مُبدِعاتٌ موسيقيّات مَنسيات (5): باربرة سْتروتْــزي: 344 سنة من النسيان

الطبعة الأُولى من رائعتها “خطف أُوروبا” (1659)

هنري زغيب*

بعد أُسبوعين تمامًا (11 تشرين الثاني/نوڤمبر) يحتفل العالَـم الموسيقي بمرور 344 سنة على وفاة المؤَلفة الموسيقية باربرة سْتروتْــزيStrozzi  (6 آب/أُغسطس 1619 11 نوڤمبر 1677) محاولًا استعادتها من غياب كثيف، هي التي كانت أَبرز اسم أُنثوي غناءً وعزفًا وتأْليفًا موسيقيًّا باروكيًّا في إِيطاليا القرن السابع عشر.

بين السيرة والمسيرة

في سيرتها غرابةٌ وغموض، وفي مسيرتها وُضوحٌ وإِشراق.

  1. سيرةً: يرجَّح أَنها ابنة غير شرعية للشاعر والكاتب المسرحي والأُوپرالي والغنائي الأَشهر في “جمهورية البندقية” عصرئذٍ جوليو سْتْروتْزي (1582-1752) من والدتها إِيزابيلَّا غارزوني مدبِّرة منزل الشاعر جوليو، وفيه عاشت مع ابنتها باربرة وذَكَرَهُما في وصيَّته.
  2. مسيرةً: كانت أَول امرأَة توقِّع باسمها الصريح أَعمالها المطبوعة فيما معاصراتها كنَّ ينتحلْن أَسماء مستعارة ذُكُورية لنشر أَعمالهنَّ في مجتمع لم يكن يحتمل بروزَ اسم امرأَة في دنيا التأْليف الموسيقي المعقود حصرًا للمؤَلفين. ولكي تُوغِلَ في تحدِّي ذكورية المجتمع كتبَت معظم موسيقاها لغناء أَصوات أُنثوية.
مجموعة من أُغنياتها في طبعة جديدة

بدايات مبكرة

كانت ولادتها في البُندقية، عاصمة الأُوپرا في العالم عصرئذٍ، ونشأَت في بيت الشاعر الذي رعاها منذ طفولتها، وشجَّعها باكرًا حتى أَنها، حين بلغَت الثامنة عشْرة، اتَّخذَت اسم عائلته للخروج إِلى المجتمع الفني عهدئذٍ، ودخول أَوساط البندقية ليبيراليةً متحررةً من قيود ذاك المجتمع. وما بدأَت مواهبها بالتبلْوُر حتى أَخذ جوليو يهيِّئُ لها حفلات تغنِّي فيها، معرِّفًا عنها ابنته بالتبنِّي. وكي تتمرَّس بالغناء والتأْليف، عهَدَ بها إِلى صديقه المؤَلِّف الموسيقي الشهير عصرئذٍ فرنتشسكو  كاڤالِّـي (1602-1667).

بدأَ اسمها ينتشر وهي بعدُ في الثانية عشْرة، خصوصًا بعد عزفها وغنائها في “عيد السلام” سنة 1631. واشتهرت بعزفها على القيثارة وغنائها الباروكي في أَفخم أُمسيات المنطقة. وفي عيد ميلادها السادس عشر أَخذ جوليو يقدِّمها تغني من أَعمالها الخاصة خلال حفلات عامة في منزله الفخم الذي كان يستقطب نخبة موسيقيي العصر ومؤَلِّفيه. ولأَن والدها في مراحلها الأُولى كان يكتب نصوص أَغانيها، انطلقَت بسُرعةٍ لشهرته وذُيوع كتاباته شعرًا ومسرحًا وأُغنيات، وعُرفَت بحذاقتها الموسيقية كيف تقرِّب المسافة بين الكلمة واللحن، في إيقاع سائغ ما زال حتى اليوم ذا ذائقة باروكية عذبة.

الطبعة الأُولى من أَول كتاب لها (1644)

اللجوء إلى الحرام

بين روَّاد حفلاته في منزله الفخم، كان رجلُ الأَعمال وراعي الفنون ومشجِّعها في عصره النبيل البندقيّ جيوڤاني پاولو ڤيدمان الذي سرعانَ ما استهوتْه باربرة فاتخذها عشيقته وأَسكنها بيته. ومن “زواجه” منها بدون زواج رسمي، ولَدَت له أَربعة أَولاد: جوليو (على اسم متبنِّيها)، إِيزابيلَّا (على اسم والدتها)، لورا، مسيمو. الأَخير أَصبح زاهدًا، والابنتان دخلتا الدير. وبعد وفاتها في پادوڤا عن 58 سنة (1677) من دون وصية، تولَّى ابنُها جوليو كل ميراثها.

قهر المجتمع الذكُوري

سنة 1635 صدر كتاب :”غرائب شعرية” وفيه تقريظ رفيع لمواهبها الغنائية. لكن تآليفها لم تحظَ بالتشجيع في عصرها، بسبب ذُكُورية النظرة إِلى التأْليف الموسيقي، مع أَنها أَلَّفت عملًا لأَمبرطور النمسا فردينان الثالث وعروسه إِليونورا لمناسبة زواجهما، وعملًا ثانيًا لدوقة النمسا آنَّا دو ميديتشي، وثالثًا لدوق البندقية نيكولو ساغريدو، ورابعًا لدوقة برونزويك صوفيا، وخامسًا لدوقة توسكانا ڤيتُّوريا دلَّا روڤيري، وسادسًا لدوقة مانتوڤا سنة 1665 بعد عام على صدور مؤَلفاتها الكاملة التي كرَّسَتْها “أَفضل مؤَلَّفات موسيقية غير دينية في البندقية منتصفَ القرن السابع عشر”، وليس لها من التآليف الدينية إِلَّا عمل واحد.

إِحياءُ أُغنياتها بأَصوات معاصرة

المطبوع والمخطوط

معظم كتابتها المطبوعة لصوت السوپرانو، وهي في مجموعها متأَثرة بأُستاذها كاڤالي المتأَثر بكلاوديو مونتيڤيردي (1567-1643). وعن آلِن روزاند وبيث غليكسون في كتابهما “قاموس الموسيقى والموسيقيين والموسيقيات” أَن “الصعوبة في كتابة سْتْروتْـزي للسوپرانو، جعلت أَن تكون هي ذاتها مؤَدِّية أُغنياتها”.

مؤَلفاتها المطبوعة على حياتها صدرت في ثمانية أَجزاء (ضاع منها اليوم أَربعة)، وبقية مؤَلفاتها المخطوطة موزعة حاليًّا بين إِيطاليا وأَلمانيا وإِنكلترا، تنتظر من يعزفها ويؤَدّيها وينشرها. فهي أَكثر المؤَلِّفين والمؤَلِّفات غزارةً مطبوعةً في عصرها. ويؤْلم أَنها اليوم من المنسيات.

أَول عمل مطبوع تولَّاه والدها جوليو سنة 1644 (وكانت في الخامسة والعشرين)، ولأَنها تعرف أَيَّ جمهور ذُكُوريّ تواجه، كتبَت في مقدمة الكتاب: “لأَنني امرأَة، يَهمُّني أَن أُصدر هذا الكتاب، آملةً أَن يستريح هانئًا سالِمًا تحت شجرة بلُّوط ذهبية، وأَلَّا تُهدِّدَه سيُوفُ افتراءٍ سَبَقَ أَن ارتفعَت ضدَّه”.

إِيطالياها تسترجعها من النسيان

وبين تلك الافتراءات حرمانُها من دعوتها إِلى العزف في البلاطات أَو لتأْليف أُوپرا. ولأَن مردود أَعمالها وغنائها وعزْفها لم يكُن يكفيها لتعيش، اضطُرَّت إِلى ما كانت تَعتمدُه أَيُّ موهوبة في عصرها ووضْعها: أَن تكون محظيَّة رجل غنيَّ تُصبح خليلته بأَيِّ ظرف يلائمها. لذا كانت كلمة “عشيقة” وبالًا عليها في عيون معاصريها فأَشاحوا عنها وعن أَعمالها.

غير أَن إِيطاليا تتذكَّرها اليوم، وبعد أُسبوعين تحتفي بذكراها بعد 344 على غيابها، فتنتشلُها من النسيان بإِعادة أَعمالها  تسجيلاتٍ حديثةً تعيد إِلى الحضور موسيقى جعلت صاحبتها سيِّدة عصرها الموسيقيّ.

المقال التالي –  الحلقة الأَخيرة: جيرمين تايفير (1892-1983)

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى