تشكيلُ حكومةٍ أو مجلسِ وِصاية
بقلم سجعان قزي*
“حظُّ” لبنانَ أن الدولَ الأجنبيّةَ، لا سيَّما الشقيقةُ منها والصديقةُ، تتقاتلُ على أرضِه سلميًّا فيما تتحارَبُ في سوريا والعراق واليمن وفلسطين عسكريًّا. لكنَّ المؤلِمَ أنَّ الحروبَ هناك تنتهي بينما أزَماتُنا هنا تَتجدَّدُ، وضَررُها لا يَقِلُّ عن ضررِ الحروب، وأزمةُ تأليفِ الحكومةِ آخِرُ تَجلِّياتِـها. فإذ ننتظرُ تشكيلَ حكومةِ العهدِ الأُولى ـــ على أساسِ أنَّ العهدَ رفضَ الإعترافَ بالحكومةِ الحاليّةِ ولم يُسجِّلْها على اسمِه رغمَ استعمالِـها نحو سنتين ـــ نَخشى أن تصبحَ حكومتُه المستقيلةُ هي ذاتُها حكومتَه الأُولى والأَخيرة ما لم يَحسِم المعنيّون قرارَهم ويؤلِّفون حكومةً جديدةً.
تؤكّدُ مفاوضاتُ تأليفِ الحكومةِ وجودَ ثلاثةِ معطياتٍ تَتحكّمُ بها وبالوضعِ اللبناني عمومًا: التسويةُ الرئاسيّةُ، نتائجُ الإنتخاباتِ النيابيّةِ، وتحوّلاتُ الشرقِ الأوسط. وإذا كان المعطَيان الأوّلان قابلَين لحلٍّ ما، فالـمُعطى الثالثُ يَعصي على الحلِّ السريع. وما زادَ الوضعَ تعقيدًا تَعرّضُ هذه المعطياتِ الثلاثةِ لانقلاباتٍ في الفترة الزمنيّة ذاتِها تقريبًا.
الإنقلابُ الأوّلُ حَصل على التسويةِ الرئاسيّةِ التي أُنجِزت سنةَ 2016 فأُصيبَت بنارٍ صديقةٍ مرّاتٍ عدّة: ظلّت صفقةً ذاتَ طابَعٍ شخصيٍّ ولم تتحوّل صيغةً ذاتَ فعلٍ وطنيٍّ. نَشأت عنها حكومةٌ متوازنةٌ عدديًّا مُختلَّةٌ سياسيًّا فتحَكّمَت قوى “8 آذار” بقراراتِها الأساسيّة. إهتزَّ استقرارُها بإعلانِ الرئيسِ الحريري إستقالتَه الإضطراريّةَ من أرضِ السعوديّة في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 وبصدورِ قانونِ الإنتخاباتِ ذي النسبيّةِ الهجينة. ترنَّحَ تحالفُ “القوَاتِ اللبنانيّةِ” و”تيّارِ المستقبَل” فترةً، وتَداعَى إعلانُ النيّاتِ بين القوّاتِ و”التيّارِ الوطنيّ الحر”، فخاضت مُكوِّناتُ التسويةِ الانتخاباتِ النيابيّةَ متفرِّقةً، فنجحَت منفرِدةً وفَشِلت مجتمِعةً. وفي المحصِّلةِ كان حكمُ التسويةِ خائبًا.
الإنقلابُ الثاني حَصل على نتائجِ الإنتخاباتِ النيابيّةِ حين تَعرّضَ مفهومُ النجاحِ إلى تحريفٍ فاضحٍ: إختصرَت الكُتلُ الفائزةُ معيارَ التمثيلِ الشعبيِّ في الّذين فازوا في الإقتراعِ والّذين خَسِروا، وليس بـمَنْ صوّتوا وبمن قاطعوا أيضًا، والمقاطعون كانوا الأكثريّة. هذا التفسيرُ الخاصُّ أدّى إلى إصرارِ الكُتلِ النيابيّةِ على أن تكونَ الممثِّلَ الوحيدَ للشعبِ في الحكومةِ وإقصاءِ قِوى المجتمعِ الحيّةِ. وعلاوةً على حَصريّةِ التمثيلِ أُضيفَت معادلةُ العددِ، إذ وازَتْ الكُتلُ بين أعدادِ نوابِـها وعددِ وزرائِها كأنَّ التمثيلَ عددٌ لا نوعيةٌ، والمشاركةَ حضورٌ لا تأثيرٌ. جميعُ هذه التفسيراتِ إستنسابيّةٌ لا تَليق بمجتمعٍ يَضُجُّ بالكفاءاتِ غيرِ النيابيّةِ وغيرِ الحزبيّة.
الإنقلابُ الثالثُ حَصل على أحداثِ الشرق الأوسط: إعترافُ دونالد ترامب بأورشليم عاصمةَ دولةِ إسرائيل ونقلُ سفارةِ أميركا إليها. إعلانُ الكنيست إسرائيلَ دولةً قوميّةً يهوديّةً ونُكرانُ مواطنيّةِ الفلسطينيّين. إنتصارُ النظامِ السوريِّ، بدعمٍ إيرانيٍّ وروسيٍّ، على مختلَفِ فصائلِ المعارضَةِ واعترافُ الغربِ به مجدَّدًا. ترحيبُ إسرائيل بعودةِ الجيشِ السوريِّ النظاميِّ إلى حدودِها في الجولان مُقدَّمةً لاستئنافِ مفاوضاتِ السلام. دخولُ إسرائيل مباشرةً على خطِّ الحربِ في سوريا لتحجيمِ دورَي إيران و”حزب الله”. إنسحابُ الولاياتِ المتحدّةِ الأميركيّةِ من الاتفاقِ النوويِّ الإيرانيّ وفرضُها عقوباتٍ مجهولةَ الارتدادات. إنتصارُ التيّارِ الصدريِّ، المتمايِزِ عن إيران، في الانتخابات العراقية. وأخيرًا، بروزُ روسيا لاعبًا أساسيًّا في سوريا وسطَ تراخٍ أميركيٍّ وارتباكٍ خليجيّ.
جميعُ هذه “الانقلاباتِ” تُرخي بثقلِها على عمليّةِ تأليفِ الحكومةِ لأنَّ غالِبيةَ القِوى السياسيّةِ اللبنانيّةِ تَدين بقراراتـِها لدولٍ أجنبيّةٍ مَعنيّةٍ بدورِها بهذه التحوّلاتِ الشرقِ أوسطيّة. مِن هذه الدولِ مَن يَسعى إلى تثبيتِ لبنانَ في المحورِ الإيرانيِّ – السوريّ، ومنها مَن يَـجهَدُ لاستعادتِه من هذا المحورِ وإعادتِه إلى حيادِه النسبيّ مع صوتٍ تفضيليٍّ للعربِ والغرب، ومنها من يأملُ إرجاعَه إلى وصايتِه المباشَرة وكأنَّ التاريخَ لم يَتغيّر.
ومقابلَ هذا التنافسِ على جِلْدِ لبنان، تَبرُز ثلاثُ تَشكيلاتٍ حكوميّةٍ بموازاةِ المعطياتِ الثلاثةِ وانقلاباتِـها: تَشكيلةٌ جامعةٌ وغيرُ متوازِنةٍ لصالحِ فريق “8 آذار”، تشكيلةٌ جامعةٌ ومتوازِنةٌ لمصلحةِ الاستقرارِ، وتشكيلةٌ محصورةٌ بالأكثريّةِ النيابيّةِ تُقصي قِوى “14 آذار” السابقة. وكأنَّ كلَّ تَشكيلةٍ مجلسُ وصايةٍ على العهد.
رئيسا الجمهوريّةِ والحكومةِ المكلَّفُ يُفضّلان التشكيلةَ المتوازِنةَ لكنَّ الرئيسَ عون لا يمانعُ بالتشكيلتَين الأُخْرَيَين، فيما الحريري يَتحفَّظُ على الــ”لامتوازِنةِ” ويَرفُض ذاتَ اللونِ الواحد. أما القِوى السياسيّةُ كافّةً، فتريدُ المشاركةَ في الحكومةِ مهما كَلَّفَ الأمرُ لأنّها لا تَستلطِفُ المعارضةَ في مرحلةٍ مصيريّةٍ تُحتِّمُ الحضورَ في مجلسِ الوزراءِ فتعارِضُ أو توالي من الداخِل، خصوصًا أن المجتمعَ الدوليَّ المعنيَّ بمساعدةِ لبنانَ إيجاباً يَنصحُ بحكومةِ وِحدةٍ وطنيّةٍ. لكنَّ تعبيرَ “المرحلةِ المصيريّةِ” يَعني لأطرافٍ مصيرَ لبنان، ولأطرافٍ أُخرى مصيرَ الصفقات.
الحكومةُ المقبلةُ مدعوةٌ لاتخاذِ قراراتٍ بالقضايا الإشكاليّةِ التالية: العلاقاتُ اللبنانيّةُ – السوريّةُ، آليّةُ عودةِ النازحين السوريّين، تزويدُ الجيشِ اللبنانيِّ بأسلحةٍ من دولٍ جديدةٍ، وضعُ إستراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ من وحيِ القرارَين الدوليَين 1559 و1701، كيفيّةُ تعاملِ لبنانَ مع العقوباتِ الدوليّةِ على “حزبِ الله” وإيران، تنفيذُ القراراتِ والعقودِ المتعلِّقةِ باستخراجِ النفطِ والغاز، الإصلاحاتُ الاقتصاديّةُ والتشريعيّة، تصويبُ تموضعِ لبنانَ إقليميًّا ودوليًّا، تحضيرُ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ، إلخ…
هذه الإستحقاقاتُ لا تَتطلّبُ حكومةَ وِحدةٍ وطنيّةٍ بالشكلِ، بل حكومةً ذاتَ نهجٍ وطنيٍّ. والنهجُ الوطنيُّ يبدأُ بتأليفِ حكومةٍ لأنَّ التأخيرَ نَقصٌ في المسؤوليّةِ الوطنيّة. وهذه الاستحقاقاتُ آتيةٌ مهما هَرَبنا منها، لكنْ بوجودِ حكومةٍ نأمَلُ أنْ نَتحكّمَ نحن بها، بينما من دونِ حكومةٍ تَتحكّمُ هي حتمًا بنا.
لذا، يُفترضُ بالرئيسين عون والحريري أنْ يُوقِفا دَلَعَ الكُتلِ وجَشَعَها ويؤلِّفَا حكومةً وطنيّةً بمستوى التحدّياتِ الصعبة؛ فلا العهدُ يَحتمِلُ مزيدًا من التآكلِ، ولا البلادُ تَحتمِلُ مزيدًا من الفراغِ، ولا الشعبُ يَحتمِلُ مزيدًا من الإذلال.
• وزير لبناني سابق.