مَن حَوَّلَ لبنان إلى حُطام؟ الحكايةُ الكاملة

البروفسور بيار الخوري*

تقول نظريّة النوافذ المُحَطَّمة: “إن لم تُصلِّح نافذةً مُكسَّرة، فستتعوّد وجودها. وفي المرة المقبلة حين تنكسر نافذة أخرى ستقول: إن تمكّنتُ من التعايش مع نافذةٍ مُكسَّرة فسأتحمّل نافذتين! وينتهي بك المطاف بالعيش في حُطام! إن تركتَ الأوضاع تسوء، فلن تتجه إلّا نحو الحضيض!”

تلك نافذةٌ واحدة، ماذا لو تحوّلت كل النوافذ حولنا إلى حُطام؟ ونحن، تحديداً، كنا شهوداً على كلّ هذا الحطام الذي هو حطام ذواتنا.

عندما يتساقط كل شيء من حولنا، لا زلنا نتوقّع الأسوأ على طريقة “بعد ما شفتو شي”. وهذه “الشفتو” تُخرِجُ المُتكلّم من صفةِ المجموع إلى صفةِ المُنفصل المراقب الذي يرى المستقبل كمَن يُشاهدُ مسلسلاً على التلفاز.

كيف تحطّمت النوافذ؟

حين انقسمنا حول هول هوية الوطن، وتصارعنا على إعادة تفصيل وتشكيل تلك الهوية على قياس الأنانيات الطائفية، تحطّمت نافذةٌ أولى.

حين دخلنا حرباً مديدة، وخرجنا من دون طرح أي سؤال حول: لماذا دخلنا وكيف خرجنا، تحطّمت نافذةٌ ثانية.

حين سمعنا عن الفساد، وسَعَينا لنكون جزءاً من مخرجاته، تحطّمت أوّل مربّعات نافذة ثالثة.

حين أنفقنا مالاً تسلّطنا فيه على المال العام من دون ان نسأل من أين اتى هذا المال وكيف سنُعيده، تحطّم مُربّعٌ آخر من هذه النافذة.

حين تنافسنا على نهش الأملاك العامة، وتشويه البيئة ودمار وتوسيخ الأنهار وإحراق الغابات، تحطّمت نافذةٌ رابعة.

حين أنفقنا الزيادة في الدخل على تشييد “الفيللات” وتجديد السيارات والسفر والتبضّع، تحطّمت نافذةٌ خامسة.

حين حُجِزَت أموالنا وأموال غيرنا في البنوك، ولم نلتفت إلّا إلى كيف ننجو بما يمكن تحريره لأنفسنا، وشرعنا نُتاجر في رزق غيرنا ببيع الشيكات المحسومة علّنا نُعوّض خساراتنا، حطّمنا نافذة سادسة.

حين انهارت عملتنا وبدأنا نُتاجر بالدولار علّنا نُعوّض الخسارة في دخلنا، تحطّمت نافذةٌ سابعة.

حين شرعنا في ثورة وأعيننا على “ثوار الحي الثاني” كي لا يلتهموا بطريق الثورة طائفتنا، حطّمنا نافذة ثامنة.

حين صفّقنا لعقوباتٍ تستهدف بلدنا نكاية “بأولاد الحي الثاني”، حطّمنا نافذة تاسعة.

حين فرحنا لأن ” بيئتنا لن تجوع”، حطّمنا نافذة عاشرة.

حين تحمّسنا لحجز وزارة باسم طائفتنا، حطّمنا النافذة الحادية عشرة.

حين حصرنا الشيطنة بفلان والفساد بعلّان والجريمة المُنظّمة بفلَيتان، حطّمنا النافذة الثانية عشرة.

حين شاهدنا قضاة يعيشون كالاباطرة في قصورٍ ويمتلكون سيارات فارهة ولديهم خدم وحشم بالجملة ولم يعنِ ذلك لنا شيئاً، حطّمنا نافذة الثالثة عشرة (رقم شؤم اليس كذلك؟).

حين دفعنا الرشى بعشرات آلاف الدولارات لدخول المؤسسة العسكرية، حطّمنا النافذة الرابعة عشرة …

طبعاً كل مَن يقرأ هذا النص لديه ما يزيد به من أسبابٍ لتحطيم النوافذ، والعيش بين الركام والتعوّد على حياة الركام ومستقبل الحُطام والتمجّد بماضٍ منسوج من سرديات هزيلة لا تُثبت هزالتها سوى هزالة ما نحن فيه والوضع المأسوي الذي نعيشه.

حين قال زياد الرحباني “الزُعَما معَتّرين والشعب عَم يِضحك عالزُعَما” لم يقصد الدفاع عن زعماءٍ يَمقُتَهم بل أراد التشديد على خُبثِ الثقافة السياسية لدى الجمهور (او الجمهرات المنفردة) من اللبنانيين. كان ذلك قبل 41 عاماً عندما انتقلت خلالها كل شعوب الأرض إلى أمكنة أُخرى في التاريخ إلّا هذا الشعب الأبي.

على سيرة التكسير، يقول جبران خليل جبران في كتابه “الأجنحة المتكسّرة”:”إنّ الإخلاص يجعل جميع الأعمال حسنة وشريفة”، وهذا يجعلنا نُلاحظ أن جميع أعمالنا غير حَسَنة وتفتقد الشرف. المشكلة أننا شعبٌ غير مُخلص لوطنه، وهذا يكفي لكسر وتكسير كل شيء.

  • البروفسور بيار الخوري، أكاديمي وكاتب في الإقتصاد السياسي. يُمكن التواصل معه على: info@pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى