“ساراماغو” وغَرائبُ العَهدِ القويّ… !!

عبد الرحمن عبد المولى الصلح*

عُرِفَ “خوسيه ساراماغو” (JOSE SARAMAGO )، الكاتب البرتغالي الراحل (توفي 2010) الحائز على جائزة نوبل للآداب، برواياته الغرائبية. منها على سبيل المثال لا الحصر، رواية فحواها باختصار، أن سكانَ إحدى البلدات، يستيقظون صباحاً ليجدوا أنفسهم أنهم أضحوا عمياناً، باستثناء امرأة واحدة ! الرواية الأخرى، مضمونها أن الموت يتوقّف في بلدةٍ ما. أول مَن يعترض على ذلك… جمعية دفن الموتى! مناسبة التذكير بغرائبية روايات ساراماغو انه لو قُدِّرَ له أن يعيش ليلحظ ما يحدث في بلاد الأرز لأدرك أن غرائبية الاحداث عندنا تُضاهي بأشواط وأشواط غرائبية رواياته! وإنني على يقين أنه لو قُدِّرَ له أن يعاصر غرائبية ما يحدث عندنا لكتب عشرات الروايات التي تفوق خياله الواسع وغرائبية رواياته السابقة!!

لنستعرض بعض الغرائب التي يشهدها عهد رئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون، والذي، بالخطأ سُمِّي عهده… بالعهد القوي: ظلامٌ دامس وعتمةٌ كالحة في جميع أنحاء البلاد باستثناء منازل أركان المنظومة الحاكمة، توقُّف المستشفيات عن العمل إضافةً إلى تكاثر عدد المرضى، فقدان الأدوية وإغلاق الصيدليات، توقّف المخابز ايضاً عن العمل، تهافُت الناس لشراء حاجيّاتهم، تدهور العملة المحليّة، قرب انهيار المصارف المحليّة، طوابير السيارات على مدى أميال أمام محطات البنزين في مختلف المحافظات… قتلى بين الحين والآخر للخلاف على تنكة بنزين، ازدحامٌ لا يُطاق في الشوارع، توقّف العمل في المكاتب والمؤسسات، شلل شبه دائم في أنحاء البلاد. سلسلة الغرائب تطول في عهد الرئيس الذي وَعَد شعبه بجهنّم، ودَعَى لمن لا يعجبه الحال للهجرة خارج البلاد.

ليس بالضرورة استعراض كل الغرائب منعاً للملل، لكن يكفي كمثالٍ على إحدى أهم الغرائب تعطيل تأليف حكومة للنهوض بالبلاد كي لا نقول لوقف المآسي لمدة تقارب العام (حريري + ميقاتي) … لكن ما سوف يعجز ساراماغو على تصديقه وقد يندرج ذلك في “السوبر غرائبية ” أنه بعد عام على أكبر انفجارٍ غير نووي شهده العالم، أعني انفجار 4 آب/أغسطس 2020، والذي تسبّب بمقتل 216 شخصاً وجرح ستة آلاف من السكان إضافةً إلى خسائر تقدر ب 4.2 مليارات دولار … فإن المداخلات لحينه تعترض التحقيق لجلاء الأمور، علماً ان البسطاء من الناس يعرفون الجهة التي استقدمت الأمونيا وأرسلتها إلى المقاوم الممانع الأسد الابن كي يقصف رُوّاد الحرية في سوريا بالقنابل المتفجرة. مسلسل الغرائب في زمن العهد القوي لا ينتهي لكن تجدر الاشارة إلى أن رئيس الجمهورية كان حريصاً أن يُصدِرَ بياناً يُبشّر به اللبنانيين بأن اكاديمية الحوار والتلاقي التي سبق وأطلقها نالت اعترافاً دوليّاً، لكنه التزم الصمت حول إرسال طهران ناقلة وقود الى الشواطئ اللبنانية، وهذا ما يتعارض حكماً مع أبسط قواعد السيادة والاستقلال. وإنصافاً للحق فلقد شاركه الصمت رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب. وكأن الإثنين يعيشان في عالمٍ آخر. وأخيراً، السعي الحثيث لتوريث صهره جبران باسيل سُدَّة الرئاسة، ظنّاً منه لربّما، أن الوطن ملكه الخاص! وهنا يجدر التذكير أن أحداً لم يصغِ إلى الرئيس “النبيه” بري الذي حذّر وتوقّع بأن يكون هنالك رئيسان للجمهورية!!

في خطابين أخيرين للأمين العام ل”حزب الله” قال: “المطلوب أن تنهار الدولة والطوائف والمجتمع وليس فقط حزب الله”، متّهماً الأميركيين ومُلمّحاً كالعادة في دورهم  للسّعي إلى زعزعة الاستقرار في لبنان. قال أيضاً: ” منذ 17 تشرين الأول يتم العمل على تفتيت الدولة والطوائف والقرى والبلدات كبديل للحرب الأهلية ” وأضاف: “انفقوا عشرات المليارات من أجل تشويه المقاومة وفشلوا وجاءت الاغتيالات والحرب القومية على سوريا وأرسلوا الانتحاريين إلى لبنان وفشلوا”.

يستوجب مضمون الخطابين أكثر من تعليق لأنه تناول أكثر من محور. في ما يتعلق بِـ 17 تشرين أول/أكتوبر 2019 والمآسي التي يلتوي منها اللبنانيون جميعاً فكان بالإمكان تلافيها لو لم يُعمَل على طمس انتفاضة 17 تشرين 2019. كيف ننسى الدراجات النارية التي جالَت في وسط بيروت مُطلقةً شعاراتٍ مذهبية يندى لها الجبين، وأكاد أجزم لو أن سيدنا الحسين (رضي الله عنه)، سيد شهداء شباب أهل الجنة، سمع ما سمع لقال … “وَيْحَكُم يا هؤلاء! أنا برّاء منكم. لستم مني ولست منكم”. كان من الضروري والمُلحّ آنذاك تشكيل حكومة اختصاصيين بصرفِ النظر عمّن يرأسُها للنهوض بالبلاد لتجنُّب ما وصلنا إليه من مآسٍ ووضع الأمور في نصابها، لكن ذلك لم يحصل فازدادت الأمور سوءاً ووصلنا إلى ما وصلنا اليه من كوارث. أما عن انهيار الدولة فهناك من يجزم بأن ثنائية القوة العسكرية في لبنان بين جيش وقوى مسلَّحة تعمل كذراع لطرف إقليمي هي أحد أهم اسباب انهيار الدولة، إضافةً إلى تحكّم “حزب الله” بالقرار اللبناني. أبدى نصرالله شماتته بالانسحاب الأميركي العسكري من أفغانستا،ن لكن المفارقة لا بل الإشكالية التي وقع بها نصرالله أنه عَجِزَ عن تقديم التهنئة لطالبان لتسلمها زمام الأمر في افغانستان! وأظن أنه كان عليه أن يفعل فلا ضير في تسلّم طالبان السلطة، أوَليسَ التطرّف السُنِّي … حاجة إيرانية ؟! أخيراً إذا كان الأمين العام ل”حزب الله” مُلزَماً بإلصاق تهمة الشيطنة بالأميركيين فيبدو أن هناك من عَمِلَ على الاستفادة من أعمال الشيطان،  ليس حُبّاً بالأميركيين ولكن من أجل وضع النقاط على الحروف. ألا يسعى أولياء الأمر في طهران إلى كسب ودّ واشنطن والوصول الى اتفاقٍ معهم؟

دافع نصرالله عن النظام السوري. والمؤسف أن دفاعه تزامن مع الذكرى السنوية الثامنة لهجوم نظام الأسد الإبن بالأسلحة الكيماوية على غوطتَي دمشق والتي ذهب ضحيّتها المئات. لعلّ أحداً لم يُخبره أن الأسد أبدى رغبةً في بيع “حزب الله” والتخلّي عنه، فلقد ورد في مذكّرات وزير الخارجية السابق الأميركي جون كيري، “كلّ يومٍ هو يومٌ إضافي”، بأنه التقى بشار الأسد وحين حدّثه عن دعمه ل “حزب الله” اللبناني أجابه الأخير: “كل شي قابل للتفاوض”، مُلمّحاً إلى أنه يمكن أن يغير سياساته بحال نجحت مفاوضاته مع اسرائيل. يذكر كيري أيضاً أن بشار الأسد ارسل إلى نظيره الأميركي باراك اوباما  في العام 2010 مقترحاً سريّاً للسلام مع اسرائيل! علماً أن السفير الأميركي فريدريك هوف أشار في مذكراته أن الأسد أكد له أن مزارع شبعا سورية وليست لبنانية. لكن ما سيكون موقف “حزب الله” في حال انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا وهل سيعمل على إيجاد عدوٍّ جديد للاحتفاظ بسلاحه؟ المراسل العسكري “لهارتس” الاسرائيلية عاموس هرئيل (19-7-2021) ذكر أن أحد اسباب هدوء الجبهة الشمالية مع لبنان ان طهران رغبت وترغب بعدم شنّ أي هجوم من “حزب الله” للحفاظ على قوة الحزب لشن حرب على اسرائيل في حال تعرضت المنشآت النووية الايرانية لهجوم اسرائيلي … تجدر الإشارة إلى ما تسرب من اخبار ان ويليام بيرنز مدير ال”سي آي إيه” (CIA ) زار سرّاً بيروت أخيراً منذ أسبوع واجتمع بكلٍّ من مدير الأمن العام، اللواء عباس ابراهيم، وقائد الجيش العماد جوزيف عون،، ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، مؤكّداً على أهمية استقرار الأمن الداخلي ومُلمّحاً إلى مساعٍ وضغوطات لانسحاب اسرائيل من مزارع شبعا.

تتفاقم الأزمات والأوضاع تسير من السيّئ إلى الأسوأ ولا مَن يستجيب. باختصار شديد، اللبنانيون ضحايا سلطة تحترف بشكل لا مثيل له اعتماد سياسات الهاوية لمصالحها الشخصية الأقلوية والتجارب السابقة خير مُعين على ذلك… سلطة تحكمها سلطة أخرى تستمد سلطتها من الخارج الإقليمي يوظّف ضحاياه لأهدافه الخاصة غير مبالٍ بوحدة البلاد واستقرارها. السلطة المحلية لا تكترث إلّا بتعزيزِ موقعها المُناهض للبنان الرسالة، لبنان الواحد الموحّد. لا ضير من الاستشهاد بدراساتٍ أكاديمية لمزيدٍ من الوضوح والمقاربة. في هذا الصّدد يذكر المفكر السياسي “أريند ليبهارت” (Arend Lijphart)، والذي تخصّص في نموذج الديموقراطية التوافقية، شروطاً عدة للوصول إلى درجةٍ عالية من الاستقرار والتوافق، منها على سبيل المثال لا الحصر قدرة السلطة على استيعاب المصالح والمطالب المختلفة للمجموعات السياسية، التصميم على تجاوز الانقسامات والانضمام إلى جهود مشتركة مع المجموعات السياسية، التزامها بتماسك النظام واستقراره، وأخيراً إدراكها لمخاطر الانقسام السياسي. والثابت أن العهدَ القويّ عمل على ما يتضارب ويتناقض مع كل الشروط التي وردت أعلاه. والواضح أيضاً في ضوء الغرائب التي نشهد أن العهد القوي لم يلتزم بالحد الأدنى من الشروط التي أوردها ليبهارت بل عمل على قدمٍ وساق على عكسها تماماً، الأمر الذي زاد من الانقسام والشرذمة.

أما السلطة الأخرى التي تهوى التسلّط – فهناك إجماعٌ أنها تبدّلت من دمشق بدءاً من اتفاق الطائف 1989 إلى طهران بعد الانسحاب السوري من لبنان إثر صدور القرار الأممي 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويبدو أن لا أمل بوقف تسلّطها وتحكّمها (هل من الضروري التذكير بتصريح الحاكم العسكري الراحل قاسم سليماني للبنان بأن محوره فاز بالأكثرية بعد انتخابات 2009) بأمور بلادنا إلّا من خلال تغييرٍ داخلي في سياساتها المحلّية والخارجية لما فيه مصلحة إيران ودول المنطقة. قَدَرُ هذا البلد الصغير أن استقراره مُرتَبِطٌ باستقرارٍ إقليمي. والتاريخ خير شاهد على ذلك. يكفي ان ناقلة النفط الايراينة حملت أكثر من مغزى إقليمي لا بل دولي. وقد يكون ما نطرحه حلم ليلة صيف… عسى أن تخف آلام هذا الوطن الجريح المعلّق على صليب المصالح الإقليمية.

كل التقارير تُشير لا بل تؤكد بأن إيران تشهد أزمات حادة على مختلف الصعد، ويكفي الإشارة إلى الاضطرابات العنيفة التي شهدها أخيراً إقليم خوزستان جنوب غرب ايران نتيجة شحّ المياه. وللتذكير، فالإقليم يدعى عربستان لكن حكومة شاه إيران برئاسة رضا خان في منتصف عشرينات القرن الماضي أطلقت على الإقليم خوزستان وشنّت عليه عملية “تفريس” وتغيير في ديموغرافيته .

العقوبات الدولية، الفساد بأشكاله المتنوعة تسببت بتدهور على كافة الصعد (تظاهرات طلابية ضخمة بلغت ذروتها 2017، إضافة الى انتفاضة البنزين منذ عامين والتي ذهب ضحيّتها الآلاف… تململ بين القوميات المتعددة في إيران فهناك القومية الكردية، الأذرية، العربية البلوش اللور والتركمانية). منذ العام 2017 تواجه ايران صعوبات جمّة تبدأ بتدهور مستوى المعيشة من خلال تآكل وتناقص وتدهور الكهرباء وانقطاع المياه، إضافة الى العقوبات الدولية وانتشار وباء الكورونا، والفساد بأشكاله المتنوّعة. الدراسات والابحاث حول الوضع الداخلي في ايران تُشير بشكل واضح الى الأزمات المتعددة والتي تحاول السلطات طمسها وهي تتصاعد بشكلٍ خاص لدى الكرد، العرب، والأذريين، إضافةً إلى عدم رضى الشعب الايراني لاستمرار نظام الولي الفقيه والحرس الثوري بدليل ان الانتخابات الرئاسية الاخيرة شهدت مقاطعة واسعة، فأقل من 50% من الناخبين أدلوا بأصواتهم. وعلى الرغم من كل الادعاءات فإيران بحاجة ماسة إلى اصلاحات شاملة تبدأ بنظام الحكم والتخلّي طوعاً وتدريجاً عن ولاية الفقيه والحرس الثوري، ولا تنتهي بإلغاء تفريس القوميات. أوَليسَ الشعب الإيراني أحقّ بالمليارات التي تُدفَع لتغذية الميليشيات الطائفية في أكثر من بلد عربي؟ ثم ان هناك اجماعاً بضرورة وقف تصدير الثورة وتشكيل جيوش تابعة للحرس الثوري، وأيضاً وقف التدخل في شؤون الدول الأخرى وعدم اعتبار العرب الشيعة حزباً تابعاً لإيران (عمار ديوب – “مشكلات الأهواز منذ 1925 ومستقبل ايران” صحيفة العربي الجديد 15-8-2021). وبدلاً من تصدير الثورة فالأجدى العمل على تصدير التنمية وإرساء مبادئ وقواعد التعاون الاقتصادي والتنموي بين دول المنطقة لما فيه مصلحة كل الشعوب… هل يمكن على سبيل المثال تصوّر النتائج الباهرة لتعاون اقتصادي تنموي بين ايران ودول الخليج العربي وتركيا؟ قال ابراهيم رئيسي، الرئيس الجديد لإيران في حفل تنصيبه: ” يجب حلّ الازمات الاقليمية من خلال الحوار الحقيقي بين شعوب المنطقة”، مؤكّداً مد يد الصداقة إلى كلّ دول المنطقة، وخصوصاً دول الجوار. ويا حبّذا لو أن الرئيس الايراني الجديد يُقرن القول بالفعل.

جئنا في البداية على ذكر رئيس الجمهورية والعهد القوي، وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر فلقد تداول موقعٌ إخباري خبراً يُفيد بأنه تزامناً مع الاشاعات المُغرضة حول صحة الرئيس، والذي نتمنّى له كل الصحّة والعافية، فالرئيس كان يتفقد فيللّته الجديدة الجميلة في الرابية ويُعطي التعليمات لإنجاز الاعمال. بعد قراءتي للخبر تذكرت ما قاله لي ضابط متقاعد خدم كأحد أركان المواكبة الأمنية للرئيس الراحل الياس سركيس، والذي رغب بعض توليه الرئاسة ان يزور أرملة الراحل الكبير فؤاد شهاب في منزلها بعد وضعه لاكليلٍ على ضريح شهاب . الكلام للضابط : “دخلتُ المنزل فظننتُ أنني في منزل موظف متقاعد من الفئة الثالثة إن لم يكن الرابعة. الجدران بحاجة إلى إعادة طلاء، المفروشات في وضعٍ يُرثى لها. جلتُ بناظرَيْ فلم أقع على أيِّ ثمين. سَرَت في عروقي قشعريرة من كبرياء وفخر، تذكرتُ قصور وفيللات الرؤساء السابقين، وكيف سوف تبدو قصور الرؤساء اللاحقين فتمتمتُ قائلاً: “يرحم ترابك يا فؤاد شهاب”.

  • عبد الرحمن عبد المولى الصلح هو كاتب لبناني. الآراء الواردة في المقال تخص الكاتب وتُمثّله.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى