع نفسها.

فولكر بيرثيس*
في كانون الأول (ديسمبر) 2024، انهار نظام بشار الأسد مثل بيتٍ من ورق. استولت قوات المتمرّدين بقيادة مقاتلين من “هيئة تحرير الشام” على حلب، في شمال سوريا، قبل أن تتجه جنوبًا في هجومٍ خاطف. وعند وصول المتمرّدين إلى دمشق بعد أكثر من أسبوعٍ بقليل، أصبح من الواضح أنَّ قوات الجيش والأمن الحكومية لم تكن مستعدة للقتال من أجل النظام، وفرّ الأسد، بعد ما يقرب من 25 عامًا في السلطة، إلى موسكو. وأصبح زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع، رئيس الدولة بحُكم الأمر الواقع في سوريا، وعيّنَ حكومةً مؤقتة، وأعلن جدولًا زمنيًا للانتقال والتحوّل السياسي في البلاد.
استفادَ هجومُ المتمرّدين من التحضير الدقيق ودعم تركيا، التي تحتل أراضٍ في شمال سوريا والتي كانت توفّرُ طريق الوصول الآمن الوحيد إلى إدلب، حيث كانت “هيئة تحرير الشام” متمركزة. لكن مع ذلك، لم يتوقع أغلب المراقبين انهيار النظام بهذه السرعة. فقد قلّل هؤلاء من تقدير اعتماد الأسد المُستمرّ على الداعمين الخارجيين الذين ساعدوه على الانتصار في الحرب الأهلية في سوريا، التي بدأت في العام 2011 بعد أن قمع النظام المظاهرات السلمية بعنف. كانت الصراعات في أماكن أخرى سببًا في جعل حلفاء الأسد الرئيسيين غير قادرين أو غير راغبين في الدفاع عنه: روسيا منشغلة بحربها في أوكرانيا؛ إيران متردّدة وضعيفة وعاجزة عن حماية وكلائها؛ و”حزب الله” في لبنان صار ضعيفًا بسبب قتاله مع إسرائيل.
بعد سقوط النظام، سارع ممثلون من الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة إلى التعرُّف على قادة سوريا الجدد. اعتبرت الوكالات الإنسانية العاملة في إدلب “هيئة تحرير الشام” وحكومتها الإقليمية الفعلية جهات فاعلة براغماتية. لكن “هيئة تحرير الشام” نشأت في الأصل، في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من “جبهة النصرة”، الفرع السوري لتنظيم “القاعدة”. ومنذ ذلك الحين، نبذت الجماعة “القاعدة” وحاولت التخلُّص من جذورها المتطرّفة، لكن الولايات المتحدة والأمم المتحدة وغيرهما من الدول ما زالت تصنّفها كمنظمة إرهابية. وعلى هذا النحو، أصبح صنّاعُ السياسات والمسؤولون قلقين بشأن نوايا وإيديولوجية أعضائها، وحذرين من المساعدة المُحتملة التي قد تؤدّي إلى ظهور دولةٍ إسلامية جهادية.
سوريا تقفز إلى المجهول. يبدو أن الغالبية العظمى من السوريين –بمن فيهم رجال الأعمال والسلطات الدينية في البلاد، فضلًا عن أولئك الذين يعملون في البيروقراطية المكتظة بالموظفين ولكن ذوي الخبرة- تدعم الانفصال التام عن الفساد وسوء الإدارة اللذين كانا سائدين في نظام الأسد. إنَّ التحوُّلَ في سوريا لا يمكن أن يُصبحَ موضوع صراع جيوسياسي إذا كان له أن يُسفِرَ عن تغييرٍ إيجابي. فعلى مدى عقود، نبذَت قوى إقليمية وعالمية عدة نظام الأسد، وحاولت من دون جدوى تغييره، أو العمل معه ــأو حوله ــ لتحقيق غاياتها الخاصة. لم تعد هذه الأساليب قابلة للاستمرار، وتستحق سوريا فرصةً للمضي قدمًا من بؤس سنوات الأسد، حتى لو لم يتّضح بعد أي نوع من القادة سوف يصبح الشرع أو غيره من شخصيات “هيئة تحرير الشام”. وإذا ركزت الحكومات الأجنبية والهيئات الدولية على مصالحها الضيّقة وفرضت شروطًا مُرهقة على المساعدات، فمن المؤكد أنَّ التحوُّل في سوريا سوف يتعثّر. بل يتعيّن عليها بدلًا من ذلك أن تدعمَ سوريا في جهودها لإعادة بناء اقتصادها، والانفتاح على العالم، والسلام مع نفسها.
أيدٍ مُساعِدة
بعد سنواتٍ من الحرب والقمع والتدمير والنزوح التي أدت إلى تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، ستحتاج سوريا إلى دعمٍ دولي لانتقالها وتحوّلها السياسي. ومن وضعٍ مستقر فقط يمكنها أن تبدأ إعادة البناء وإقناع اللاجئين والشركات المنفية بالعودة وجذب الاستثمار. وسيكون للأمم المتحدة، على وجه الخصوص، دورٌ رئيس لتلعبه، وينبغي لحكام سوريا الجدد أن يسعوا بنشاط للحصول على دعمها.
لدى الأمم المتحدة أصلًا مبعوثٌ خاص لسوريا، فضلًا عن قرارٍ قائم لمجلس الأمن الدولي، من العام 2015، يعهد إلى المنظمة الدولية تسهيل العملية السياسية لإنشاء “حكمٍ موثوق وشامل وغير طائفي” في سوريا. لا يزال هذا الهدف يتماشى مع تطلّعات الشعب السوري. لكن الآليات الموضوعة لتحقيقه لم تعد سليمة. تمّ تمرير القرار لإشراك نظامٍ لم يعد موجودًا. لسنوات، سهّل المبعوث الخاص المحادثات حول دستور سوري جديد أو مُنقَّح بين وفود صغيرة من الحكومة ومن فصائل المعارضة المتمركزة في الغالب في تركيا. ولم تسفر المحادثات عن أيِّ نتائج، وأصبحت بمثابة بديلٍ من مفاوضاتٍ جوهرية حول السلام والتغيير السياسي الفعلي. وعلاوة على ذلك، تم استبعاد “هيئة تحرير الشام”، الكيان الذي يتولى السلطة الآن، من أيِّ عمليات تُيَسِّرها الأمم المتحدة، بسبب تصنيفها كمنظمةٍ إرهابية.
إنَّ القادة الجُدد يُريدون قطيعةً كاملة ليس فقط مع نظام الأسد، بل وأيضًا مع النهج الذي تبنّاه المجتمع الدولي تجاه سوريا على مدى العقد الماضي. وقد بدأ الشرع وحكومته المؤقتة الاستعدادَ لعقد مؤتمر وطني لمناقشة مستقبل البلاد والاتفاق على دستورٍ جديد، ولكن فصائل المعارضة التي انخرطت معها الأمم المتحدة والعديد من العواصم العالمية لن يتمَّ تمثيلها كمجموعات. مع ذلك، أشار القادة الجدد إلى أنهم سيكونون مُنفَتحين على دمجِ أفرادٍ من فصائل المعارضة هذه في المؤتمر وفي عملية الانتقال الأوسع نطاقًا. ويبدو أنَّ الشرع ورفاقه يدركون الطبيعة التعدُّدية للمجتمع السوري المتنوِّع عرقيًا ودينيًا، ويدركون أنهم لا بُدَّ وأن يحترموا هذه الطبيعة إذا كانوا راغبين في بناءِ شكلٍ مستدام من أشكال الحكم. والواقع أنَّ الجماعات المسلحة التي أطاحت النظام تُشكّلُ في حدِّ ذاتها تحالفًا له خلفيات إيديولوجية وإقليمية مختلفة. في الوقت الحاضر، يبدو أنها تتمتّع بدعمِ طيفٍ واسع من المجتمع السوري. لكن مع وجود معركة موحَّدة ضد النظام المخلوع الآن خلفهم، فإنَّ النزاعات على السلطة والموارد سوف تظهر حتمًا.
إنَّ الأمم المتحدة لا بُدَّ وأن تستجيبَ لهذا المشهد المتغيِّر. ونظرًا للانقسامات في مجلس الأمن الدولي، فإنَّ الاتفاقَ على قرارٍ جديد سوف يكون صعبًا، ولكن من المُمكن تحقيقه، وخصوصًا إذا تجنّبت الحكومة السورية الجديدة الانجرار إلى صراعاتٍ جيوسياسية. ويتعيّن على مجلس الأمن الدولي أن يُنشئ بعثةً جديدة على الأرض أو يحوّل مكتب المبعوث الخاص في جنيف إلى بعثةٍ مقرّها دمشق بتفويضٍ واضح لمساعدة عملية الانتقال. وهذا يشمل الدعم التقني لأيِّ عملياتٍ سياسية أو دستورية بقيادةٍ سورية، والاستفادة من تجارب هيئات الأمم المتحدة المختلفة في عمليات الانتقال السياسي وبناء السلام في بلدان أخرى. وينبغي للبعثة في سوريا أن تُساعدَ أيضًا في إرساء سيادة القانون ــمن خلال بناء قوة شرطة ذات مصداقية وإصلاح قطاع االجيش ولأمن ــ فضلًا عن الإصلاح القانوني، وحماية حقوق الإنسان، ووسائل المصالحة. ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، فإنَّ أكثر من نصف سكان سوريا نزحوا داخليًا أو خارجيًا منذ بداية الحرب الأهلية، وسوف يحتاج أيُّ شخصٍ يعود إلى سوريا إلى إعادة الإدماج. وبوسع الأمم المتحدة أن تستفيدَ من خبرات الدول الأعضاء مثل كولومبيا أو جنوب أفريقيا لدعم عملية العدالة الانتقالية للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان الفظيعة التي ارتكبها نظام الأسد، مع المساعدة على منع الهجمات الانتقامية بين المجتمعات السورية أو داخلها. وعلاوةً على ذلك، ينبغي للأمم المتحدة أن تواصل جهودها لتنسيق المساعدات الإنسانية وتعزيز التنمية والاستدامة.
لكنَّ الدعمَ المادي لإعادة إعمار البلاد سوف يقعُ في الغالب على عاتق الكيانات ذات المصلحة الخاصة في استقرار سوريا: دول الخليج العربي، والاتحاد الأوروبي، وربما الولايات المتحدة. إنَّ احتياجات سوريا هائلة، وتقدر بمئات المليارات من الدولارات. فقد انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سوريا بأكثر من النصف منذ بداية الحرب الأهلية. وتدهور النظام الصحي بشدة. ودُمِّرت المناطق السكنية والبنية الأساسية الاجتماعية في المدن ذات الكثافة السكانية العالية للمعارضة. ولتحفيز فرص العمل والتعافي الاقتصادي، لا بُدَّ أن تُركّز جهود إعادة الإعمار أوّلًا على البنية الأساسية للطاقة والرعاية الصحية والإسكان. وسيتعيّن على مثل هذا الدعم أن يأتي بقوة وسرعة: فالافتقار إلى التعافي الاقتصادي السريع والمرئي من شأنه أن يُغذّي السخط وبالتالي يُعرّضُ انتقالَ سوريا نحو نظامٍ سياسي شامل وتعدُّدي للخطر، على غرار التحوّلات الفاشلة في تونس والسودان بعد إطاحة زعماء، حكموا هذين البلدين منذ فترة طويلة، في العامين 2011 و2019 على التوالي.
لقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات واسعة النطاق على نظام الأسد، بما فيها حظر الأسلحة، والقيود على المعاملات المالية، وضوابط التصدير الصارمة، فضلًا عن حظر الاستثمارات في قطاع الطاقة السوري وواردات النفط السوري. والآن بعد رحيل الأسد، أصبحت هذه التدابير عقبات رئيسة أمام إعادة تشغيل اقتصاد البلاد ويجب رفعها أو تعليقها على الفور. وهي منفصلة عن مئات العقوبات المفروضة على الأفراد أو الكيانات التي ساعدت على إثراء عائلة الأسد أو تنفيذ سياسات النظام القمعية: يجب أن تظل هذه العقوبات قائمة لمساعدة السلطات السورية الجديدة على مقاضاة الجناة والعثور على الأموال المسروقة.
الجغرافيا السياسية جانبًا
قد تميل القوى العالمية إلى استغلال البدايات الجديدة في سوريا لصالحها، ولكن جَرّ الحكومة المؤقتة إلى نزاعاتٍ إقليمية أو دولية قد يؤدي إلى إفشال عملية الانتقال. إنَّ الجغرافيا السياسية ليست من الأولويات الحالية بالنسبة إلى قادة سوريا الجدد. ولنتأمل على سبيل المثال أنَّ أعضاء الحكومة المؤقتة، على الرُغم من خلفياتهم الإسلامية المتشددة، امتنعوا عن إطلاق أي خطاب عدواني مُعادٍ لإسرائيل. فقد صرح وزير الخارجية السوري الجديد أسعد حسن الشيباني لقناة “الجزيرة” الفضائية في يوم رأس السنة الجديدة أن سوريا تريد “السلام والازدهار” وأنَّ أيَّ “قضايا مُعلَّقة بين سوريا وإسرائيل” ــبما في ذلك التوغلات الإسرائيلية خارج خطوط فك الارتباط التي تفصل بين البلدين ــ سوف يتم التعامل معها “في مفاوضات سلمية”. ومن الجدير بالملاحظة استخدام مثل هذه اللغة، وكان من الجدير بالملاحظة أيضًا أنَّ الوزير أطلق على الدولة العبرية اسم إسرائيل بدلًا من “الكيان الصهيوني”، كما كان مُعتادًا في ظل نظام الأسد.
وقررت الحكومة الانتقالية أيضًا التعامل بحذر مع روسيا، الداعم الخارجي الرئيس للنظام القديم. فبعد سقوط الأسد، انسحب الجنود الروس، المنتشرين في مختلف أنحاء البلاد، بسرعة إلى القاعدتين الجوية والبحرية الروسيتين في سوريا. ووفقًا للسلطات الجمركية السورية، ألغت الحكومة منذ ذلك الحين اتفاقية استثمار مدتها 49 عامًا مع شركة “سترويترانسغاز” (Stroytransgaz) الروسية بشأن إدارة وتوسيع ميناء طرطوس الذي يضم القاعدة البحرية الروسية. وما زال من غير الواضح ما يعنيه هذا في الواقع بالنسبة إلى حقوق الرسو للسفن الروسية، وكذلك مستقبل القاعدة الجوية الروسية في حميميم. وربما ترغب السلطات السورية في التفاوض على التفاصيل أو حتى السماح ببعض الوجود الروسي المحدود في مقابل دعم موسكو في مناطق أخرى. لكن روسيا قد تقرر بنفسها أنه من الأكثر أمانًا سحب كل قواتها، نظرًا للدور الحاسم الذي لعبته قواتها الجوية في تدمير المدن السورية الكبرى والكراهية التي أحدثتها هذه العملية.
لقد أعاد حكام سوريا الجدد تأسيس العلاقات الديبلوماسية مع أوكرانيا، بل وتحدثوا حتى عن “شراكة استراتيجية” بين البلدين. لكن سوريا لا تريد أن تقع في خضم التنافس الجيوسياسي، ومن المؤكد أن قادتها لا يحتاجون إلى مواجهة مع روسيا أو أن تُقدّمَ روسيا الدعم لما تبقّى من النظام القديم. وتهدفُ الحكومة الجديدة إلى إبعاد روسيا عن الشؤون الداخلية السورية من دون إغلاق أيِّ أبواب. وهي تعترف بأنَّ روسيا “دولة مهمة في العالم”، كما قال الشيباني، وتعتبر موسكو شريكًا مُحتمَلًا في المستقبل. بل وربما تسعى إلى كسب ود روسيا الآن، لأن سوريا لن تكون قادرة، على الأقل في الأمد القريب، على استبدال أسلحتها الحالية، والتي كلها روسية تقريبًا، أو التخلي عن الخبرة المتعلقة بالبنية الأساسية المدنية التي بنتها روسيا، بما في ذلك محطات الطاقة والسدود.
أما الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى فسوف تستفيد إذا أغلقت سوريا القواعد الروسية وبالتالي حدّت من قدرة موسكو على الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. لكن لا ينبغي لها أن تضغط على دمشق للقيام بذلك، ولا ينبغي لها أن تجعل الدعم أو تخفيف العقوبات مشروطًا بأيِّ مواقف في السياسة الخارجية. إنَّ مثل هذه المطالب من شأنها أن تضغط على عملية الانتقال السياسي في سوريا، وتُشتّت الانتباه عن مخاوف التنمية الأكثر إلحاحًا، وترسل إشارة إلى الشعب السوري بأنَّ العقوبات المفروضة على نظام الأسد لا تهدف في نهاية المطاف إلى إنهاء القمع الوحشي بل إلى تعزيز أجندة جيوسياسية غربية ــ وهي الرواية التي غذّاها النظام القديم في عقول مواطنيه لسنوات. وعلاوة على ذلك، إذا دفع السعي إلى تلبية الشروط الغربية الحكومة المؤقتة إلى صراع مفتوح مع روسيا أو أيٍّ من مؤيدي الأسد، فلن تكون أي دولة غربية مستعدة للتدخّل لمنع عدم الاستقرار الذي قد يترتّب على ذلك.
إن الأطراف الدولية الأكثر انخراطًا بشكلٍ مباشر في سوريا ومع الشتات السوري لا بُدَّ وأن تمارس ضبط النفس بشكلٍ خاص. فتركيا، على سبيل المثال، هي المستفيد الرئيس من التغيير في سوريا، ولكن بعض تصرفاتها يُشكّلُ مخاطر على الانتقال السياسي. وتسعى أنقرة إلى تحقيق شاغِلَين مُتناقِضَين في سوريا: فهي تريد جارًا مُستقرًّا حتى تتمكّن غالبية اللاجئين السوريين الذين يزيد عددهم على ثلاثة ملايين لاجئ يعيشون في تركيا من العودة إلى ديارهم، ولكنها تعمل في الوقت نفسه أيضًا على توسيع حربها التي استمرت لعقود ضد حزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية من خلال القتال، جُزئيًا بالوكالة، ضد “قوات سوريا الديموقراطية”، وهو تحالفٌ يقوده الأكراد من الميليشيات المدعومة من الولايات المتحدة. ويتعيّن على أميركا وأوروبا أن تُجريا محادثةً صريحة مع أنقرة، العضو في حلف شمال الأطلسي، حول مصالح تركيا ومخاوفها المتعلّقة بسوريا، وأن تُوضِّحا أنَّ حدوث انتقالٍ مستقر يتطلّبُ أن يكونَ للأكراد السوريين ــبما في ذلك الجماعات التي أدارت جُزءًا كبيرًا من الشمال الشرقي على مدى العقد الماضي ــ دورٌ في الحكومة السورية.
وينبغي على الدول الأوروبية أيضًا أن تتصرّفَ بمسؤولية لتجنُّب زعزعة استقرار انتقال وتحوّل سوريا. بعد تركيا ولبنان، تُعَدُّ أوروبا موطنًا لأكبر عدد من اللاجئين السوريين. وبدلًا من الاستسلام للمشاعر الشعبوية والمطالبة بعودة اللاجئين بسرعة، يتعيّن على القادة الأوروبيين وضع سياسات تُمكِّنُ النازحين السوريين من دعم إعادة إعمار وطنهم سواء عادوا أم لا، وبالتالي المساعدة على بناء علاقات شعبية قوية بين سوريا وأوروبا.
إنَّ دعمَ عملية الانتقال والتحوّل يعني أيضًا احترام سيادة سوريا. ففي الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”)، على سبيل المثال، اعتمدت مجموعة “الولايات المتحدة والتحالف العالمي لهزيمة “داعش””، وهي مجموعة تقودها أميركا وتضم أكثر من 80 دولة، على “قوات سوريا الديموقراطية” باعتبارها شريكًا رئيسًا لها على الأرض في سوريا. ويتعيّن على التحالف أن يدعو سوريا لتصبح عضوًا في المجموعة، وهو ما من شأنه أن يعترفَ بالسيادة السورية ومسؤولية الحكومة في المساعدة على مواجهة التهديد المتبقّي من “داعش”. وللولايات المتحدة وجودٌ عسكري محدود في سوريا (2000 جندي) لمحاربة خلايا “داعش” النشطة؛ وينبغي لهذه القوات أن تبقى، وأن تعمل ليس فقط مع “قوات سوريا الديموقراطية” ولكن أيضًا مع الحكومة الجديدة في دمشق. وفي المقابل، ينبغي للحكومة السورية، بمجرد أن تصبح مستعدّة، أن تتولّى هي إدارة معسكرَي الاعتقال في “الهول” و”الروج” في الشمال الشرقي، اللذين تديرهما “قوات سوريا الديموقراطية” ويحتجزان نحو 9,000 مقاتل من “داعش” ونحو 40 ألف نازح.
في نهاية المطاف، سوف يقع على عاتق قادة سوريا الجدد الحفاظ على مسار البلاد الذي يضمن استمرار المساعدات الدولية. لكن أوّلًا، يتعيّن على العالم أن يفسحَ الطريق، ويقاوم الرغبة في السماح للمصالح الجيوسياسية الضيّقة بعرقلة التعاون الذي سيكون ضروريًا للسماح لسوريا بإعادة البناء. ولتحقيق السلام والاستقرار، تحتاج سوريا إلى مساعدة الشركاء الحاليين والمستقبليين الذين لن يجبروا البلاد على اتباع رؤاهم الخاصة، بل سيساعدون بدلًا من ذلك على دعم رؤى سوريا.
- فولكر بيرثيس هو زميل زائر مُتميِّز في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفِّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.