هل تستطيعُ الانتخاباتُ النيابية تَغييرَ أيّ شيءٍ في لبنان؟

غسان سعادة*

علا ضجيجُ الحَديثِ عن الانتخاباتِ النيابية اللبنانية في الإعلام الرسمي اللبناني والعربي والدولي على خلفية القول إنه من خلالِ هذه الانتخابات، إن جرت، سيأتي خلاصُ الجمهورية اللبنانية وخلاص الشعب اللبناني من الحفرة الجهنّمية التي هما فيها. وقد أخَمَدَ  هديرُ هذا الضجيج كلّ صوتٍ سواه، رُغمَ أنه كانت هناك قضايا مُحِقّة أكثر أهمّية وأكثر إلحاحًا لدى المجتمع اللبناني الذي كان أثارها وطالبَ بها وتظاهر من أجلها في أوقاتٍ سابقة لطرح موضوع الانتخابات النيابية: مثل مطالبته بالإصلاح في الحكم وفي إدارات الدولة ومؤسّساتها وقضائها، ووقف الفساد والسرقة والهدر فيها، وإجراء تحقيق قضائي شفّاف في انفجار مرفإِ بيروت الذي تسبّب بقتل 218 لبنانيًا وجرح حوالي 7 آلاف، وأضرَّ بالآلاف من اللبنانيين ودمّر نصف بيروت، كذلك أحداث عين الرمانة، إضافةً إلى سائر الأزمات الحياتية المطلوب حلّها كتوفير البنزين والغاز والمازوت والكهرباء والماء والأمن، وجمع السلاح المُتفلّت وغير الشرعي، وإعادة الودائع المُحتّجزة في البنوك لأصحابها وسواها الكثير الكثير…

القضايا المذكورة أعلاه هي أولوية بالنسبة إلى الشعب اللبناني وتتقدّم على الانتخابات النيابية وساستها وأوليائها، إذ أنها، إن جرت، وفق المسار المرسوم لها في دوائر القرار ستكون، في ظل الأوضاعِ الراهنة والقوانين الإنتخابية المعمول بها والتقسيمات الإدارية للمناطق الانتخابية كما والإنقسام الحاد بين الناخبين اللبنانيين وأحزابهم المختلفة، صورة طبق الأصل عن سابقاتها وفق ما يتوقعه المراقبون واستطلاعات الرأي، أيّ أنها ستأتي مُعَلَّبة وجاهزة لتُعيد انتاج الطبقة السياسية ذاتها، وإن نسبة التغيير في نتائج هذه الانتخابات ستتراوح ما بين الواحد او الإثنين في المئة، مٌعطين لهذه النسبة في التغيير حظًّا أكبر في المناطق المسيحية منها في المناطق السنّية أو الشيعية او الدرزية حيث من غير المتوقع حدوث أيّ تغييرٍ جدير بالذكر.

في ضوء هذه المعطيات، وإذا كان هذا هو واقع أمر الانتخابات النيابية اللبنانية في ظلّ الأوضاع الإجتماعية والسياسية والأمنية والقانونية القائمة في لبنان، وإذا كانت النتيجةُ المُتَوَقَّعة ستكون العودة إلى المنظومة السياسية نفسها مع تغييرٍ طفيفٍ في التمثيل المسيحي من المرجح أن لا يكون له أثرٌ كبير وحاسم على صعيد الوطن والشعب، فلماذا كل هذا الضجيج؟

في هذا السياق لا بدّ من العودة إلى جذورِ الأزمات اللبنانية التي تكاد أن لا تنطفئ نيرانها حتى تعود وتشتعل من جديد إذ أصبحَ من المُسَلَّم به أن اللبنانيين عاشوا رُزمةَ أوهامٍ ثَبُتَ بطلانها، مثل الدولة والسيادة والديموقراطية وحُكمِ القانون، فقد ثبت أن النصوص المُكرَّسة لهذه المقولات في الدستور والقوانين بقيت حبرًا على ورق، وما نُفِّذَ منها كان انتقائيًا وبخلفياتٍ سياسية وإن لبنان لم يرقَ أبدًا إلى مستوى دولة القانون حيث حقوق اللبنانيين في الحياة والعمل والاستقرار والسعادة مَصونة بحكم القانون وحيث كل لبناني مواطن مُساوٍ للمواطن الآخر في الحقوق والواجبات.

