النظامُ قبل السلام: ديبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط والعِبَرُ منها اليوم
في ما يلي مقالُ مٌقتبس من كتاب “سيّد اللعبة: هنري كيسنجر وفن ديبلوماسية الشرق الأوسط” الذي يصدر خلال أيام للمساعد السابق لوزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ومبعوث الرئيس باراك أوباما إلى الشرق الأوسط، مارتن إنديك.
مارتن إنديك*
أكّدت النهاية المُخزية للحرب الأميركية في أفغانستان بشكلٍ كبير على تعقيد وتقلّب الشرق الأوسط الكبير. قد يُحاول الأميركيون مواساة أنفسهم بأنهم أخيراً يُمكنهم إدارة ظهورهم لهذه المنطقة المضطربة لأن الولايات المتحدة الآن مُكتفية ذاتياً من الطاقة وبالتالي أقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط. لقد تعلّمت واشنطن بالطريقة الصعبة ألّا تحاول إعادة تشكيل المنطقة على صورة الولايات المتحدة. وإذا كان القادة الأميركيون يميلون إلى شنّ الحرب هناك مرة أخرى، فمن المرجح أن يجدوا القليل من الدعم الشعبي.
ومع ذلك، فإن الابتعاد من الشرق الأوسط الكبير أسهل قولاً من فعله. إذا استمرّت إيران في دفع برنامجها النووي إلى عتبة تطوير سلاح، فقد يؤدي ذلك إلى سباقِ تسلّحٍ أو ضربة إسرائيلية استباقية من شأنها أن تجرَّ الولايات المتحدة مرّة أخرى إلى حربٍ جديدة في الشرق الأوسط. لا تزال المنطقة مُهمّة بسبب مركزيتها الجيوستراتيجية، وتقع على مفترق طرق أوروبا وآسيا. تعتمد إسرائيل وحلفاء واشنطن من العرب على الولايات المتحدة في أمنهم. تظل الدول الفاشلة مثل سوريا واليمن أرضاً خصبة مُحتَمَلة للإرهابيين الذين يمكنهم ضرب أميركا وحلفائها. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على التدفّق الحر للنفط من الخليج، إلّا أن الانقطاع المُطَوَّل هناك قد يؤدّي إلى تدهور الاقتصاد العالمي. شئنا أم أبينا، تحتاج الولايات المتحدة إلى ابتكارِ استراتيجية ما بعد أفغانستان لتعزيز النظام في الشرق الأوسط حتى مع تحويل تركيزها إلى أولويات أخرى.
في صياغة تلك الإستراتيجية، هناك سابقة يمكن أن تكون بمثابة نموذجٍ مُفيد. إنها تأتي من تجربة الاستراتيجي البارز في واشنطن، هنري كيسنجر. على الرغم من قلّة تذكّره في هذا الأمر، إلّا أنه خلال السنوات الأربع التي شغل فيها منصب وزير الخارجية لرئيسَي الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، قاد كيسنجر جهداً ناجحاً لبناء نظامٍ شرق أوسطي مُستقر استمر لمدة 30 عاماً. تمكّن كيسنجر من تحقيق ذلك بينما كانت الولايات المتحدة تسحب كل قواتها من فيتنام وتنسحب من جنوب شرق آسيا. لقد كان وقتاً، مثل اليوم، عندما كان على الديبلوماسية أن تحلّ محل استخدام القوة. تزامن ذلك مع فضيحة ووترغيت، التي أغرقت الولايات المتحدة في أزمة سياسية عميقة وأجبرت نيكسون على التنحّي، ما خلق فراغاً مُحتَملاً في القيادة الأميركية على المسرح العالمي. ومع ذلك، خلال هذه الفترة من الضيق الأميركي، في خضم الحرب الباردة، تمكّنت ديبلوماسية كيسنجر من تهميش الاتحاد السوفياتي وإرساء الأسسِ لعمليةِ سلامٍ بقيادة الولايات المتحدة والتي أنهت فعلياً الصراع بين الدول العربية وإسرائيل، على الرغم من فشلها في حلّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
من أهم الدروس المُستفادة من حقبة كيسنجر أن التوازن في ميزان القوى الإقليمي غير كافٍ للحفاظ على نظامٍ مُستقر. لإضفاء الشرعية على هذا النظام، تحتاج واشنطن إلى إيجادِ طُرُقٍ لتشجيع حلفائها وشركائها على معالجة مظالم المنطقة. على الرغم من أن صانعي السياسات يجب أن يكونوا حذرين في جهودهم لصنع السلام، وإعطاء الأولوية للاستقرار وليس لصفقات نهاية الصراع، إلّا أنه ينبغي عليهم أيضاً تجنّب التقليل من شأن ذلك، لأنه يمكن أن يزعزع استقرار النظام أيضاً. بينما لا توجد رغبة كبيرة في واشنطن لمعالجة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، يجب على إدارة بايدن أن تقاوم إغراء إهمال القضية. كما تعلّم كيسنجر بالطريقة الصعبة، يُمكن للصراعات التي تبدو كامنة أن تندلع إلى أزماتٍ كاملة في لحظات غير مُتَوَقّعة. إن التعامل مع أحد الصراعات المركزية في الشرق الأوسط من خلال استخدام استراتيجية كيسنجر بخطواتٍ تدريجية هو أفضل طريقة لتجنّب اندلاع حريق آخر في هذه المنطقة القابلة للاشتعال.
النظام وليس السلام
لقد كان النظام وليس السلام هو ما سعى كيسنجر إلى تحقيقه، لأنه كان يعتقد أن السلام ليس هدفاً يمكن تحقيقه ولا حتى هدفاً مرغوباً في الشرق الأوسط. من وجهة نظر كيسنجر، يتطلب الحفاظ على النظام في الشرق الأوسط الحفاظ على توازن قوى مستقر. في أطروحته للدكتوراه، التي نُشِرَت لاحقاً في العام 1957 بعنوان “عالَمٌ مُستَعاد” (A World Restored)، أوضح كيسنجر كيف أنتج الديبلوماسي النمساوي كليمنس فون مترنيخ ورجل الدولة الأنكلو-إيرلندي اللورد كاسلريه فترة 100 عام من الاستقرار النسبي في أوروبا من خلال الاعتناء ببراعة بتوازن القوى والتلاعب بمهارة مع أولئك الذين حاولوا تعطيله.
سعى كيسنجر إلى تكرار هذا النهج في الشرق الأوسط عندما سنحت له الفرصة. لكنه فهم أن التوازن في ميزان القوى لم يكن كافياً. لكي يكون النظام مُستداماً، يجب أن يكون أيضاً شرعياً، ما يعني أن جميع القوى الكبرى داخل النظام يجب أن تلتزم بمجموعةٍ من القواعد المقبولة عموماً. لن يتم احترام هذه القواعد إلّا إذا وفَّرَت إحساساً كافياً بالعدالة لعددٍ كافٍ من الدول. وكتب أن ذلك لا يتطلب إرضاء ومعالجة جميع المظالم، بل “مجرد تغييب المظالم التي من شأنها أن تُحفّز على محاولة قلب النظام”. جادل كيسنجر بأن النظام الشرعي لم يُزِل أو يُلغي الصراع، لكنه حدّ من نطاقه.
جاء هذا الاستنتاج أيضاً مما لاحظه خلال الحرب العالمية الثانية، عندما أدت المثالية الويلسونية، التي سعت إلى السلام لإنهاء جميع الحروب، إلى الاسترضاء وغزو هتلر لأوروبا. كما لاحظ كيسنجر في مذكراته، “بالنسبة إلى معظم الناس في معظم فترات التاريخ، كان السلام حالة محفوفة بالمخاطر ولم يكن الاختفاء الألفي لكل التوترات”. وبالتالي، في جهوده الديبلوماسية في الشرق الأوسط، كان كيسنجر يتجنّب باستمرار السعي وراء معاهدات السلام، وبدلاً سعى إلى اتفاقات من شأنها أن تمنح جميع الأطراف مصلحة في الحفاظ على النظام الحالي. كما قال لي بعد عقود، “لم أفكر أبداً أنه يمكن أن تكون هناك لحظة مُصالحة عالمية”.
عبّر كيسنجر عن شكوكه لأول مرة في العنوان الفرعي الذي اختاره لـ”عالم مُستعاد: مترنيخ، كاسلريه، ومشاكل السلام” (A World Restored: Metternich, Castlereagh, and the Problems of Peace). حقيقة أنه بعد سنوات من البحث العميق، خلص إلى أن السلام كان إشكالياً وسيكون له تأثير تكويني في مقاربته للديبلوماسية في الشرق الأوسط. في الصفحة الأولى من مقدمة كتاب “عالم مُستعاد”، يشرح كيسنجر سبب توصّله إلى هذا الاستنتاج. يكتب: “إن تحقيق السلام ليس سهلاً مثل الرغبة فيه”. ومن المفارقات أن عصور مثل الفترة التي درسها كانت الأكثر سلمية لأن رجال الدولة المعنيين لم يكونوا منشغلين بوساطات السلام.
كان للفيلسوف الألماني في القرن الثامن عشر “إيمانويل كانط” تأثيرٌ آخر في سياسة كيسنجر في الشرق الأوسط. يعتقد “كانط” أن السلام أمرٌ لا مفرّ منه. لكن ما استبعده كيسنجر من مقال الفيلسوف، “السلام الدائم”، هو أن الصراع بين الدول سيؤدي بمرور الوقت إلى استنفاد سلطاتها والإرهاق. في النهاية، ستُفضّل السلام على بؤس الحرب. بعبارة أخرى، كان صنع السلام عملية تدريجية لا يمكن التعجيل بها. كما أشار كيسنجر، فَهِمَ “كانط” أن “المعضلة الجذرية في عصرنا هي أنه إذا تحوّل السعي من أجل السلام إلى الهدف الوحيد للسياسة، فإن الخوف من الحرب يُصبح سلاحاً في أيدي أكثر الناس قسوة؛ فهو يُنتِج نَزعاً أخلاقياً”.
عندما طبّق كيسنجر هذا المنظور على الشرق الأوسط، افترض أن العرب ليسوا مُستَعدّين للمصالحة مع الدولة اليهودية وأن إسرائيل غير قادرة على تقديم التنازلات الإقليمية التي طالبوا بها من دون تعريض وجودها للخطر. لذلك طوّر عملية سلام أتاحت لإسرائيل الانسحاب بخطواتٍ صغيرة ومُتزايدة من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب الأيام الستة في العام 1967. تم تكريس مبدأ إضفاء الشرعية على هذا النهج في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، والذي نصّ على تبادل الأراضي مقابل السلام.
ومع ذلك، فقد تم تصميم عملية سلام كيسنجر لكسب الوقت بدلاً من السلام: حان الوقت لإسرائيل لبناء قدراتها وتقليل عزلتها، والوقت للعرب للتعب من الصراع والاعتراف بمزايا العمل مع جارٍ إسرائيلي قوي بشكل متزايد. في غضون ذلك، كان يسعى إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط بحذر وشكّ وتدرّج، ولهذا أطلق على عمليته “ديبلوماسية الخطوة خطوة”.
كان التوازنُ والشرعيةُ في السعي وراء النظام والسعي التدريجي إلى تحقيق السلام هما المفهومين الأساسيين لنهج كيسنجر الاستراتيجي. لقد نجح في التفاوض على ثلاث اتفاقات مؤقتة بين مصر وسوريا وإسرائيل ووضع الأسس لمعاهدات السلام اللاحقة التي أبرمتها إسرائيل مع مصر والأردن. مع ذلك، بدأت عمليته في الانهيار عندما تجاهل الرئيس الأميركي بيل كلينتون تأكيد كيسنجر على الحذر، وحاول وفشل في إنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ثم أطلق الرئيس جورج دبليو بوش غزوه المشؤوم للعراق، وزعزع استقرار نظام كيسنجر من خلال تمكين إيران الثورية من تحدّي الهيمنة الأميركية في العالم العربي السنّي.
بمساعدة صغيرة من أصدقائنا
نهج كيسنجر في الشرق الأوسط وثيق الصلة بشكل خاص بما يحصل في الوقت الحاضر. تنسحب الولايات المتحدة من المنطقة في موازاة واضحة لانسحاب الولايات المتحدة من جنوب شرق آسيا في زمن كيسنجر. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، أدّت تداعيات حرب فاشلة وطويلة الأمد إلى وجود قيود صارمة على قدرة واشنطن على نشر القوّة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، كان كيسنجر يعلم أن التوازن المستقر يعتمد على دعم الولايات المتحدة لديبلوماسيته بالتهديد الحقيقي بالقيام بعمل عسكري. قام بتربيع هذه الدائرة بالاعتماد على شركاء إقليميين مؤهلين والعمل معهم.
على سبيل المثال، في أيلول (سبتمبر) 1970، سعت منظمة التحرير الفلسطينية للإطاحة بالملك حسين في الأردن. قامت ثلاثة ألوية دبابات سورية مدعومة من الاتحاد السوفياتي بمساعدة المنظمة في محاولتها لاحتلال مدينة إربد شمال الأردن. خوفاً من تقدّمهم إلى عمّان، دعا االعاهل الأردني واشنطن للتدخل. ومع ذلك، لا يمكن للولايات المتحدة أن تفعل ذلك بسرعة وتُخاطر بالتعثّر هناك إذا فعلت ذلك.
لذا لجأ كيسنجر، بناءً على إلحاحٍ من الملك حسين وبدعم من الرئيس ريتشارد نيكسون في نهاية المطاف، إلى إسرائيل لردع السوريين. أمرت رئيسة الوزراء غولدا مائير الجيش الإسرائيلي بالتعبئة في مرتفعات الجولان وعلى الحدود الأردنية المُتاخمة لإربد. في غضون ذلك، لردع السوفيات، نشر كيسنجر مجموعتين قتاليتين من حاملات الطائرات الأميركية قبالة الساحل اللبناني وأمر مجموعة ثالثة بدخول البحر الأبيض المتوسط. مُتشجّعاً بالدعم الإسرائيلي والأميركي، ألحق الجيش الأردني خسائر فادحة بألوية الدبابات السورية وانسحب السوريون. في غضون أيام، انتهت الأزمة من دون وجود حذاء أميركي واحد على الأرض.
وسخّر كيسنجر أيضاً دعم الحلفاء الإقليميين في التعامل مع الزعيم القومي المصري جمال عبد الناصر. عندما دخل كيسنجر البيت الأبيض كمستشارٍ للأمن القومي لنيكسون، في العام 1969، كان عبد الناصر يسعى إلى تعطيل النظام الحالي في الشرق الأوسط بالطريقة التي تحدى بها نابليون النظام الأوروبي في بداية القرن التاسع عشر. في التعامل مع مناورة عبد الناصر المدعومة من السوفيات، تجنّب كيسنجر تغيير النظام، وهي سياسة اتبعتها فرنسا والمملكة المتحدة خلال أزمة السويس في العام 1956 بنتائج كارثية. وبدلاً من ذلك، سعى إلى احتواء عبد الناصر من خلال تعزيز توازن القوى لصالح المدافعين الإقليميين عن الوضع الراهن: إسرائيل في قلب الشرق الأوسط، وإيران والمملكة العربية السعودية في الخليج العربي. عزّز الانفراج الذي طوّره نيكسون وكيسنجر مع الاتحاد السوفياتي هذا التوازن لأنه تضمّن، من بين أمور أخرى، التزاماً مُشتركاً من قبل القوّتين العظميين للحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
أدرك كيسنجر أن على واشنطن معالجة مطالب الدول العربية بالعدالة في أعقاب حرب الأيام الستة، التي خسرت فيها أراضٍ مهمة لصالح إسرائيل. إن إهمال القيام بذلك سيُهدّد شرعية النظام الشرق الأوسطي الجديد. ومع ذلك، فقد افترض أنه طالما حافظت القوى العظمى على توازن في ميزان القوى الإقليمي، فقد تتأخّر العدالة. لقد أخطأ التقدير بشكل سيئ، كما أظهر اندلاع حرب “يوم الغفران” (حرب تشرين/أكتوبر) في العام 1973.
في الفترة التي سبقت هذا الصراع، اعتمد كيسنجر على تقييمات المخابرات الإسرائيلية والأميركية بأن مصر لن تخاطر أبداً بالحرب لأن إسرائيل المُتفوّقة عسكرياً، والمدعومة بأنظمة أسلحة أميركية متطورة، ستهزمها بسرعة. قاد هذا التحليل كيسنجر إلى تجاهل خليفة عبد الناصر، أنور السادات، عندما حذّر مراراً وتكراراً من أنه سيخوض الحرب إذا تم تجاهل تطلعات مصر لاستعادة الأراضي التي فقدتها. تجاهل كيسنجر تصريحات السادات حتى عندما اتخذت نبرة عالية رهيبة: في إحدى المقابلات، على سبيل المثال، أعلن الرئيس المصري، “يتم الآن تعبئة كل شيء في هذا البلد بشكلٍ جدي لاستئناف المعركة، وهو أمر لا مفرّ منه الآن”.
ومع ذلك، في العام 1973، عندما غزت مصر شبه جزيرة سيناء وحاولت سوريا استعادة مرتفعات الجولان في أقدس يوم في التقويم اليهودي، انطلق كيسنجر في العمل بالثقة التي وفّرتها له دراسته للنظام الأوروبي في القرن التاسع عشر. كان هدفه تعديل ترتيبات ما قبل الحرب بطريقة يرى اللاعبون الرئيسيون في الشرق الأوسط أنها أكثر عدلاً وإنصافًا. كما أراد أن يضع الولايات المتحدة في موقعٍ للعبِ دور المناور المُهيمن للقوى المتنافسة في المنطقة.
لدعم ديبلوماسيته بالقوة، شجّع كيسنجر الهجمات الإسرائيلية المضادة. عندما ساعد هذا الضغط العسكري على إقناع المصريين والسوفيات بقبول شروط وقف إطلاق النار، طالب إسرائيل بوقف هجومها. على وجه الخصوص، منع الجيش الإسرائيلي من تدمير الجيش المصري الثالث، الذي كان حاصره في نهاية الحرب. وقد مكّن ذلك السادات من الدخول في مفاوضات سلام مع نظامه ثابت كما هو- وكرامته مرفوعة.
ثم انتهز كيسنجر مرونة اللحظة لإطلاق عملية السلام الخاصة به بهدف منع مصر – أكبر دولة عربية وأقواها عسكرياً – من الانضمام إلى أيّ تحالف حرب عربي مستقبلي. وهذا من شأنه أن يجعل حرباً أخرى بين الدولة اليهودية والدول العربية مستحيلة. يوجد تشابه لا لبس فيه بين نهج كيسنجر في مصر والطريقة التي تعامل بها ميترنيخ وكاسلريه مع فرنسا بعد هزيمة نابليون، ودمجها في النظام الجديد بدلاً من معاقبتها – وبالتالي تحويلها من دولة ثورية معدّلة إلى قوة الوضع الراهن.
اليوم، من المرجح أن يستخدم كيسنجر مخططاً مُشابهاً في التعامل مع إيران، الدولة التي تهدد بشكل واضح ما تبقى من نظام الشرق الأوسط الذي تقوده الولايات المتحدة. إنه لا يدعو إلى إسقاط النظام. بدلاً، سيسعى إلى إقناع إيران بالتخلّي عن سعيها لتصدير ثورتها والعودة بدلاً من ذلك إلى سلوكٍ يشبه سلوك دولة. في غضون ذلك، يجب على واشنطن أن تسعى إلى توازنٍ جديد يتم فيه احتواء الدوافع الإيرانية الثورية وموازنتها من خلال تحالف من الدول السنّية المتعاونة مع إسرائيل والولايات المتحدة. وبمجرّد أن تقرر إيران الالتزام بالقواعد، يعتقد كيسنجر أن الولايات المتحدة بحاجة إلى أن تكون بمثابة الموازن، ما يجعلها أقرب إلى جميع القوى الشرق أوسطية المتنافسة أكثر من قربها من بعضها البعض. يقول كيسنجر: “في السعي وراء أهدافها الإستراتيجية الخاصة، يمكن للولايات المتحدة أن تكون عاملاً حاسماً – ربما العامل الحاسم – في تحديد ما إذا كانت إيران تتبع طريق الإسلام الثوري أو مسار أمة عظيمة تم وضعها بشكل شرعي ومهم في نظام “ويستفاليان” من الدول”.
إحذر من التصويب عالياً جداً
لأنه كان يعمل في بيئة من الانكماش، كان كيسنجر مُدركاً تماماً لمخاطر التجاوز. ولكن كما يلاحظ في “عالم مُستعاد”، “ليس التوازن هو ما يُلهم الرجال بل العالمية، وليس الأمن بل الخلود”. وكما أوضح في كتابه الضخم “الديبلوماسية”، الذي نُشر في العام 1994، فإن رجال الدولة الأميركيين نادراً ما يفهمون أو يحترمون قواعد اللعبة التي يتطلبها مفهومه عن النظام الدولي. غالباً ما تكون مثالياتهم مدفوعة بإحساس بالعناية الإلهية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط. إنهم يتصورون أن السعي إلى تحقيق السلام وبناء الأمة ليس فقط أمراً مرغوباً فيه ولكن يمكن تحقيقه وأن المشكلة الوحيدة هي الخروج بالصيغة الصحيحة. وهنا تكمن المعضلة في قلب الديبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط. كما فَهِمَ كيسنجر، يتطلب الحفاظ على النظام جهداً موثوقاً به لحل صراعات المنطقة، لكن حجم طموح رجل الدولة يمكن أن ينتهي به الأمر إلى زعزعة استقرار هذا النظام.
من ناحية أخرى، كانت غريزة نيكسون الأولى هي العمل مع الاتحاد السوفياتي لفرض السلام على زبائنهما المتمرّدين في الشرق الأوسط. في منتصف حرب “يوم الغفران” (حرب/تشرين/أكتوبر)، سافر كيسنجر إلى موسكو للتفاوض على شروط وقف إطلاق النار مع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف. في الطريق، تلقى تعليمات صريحة من نيكسون بـ”بذل كل الجهود” لتحقيق تسوية عادلة “الآن” والعمل مع بريجنيف “لممارسة الضغط اللازم على أصدقائنا”. وقد هدد ذلك بقلب استراتيجية كيسنجر الأكثر تواضعاً لوقف إطلاق النار تليها مفاوضات مصرية-إسرائيلية مباشرة. وغاضباً، تجاهل تعليمات الرئيس. كان قادراً على فعل ذلك لأن نيكسون أرسل هذه الرسالة تماماً بعدما أمر بإقالة أرشيبالد كوكس، المدعي الخاص في ووترغيت. أدّت “مذبحة ليلة السبت” التي أعقبت ذلك – والتي استقال فيها اثنان من كبار المسؤولين في وزارة العدل بدلاً من تنفيذ أمر نيكسون – قادة الكونغرس إلى بدء إجراءات عزل الرئيس. مع تحوّل كل الاهتمام إلى السياسة الداخلية للولايات المتحدة، تمكن كيسنجر من متابعة أولوياته الخاصة في الشرق الأوسط.
لقد نجح في إنجاز مهمة مماثلة تحت قيادة جيرالد فورد الذي خلف نيكسون. عندما انهارت المفاوضات بين السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في شباط (فبراير) 1975، أراد فورد عقد مؤتمر في جنيف مع الاتحاد السوفياتي لفرض تسوية سلمية شاملة على إسرائيل وجيرانها العرب. قاد كيسنجر هذه المبادرة لصالح العودة إلى ديبلوماسيته المكوكية، التي جعلت مصر وإسرائيل أقرب إلى اتفاق سلام نهائي بينهما.
رؤساء الولايات المتحدة الذين جاؤوا بعد نيكسون وفورد مالوا أيضاً إلى متابعة أهدافهم المثالية للشرق الأوسط مع اهتمام غير كافٍ بالحفاظ على النظام الإقليمي الذي أسّسه كيسنجر. أحيا الرئيس جيمي كارتر فكرة العمل مع الاتحاد السوفياتي لإعادة عقد مؤتمر جنيف لفرض سلام شامل. هذه المرة كان السادات هو الذي قاد الرئيس الأميركي، برحلته إلى القدس في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977. في كامب دايفيد بعد ذلك بعام، سعى كارتر إلى اتفاق سلام مصري – إسرائيلي منفصل بدلاً من تسوية شاملة تتضمّن قراراً يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
لكن بعد أكثر من عقدين من الزمان، وافق كلينتون على إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك على محاولة التوصل إلى اتفاق لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في كامب ديفيد في تموز (يوليو) 2000، مُتخلياً عن عملية كيسنجر “خطوة خطوة” التي قدمها رابين في اتفاقات أوسلو. لقد فهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أن باراك وكلينتون يعتزمان فرض قرار نهائي على الفلسطينيين، ورفض الموافقة. لقد كانت خطوة قصيرة من هناك إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية والقمع الإسرائيلي الذي أعقبها، وهو انفجار عنيف استمر على مدى خمس سنوات، وأدى إلى مقتل الآلاف، ودمر كل الثقة بين الطرفين. ومع ذلك، فإن الرئيسين الأميركيين باراك أوباما ودونالد ترامب سيحاولان لاحقًا ويفشلان في التوصل إلى اتفاقات لإنهاء الصراع.
قاوم بوش أغنية صفارات الإنذار لصنع السلام الشامل، لكنه استسلم للحاجة إلى ما أطلق عليه كيسنجر منذ زمن بعيد “الخلود”. بعد الإطاحة بطالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، أعلن عن “أجندة الحرية” في الشرق الأوسط، مُعلناً أن تعزيز الديموقراطية في جميع أنحاء المنطقة “يجب أن يكون محور السياسة الأميركية لعقود مقبلة”. وكانت النتيجة كارثة، عملت في الغالب على تمهيد الطريق لمحاولة إيرانية للسيطرة على العراق وفي جميع أنحاء المنطقة. كما حوّل بوش هدف الولايات المتحدة في أفغانستان من مكافحة الإرهاب إلى مكافحة التمّرد وبناء الدولة. وقد أدّى هذا القرار أيضاً إلى الفشل والإذلال. بعد عشرين عاماً، تُرِك الأمر لكيسنجر الذي تقدم في العمر للإشارة إلى أن “الأهداف العسكرية [كانت] مطلقة للغاية ولا يمكن تحقيقها والأهداف السياسية كانت غير تطبيقية وصعبة المنال للغاية”.
خطر التصويب المُنخفض جداً
على عكس صانعي السياسة الأميركيين الذين جاؤوا من بعده، كان كيسنجر مُصمّماً على تجنّب التجاوزات في الشرق الأوسط. ولكن كانت هناك حالات عدة أدّى فيها حذره وشكّه إلى عدم القدرة على الوصول إلى مبتغاه. هذا هو الخطر الذي يواجهه الرئيس جو بايدن أيضاً في الشرق الأوسط الآن بعد أن أنهى الحرب في أفغانستان.
بالنسبة إلى كيسنجر، جاء التصويب المُنخفِض جداً في المقام الأول في تموز (يوليو) 1972، عندما أعلن السادات فجأة طرد 20,000 من المستشارين العسكريين السوفيات من مصر. كان هذا شيئاً دعا إليه كيسنجر قبل عامين. ولكن عندما حدث ذلك، لم يشعر كيسنجر بالحاجة إلى الاستجابة والرد.
أُصيبَ السادات بخيبة أمل. قبل خمسة أيام من إعلانه عن عملية الطرد، بعث برسالة إلى كيسنجر أعرب فيها عن رغبته في إرسال مبعوث خاص إلى واشنطن. سيستغرق الأمر مع كيسنجر سبعة أشهر لترتيب لقاء مع حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي للسادات. استحوذ العرض التقديمي الذي قدّمه إسماعيل على اهتمام كيسنجر. وأوضح السفير المصري أن بلاده مُستعدة للتحرّك بسرعة، مُتقدِّمةً على دول عربية أخرى، وحتى السماح بتواجد أمني إسرائيلي في سيناء شريطة أن تعترف إسرائيل بالسيادة المصرية على المنطقة.
لكن عندما أطلع كيسنجر رابين، الذي كان آنذاك سفير غولدا مائير في واشنطن، رفض عرض إسماعيل ووصفه بأنه “لا شيء جديداً فيه”. رفضته مائير أيضاً، وتنازل كيسنجر بهدوء عن الفكرة. التقى إسماعيل بكيسنجر مرة أخرى في أيار (مايو) لكنه خرج من الاجتماع مُعتقداً أن أزمةً فقط هي التي ستُغيّر حسابات كيسنجر. بعد أربعة أشهر، أطلق السادات حرب يوم الغفران (حرب تشرين/أكتوبر).
لا يمكن معرفة ما إذا كان ردٌ سريع من كيسنجر كان سيؤدى إلى وقف الحرب أم لا. والواضح أنه لم يستعجل وأخّر الرد بسبب ثقته الخاطئة في استقرار التوازن الذي أقامه. لقد أغفل في الممارسة العملية شيئاً كان أدركه من الناحية النظرية: يعتمد استقرار أي نظام دولي “على الدرجة التي تشعر بها مكوّناته بالأمان ومدى اتفاقها على”عدالة “و”إنصاف” الترتيبات القائمة”. لهذا السبب، بعد الحرب، قرر معالجة النقص في العدالة من خلال إطلاق مفاوضات مباشرة لإنتاج انسحابات إسرائيلية من الأراضي العربية.
ومع ذلك، لم تكن العدالة للفلسطينيين على أجندة كيسنجر، لأن منظمة التحرير الفلسطينية كانت مُمثّلة لهم، والتي كانت آنذاك جهة فاعلة وحيدة غير حكومية تنشر تكتيكات إرهابية في محاولة للإطاحة بالمملكة الهاشمية في الأردن واستبدال الدولة اليهودية. فضّل ترك القضية الفلسطينية لإسرائيل والأردن. في هذه الحالة، أدّى حذره إلى إضاعة فرصة ظهرت في العام 1974 لتعزيز دور الأردن في معالجة المطالبات الفلسطينية. كانت تلك هي اللحظة الأخيرة التي كان من الممكن فيها معالجة المشكلة الفلسطينية في مفاوضات بين دولة ودولة، بين إسرائيل والأردن.
في ذلك الوقت، كانت للأردن علاقة خاصة مع فلسطينيي الضفة الغربية، الذين كانوا مواطنيها. بفضل البريطانيين جزئياً، كانت للمملكة الهاشمية أيضًا مؤسسات حكومية عاملة، بما فيها جيش موثوق به ومنظمة استخباراتية فعالة. على عكس منظمة التحرير الفلسطينية، التي دخلت عملية السلام في العام 1993 بدون مؤسسات حكومية، كان بإمكان الأردن ضمان تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه مع إسرائيل، كما فعل مع التزامات معاهدة السلام الخاصة به. ومن هناك كان يمكن أن يتطور اتحاد كونفيدرالي بين دولة فلسطينية في الضفة الغربية والمملكة الهاشمية على الضفة الشرقية.
ولتحقيق ذلك، كان على كيسنجر أن يسعى إلى اتفاق فك ارتباط بين إسرائيل والأردن بعد أن أبرم اتفاقات بين إسرائيل ومصر وإسرائيل وسوريا. كان الملك حسين حريصاً على استعادة موطئ قدمه في الضفة الغربية، وكان الإسرائيليون على استعداد للانخراط وحتى إظهار بعض المرونة. لكن كيسنجر تجنّب مراراً المشاركة في هذا الجهد. شجّع حسين على التعامل مباشرة مع الإسرائيليين، وهذا ما فعله الملك. حذّر كيسنجر الإسرائيليين من أنهم إذا لم يستجيبوا، سينتهي بهم الأمر إلى التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية – وهو توقّع حكيم. ولكن بعد ذلك، أصرّ مراراً وتكراراً على أنه لن يكون هناك ضغط منه و”لا يوجد سبب [للولايات المتحدة] لتكون وسيطاً”.
بدون مشاركة أميركية، لم يتمكن الإسرائيليون والأردنيون من التوصل إلى اتفاق. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1974، في قمّتها في الرباط، المغرب، أعلنت جامعة الدول العربية منظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”، وبذلك وضعت حداً لفرصة حلّ المشكلة الفلسطينية في سياق أردني. في وقت لاحق، اعترف كيسنجر بصراحة أنه ارتكب “خطأ كبيراً”.
كانت لديه أسبابه. على الرغم من أنه كان يحب الملك، إلّا أنه لم ينظر إلى الأردن كلاعبٍ رئيس في الشرق الأوسط، وكان يعتقد أن ذلك يعني أنه لا يحتاج إلى بذل جهود ديبلوماسية نيابة عنه. بدلاً، كرّس نفسه لاتفاق مصري-إسرائيلي ثانٍ، لأن إخراج مصر من الصراع مع إسرائيل كان هدفه الاستراتيجي الأهم. كان من الممكن أن يُعطّل السعي وراء الخيار الأردني هذا المسعى، وربما يثير صراعاً بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، ويثير مسألة مَن سيُسيطر على القدس، وهي قضية خلافية للغاية سعى إلى تجنّبها بأي ثمن. لقد ساعد كيسنجر إيمانه في التسلسل الهرمي للسلطة على تحديد الأولويات، ولكن هذا يعني أيضاً أنه لم يُولِ اهتماماً كبيراً للطريقة التي يمكن بها للدول الأقل قوة وحتى الجهات الفاعلة غير الحكومية أن تُعطّل نظامه الذي تم تحقيقه بشق الأنفس إذا لم يتمكن هذا النظام في توفير، على الأقل، قدر ضئيل من العدالة لها.
علامات تحذير للمستقبل
يمكن لأخطاء كيسنجر وإنجازاته أن تُقدّمَ دروساً قيّمة لبايدن وهو يتعامل مع الشرق الأوسط في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. بينما يُحوِّل بايدن انتباهه إلى أولويات أكثر إلحاحاً في أماكن أخرى، يجب أن يكون هدف ديبلوماسيته في الشرق الأوسط تشكيل نظام إقليمي تدعمه الولايات المتحدة لم تعد فيه هي اللاعب المُهيمن، حتى مع أنها لا تزال الأكثر نفوذاً. في جوهره، سيحتاج هذا النظام إلى توازن قوى يتم الحفاظ عليه من خلال دعم الولايات المتحدة لحلفائها الإقليميين، أي إسرائيل والدول العربية السنّية.
لكن سيحتاج بايدن أيضاً إلى العمل مع الجهات الفاعلة المستعدة للعب أدوار بنّاءة في استقرار نظام الشرق الأوسط. سيثير ذلك بعض الرفقاء الغريبين وغير المرتاحين، حيث سيشمل ذلك التعاون مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في غزة، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوريا، مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الخليج، ومعهم جميعاً لاحتواء طموحات إيران في الهيمنة ومنع برنامجها النووي.
قلة من هؤلاء الحلفاء والشركاء سوف تتصرف وفقاً لقِيَمِ الولايات المتحدة. ومع ذلك، وكما تظهر تجربة كيسنجر في الشرق الأوسط، فإن واشنطن سوف تحتاج إلى تعزيز الشعور الكافي بالعدالة والإنصاف لإضفاء الشرعية على النظام الناشئ. في جميع أنحاء المنطقة، يصرخ الناس مطالبين بحكومات مسؤولة. لا تستطيع الولايات المتحدة تلبية هذه المطالب… لكن لا تستطيع أيضاً تجاهلها.
وبالمثل، فإن تعزيز عملية سلام تعمل على تحسين الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني سيكون مهماً في معالجة مظالم المنطقة. هذا هو أدنى شيء في قائمة أولويات بايدن. في العام 2014، كنائبٍ للرئيس، شهد بشكل مباشر عدم رغبة القادة الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء في المخاطرة المعقولة من أجل السلام، ولا يتصور أنه سيجد الخلود من خلال محاولة إجبارهم على القيام بذلك. إنه يقبل حجة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بأن الحكومة الائتلافية الإسرائيلية اليمينية واليسارية لا يمكنها أن تنجو من عملية سلام تتطلب إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. مثل كيسنجر في العام 1973، يفترض بايدن أن الوضع الراهن مستقر. ومثل كيسنجر في العام 1974، يرى أن المشكلة الفلسطينية هي مشكلة إسرائيلية للتعامل معها وسيميل إلى تنحية أي ضغوط لمحاولة حلّها جانباً.
لكن علامات التحذير موجودة راهناً. السلطة الفلسطينية على وشك الانهيار: فَقَدَ الرئيس الفلسطيني محمود عباس كل مصداقيته بين الشعب الفلسطيني، في حين أن حركة “حماس” – بعقيدتها في المقاومة العنيفة – تكتسب شعبية. انتصار طالبان في أفغانستان سيُعزّز حجة “حماس” بأن استراتيجيتها هي السبيل الوحيد لتحرير الأراضي الفلسطينية. علاوة على ذلك، فإن الوفيات الفلسطينية من المواجهات مع الجيش الإسرائيلي تتصاعد بمعدل يُنذِرُ بالخطر، وللمرة الأولى، تسمح الحكومة الإسرائيلية لليهود بالصلاة على ما يعرف بالحرم القدسي والحرم الشريف للمسلمين – وهو أمر خطير للغاية. إن المادة اللاصقة جافة لدرجة أنه حتى مجرد عملية هروب من السجن بسيطة من قبل ستة سجناء فلسطينيين في أيلول (سبتمبر) كانت مخاطرة بإثارة انتفاضة أخرى.
لسنوات، حذّر صانعو السياسة الأميركيون أن الوضع الراهن بين الإسرائيليين والفلسطينيين غير مُستدام – ولكن يبدو أنه حافظ على نفسه حتى الآن. فقد حذّر الخبراء من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، لكن عندما فعل ترامب ذلك، لم يحدث شيء. يبدو الأمر كما لو كان سبعينات القرن الماضي، عندما هدد السادات بالحرب لسنوات، ولم يحدث شيء – إلى أن حدثت حرب في يوم من الأيام. لتقليل احتمالية انفجار العنف، سيحتاج بايدن إلى تشجيع عملية سلام إسرائيلية-فلسطينية تدريجية لإعادة بناء الثقة وتعزيز التعايش العملي، تماماً كما فعل كيسنجر في جهوده لإخراج مصر من الصراع مع إسرائيل. اقترح بينيت تغييرات اقتصادية، مثل السماح لمزيد من الفلسطينيين بالعمل في إسرائيل، كخطوة أولية. مع ذلك، مثل هذه التحركات وحدها لن تكون كافية لإعطاء مصداقية للعملية التي شوّهتها إخفاقات الماضي. وتتطلب هذه الجهود عملية سياسية أيضاً، وإن كانت عملية متواضعة وواقعية يمكن أن تشمل وقف إطلاق نار طويل الأمد في غزة ونقل بعض الأراضي الأخرى على مراحل إلى السيطرة الفلسطينية الكاملة في الضفة الغربية.
في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، من غير المرجح أن ينخرط بايدن كثيراً في منطقة الشرق الأوسط. ولكن كما أخبره كيسنجر، سيكون من الخطأ أيضاً أن يدير ظهره لها.
- مارتن إنديك هو المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، والسفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، ومبعوث الرئيس باراك أوباما لحل القضية الفلسطينية، وهو الآن زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب “سيّد اللعبة: هنري كيسنجر وفن ديبلوماسية الشرق الأوسط” (Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy)، الذي تم اقتباس هذا المقال منه.
- يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في مجلة “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.