من هنا لا بدّ من التطرّق إلى ما هو واقع على الأرض، أي الحالة اللبنانية التي عَرَفَت منذ قيام دولة لبنان العديد من الصراعات والنزاعات والانقسامات والحروب، كما عرفت أيضًا الإستقرار والنهضة والازدهار.

الحالة اللبنانية مردّها بُنية الشعب اللبناني بمكوّناته الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية والعائلية في هذه البنية المتميزة من حيث تعدّد الانتماءات والثقافات والأديان والمذاهب، ما جعل لها خصوصية حضارية قادرة على أن تُثمِرَ مُجتمعًا مُتعدّد المواهب والقدرات. غير أن هذه البُنية تحتوي في متنها أيضًا بذور التدمير الذاتي، فحين أنشأت الجمهورية اللبنانية بُنيتها وديموقراطيتها إستنادًا إلى هذه التركيبة المُجتمعية غير المُتجانسة أساسًا، لم تعمل الدولة أو مؤسّساتها على إقامةِ المُواطَنة المُتجانسة عبر تبنّي دولة القانون وإبعاد وحدات هذه الُبنية عن جذورها الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية وإحتضانها في حضن الدولة والوطن، بل إن ما تمّ كان عكس ذلك، فقد أقامت الدولة نظامًا برلمانيًا أساسه الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية. ولتغذية وشدّ أزر تفرّد وتباعد وحدات البُنية كان لها أن تأتي كل اربع سنوات بإنتخاباتٍ نيابية يتم بواسطتها تمثيل هذه المفردات، وبالتالي ترسيخ الانقسامات في وحدات البنية وزيادتها صلابة وتقوقعًا وتفلتًا وابتعادًاعن الإنصهار في بوتقة الوطن والمواطنة والدولة التي كان يُعوَّل على أن تكون لجميع اللبنانيين.

رُغم المساوئ الجمّة لممارسة ما يُدعى أنه ديموقراطية في لبنان، ورُغم أن الأوضاعَ العامة وعلى كافة المستويات والأوجه التي لا تسمح بالتفاؤل بالنسبة إلى ما هو مُقبل بحيث من المتوقع أن تكون نتائج الانتخابات النيابية صورة طبق الاصل عن سابقاتها. إلّا أنه يجب أن لا يغيب عنّا أنها في النهاية ستعكس إرادةَ الشعب في تقرير حكمه لنفسه، وتُقرّرُ مَن سيُمثّله في ذلك. وبما أنه من الواجب ان  نرتضي مبدأ حكم وسيادة القانون، لذا علينا الالتزام بما يوجبه قانون الانتخاب بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، الأمر الذي يوجب على كل لبناني المشاركة بها، حتى وإن ادّت نتائجها إلى ما لا يطمح اليه او يريده الفرد اللبناني. وهنا أُشير إلى أنه في الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٤٧ خاطب ونستون تشرشل البرلمان البريطاني قائلًا: “إن الديموقراطية هي أسوأ أشكال الحكم – باستثناء كل الاشكال الآخرى التي تمّت تجربتها”.

الديموقراطية كنظامٍ للدولة لا تختلف عن غيرها من الأنظمة في كونها غير كاملة ومشوبة بعيوب، وكونها أُنتِجت من قبل أُناسٍ من لحمٍ ودم، وهؤلاء غير كاملين، ولن يكونوا كاملين، وبالتالي لن يقدروا أبدًا على إنتاج نظام كامل.

وعليه لم يعد أمام اللبنانيين سوى تبنّي مبدأ سيادة القانون، والعمل بجهد لإنتاج ديموقراطية المواطنة ودولة القانون حيت الوطن واحد والدولة واحدة والسيادة واحدة والمواطنون أحرار متساوون في الحقوق والواجبات.

  • غسان سعادة هو مُحامٍ لبناني متقاعد مُقيم في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى