“حزب الله” يُقسِّم الاقتصاد اللبناني للسيطرة عليه

كابي طبراني*

في بلدٍ يعيش فيه أكثر من 50 في المئة من سكانه تحت خط الفقر، فإنّ أيِّ زيادةٍ طفيفة في أسعار السلع الأساسية ستضرّ بأُسَرِه وتؤثِّرُ فيها بشكلٍ حاد. لبنان هو أحد هذه البلدان، حيث كان حجم الانهيار الاقتصادي على مدى الأشهر الثمانية عشر الفائتة شديداً لدرجة أن التضخّم أصبح مُدمِّراً. في العام 2019 كان سعر شراء ليتر الحليب 3,000 ليرة لبنانية، اليوم صار 10,000 وعلى ارتفاع…

الأمرُ ليس كذلك بالنسبة إلى القلّة المُختارة التي حصلت على بطاقة “السجّاد”، (نسبة إلى الشخصية الشيعية البارزة الإمام علي السجّاد المعروف عنه سخاؤه وكرمه)، وهي تذكرة للوصول إلى سلسلة من المتاجر الكبرى التي يُديرها “حزب الله” في لبنان. تُقدِّم متاجر “سوبرماركت النور”، كما تُعرَف السلسلة، خصومات تصل إلى 70 في المئة (بحد أقصى 300 ألف ليرة لبنانية) على مجموعة من المنتجات الغذائية والمنزلية، ومعظمها مستورد من إيران والعراق وسوريا.

فتح “حزب الله” محلات تجارية للعائلات الفقيرة التي تعيش في المناطق الواقعة تحت سيطرته السياسية في أواخر العام الفائت، بدعوى المساعدة على حمايتها من الأزمة الاقتصادية. ولكن هناك استجابة للأزمة، ثم هناك استغلالٌ للأزمة.

لقد أدّى التدهور المأسوي في لبنان فعلياً إلى انهيارِ مقوّماته وإفراغِ كل جانب من جوانب دولته التي كانت تعمل في السابق. مواطنوه يراقبون الإحتجاجات تندلع بسبب نقص الغذاء والوقود والأدوية. الاقتصاد ونظام الرعاية الصحية والأمن على حافة الهاوية، إن لم تكن فعلاً قد سقطت فيها. لا يبدو أن أيّ اقتراح من المجتمع الدولي كافٍ لتوعية ضمائر النخبة السياسية ولدفع قادة البلاد إلى العمل لإنقاذ ما تبقّى من الوطن.

هناك، بالطبع، حاجة مُلحّة إلى توفير الخدمات والسلع الأساسية. لا يُمكن لأحدٍ أن يلومَ أولئك الذين عُرِضَت عليهم بطاقة “السجّاد” لاستخدامها. لكن بالنسبة إلى قادة “حزب الله” وداعميه الأجانب، وفي المقدمة إيران، فإن إنشاء متاجر سوبر ماركت خاصة لا يتعلّق فقط بمساعدة مؤيديهم من الشيعة الفقراء. أولئك الذين لا يرضى عنهم ممثلو “حزب الله” من الطائفة ممنوعون من دخول هذه المحلات. وتفيد المعلومات بأن الحزب يستورد البضائع المُباعة هناك من طريق التهريب ومن دون دفع الرسوم الجمركية.

ما لم يكن بالإمكان تصوّره حدث للدولة اللبنانية في السنوات الأخيرة. دولةٌ عالمية ذات يوم تُكافح الآن على كل الجبهات. الناسُ فيها يتقاتلون خارج مخابزها حيث صار تنافس المواطنين على الخبز أمراً عادياً ومُعتاداً. لقد تحطّمت سُمعة البلاد كمركزٍ مصرفي للشرق الأوسط، وحلّ محلّها العار المالي المُتمثّل في وجود بنك مركزي بائد وبنوك مُفلِسة وقليل من العملة الصعبة. اليوم، يُنظَر إلى الاقتصاد اللبناني على نطاقٍ واسع على أنه أحد أكثر اقتصادات المنطقة اختلالاً.

غالباً ما يُوصَفُ نفوذ “حزب الله” المحلّي بأنه دولة داخل دولة، أو على أقل تقدير، طامحٌ لدولة. إن الأزمة الحالية في البلاد تدفع هذا الطموح كي يصبح حقيقة واقعة. مع استمرار انتشار التراجع والفساد في السياسة اللبنانية، فإن نسبةً أكبر من الأشخاص الذين يزعم “حزب الله” أنه يمثلهم قد ينظرون إليه على أنه أملهم الوحيد. نظراً إلى أن برامج دعم “حزب الله” أصبحت أكثر فاعلية من استجابة الحكومة المركزية غير الموجودة عملياً، فمن المرجح أن يحل محل الدولة ليس فقط عسكرياً وسياسياً، ولكن أيضاً مالياً واقتصادياً.

الواقع أن هناك مشروعاً كبيراً ل”حزب الله” للسيطرة على الإقتصاد بعدما سيطر على البلاد عسكرياً وسياسياً.  يقوم هذا المشروع على استبدال دور النظام المصرفي اللبناني (بشقّيه: مصرف لبنان والمصارف التجارية) في دورة الاقتصاد الوطني، بالاقتصاد النقدي (cash economy)  حيث يتمكن الحزب من خلاله الإمساك بمفاصل الدورة الاقتصادية اللبنانية استيراداً وتجارة، وبالتالي تحكّماً بالكتلة النقدية الموجودة بين أيدي اللبنانيين بعدما سُحِبت من المصارف على مدى الأشهر القليلة الماضية تحت وطأة الخوف على سعر صرف الليرة من جهة وعلى مصير الودائع في المصارف من جهة أخرى.

وتُقدّر المعلومات المصرفية حجم هذه الكتلة بأكثر من ستة مليارات دولار أميركي، يُضافُ إليها نحو سبعة آلاف مليار ليرة لبنانية (تتراوح قيمتها بالدولار بين حوالى 4,5 مليارات دولار بحسب السعر الرسمي لمصرف لبنان و2,5 ملياري دولار بحسب أسعار السوق السوداء الموازية). ويتطلع “حزب الله” إلى الإستفادة من هذا المبلغ الضخم من خلال توظيفه في منظومته الاقتصادية والتجارية للتحكّم بقسمٍ من التجارة الخارجية من طريق التهريب، وفي الأسواق الداخلية من طريق المضاربات بالبضائع السورية والعراقية والإيرانية والتركية المُهرَّبة، الأمر الذي يسمح له بالتفاف واسع على العقوبات الأميركية من خلال التفلّت من رقابة القوانين والنظام المصرفي اللبناني.

وتشرح المعلومات خطة “حزب الله” بالقول: إن تعطيل النظام المصرفي اللبناني يؤدي الى تعطيل العمليات التجارية التقليدية القائمة على فتح الاعتمادات والتحويلات بهدف الاستيراد، علماً أن لبنان يستورد بما قيمته حوالى عشرين مليار دولار سنوياً. ويسعى “حزب الله” ليكون بديلاً من المنظومة التجارية التقليدية على اعتبار أن تعطيل المنظومة التقليدية القائمة على الاستيراد من خلال النظام المصرفي سيُفقِد الأسواق اللبنانية الكثير من السلع الاستهلاكية، ما يفتح أمام الحزب باب التهريب على مصراعيه لتأمين حاجات الأسواق اللبنانية.

من ناحية أخرى، كان “حزب الله” أسس جمعية “القرض الحسن” عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وتم ترخيصها من وزارة الداخلية اللبنانية في العام 1987. وعلى الرغم من مزاولتها العمل المصرفي، إلّا أن تلك الجمعية غير مُدرجة على لائحة المصارف المُرخّصة من “مصرف لبنان”. وتشير المعلومات إلى أن “الحزب” يخصص للجمعية موازنة كبيرة، ويُسلّم بعض رواتب منتسبيه من خلالها.

وأشارت مصادر إعلامية لبنانية إلى أن المؤسسة استحدثت أخيراً خدمة الصراف الآلي (ATM)، وبدأت اعتمادها في بعض فروعها المنتشرة على الأراضي اللبنانية، مُضيفةً أن “بطافة الصراف الآلي تُقدّم للمشترك تسهيلات عدة، ومنها سحب الأموال بالدولار الأميركي للعملاء الذين يملكون حساباً بالدولار”، مما طرح تساؤلات كبيرة حول تأمين السيولة في وقت تُقلِص فيه المصارف اللبنانية خدماتها، وتضع سقوفاً منخفضة على السحوبات بالعملة اللبنانية والدولار.

وقد طور الحزب دور جمعية “القرض الحسن”، حيث باتت أشبه بمصرف مركزي لمنظومة الحزب المالية، التي توسع دورها تدريجاً لتصبح المركز المالي الأول للبيئة الشيعية، وباتت تستحوذ على كميات ضخمة من الذهب كونها تُرهن الذهب في مقابل قروضٍ مالية ميسّرة. وترتبط بها مجموعة كبيرة من الصيارفة الذين يشترون العملات الأجنبية من الأسواق المحلية، على سعر السوق السوداء.

لم يقل مسؤولو “حزب الله” علناً سوى القليل عن برامج المساعدة الاقتصادية الانتقائية، بخلاف التباهي بقدرتهم على تعزيز “اقتصاد المقاومة” ضد القوى الغربية.

هذا ليس أساس الإصلاح المنهجي الذي يحتاجه لبنان لإعادة البناء. إن خطر الانقسام والتقسيم الحزبي صار وجودياً بالنسبة إلى البلد. يُبيِّن لنا التاريخ الحديث مدى خطورة هذا الطريق. بدون حكومة مركزية مُتماسكة، مهما كان أداؤها سيّئاً، لن يكون هناك نظامٌ سياسي شامل يمكن تغييره نحو الأفضل. وقد تكون ل”حزب الله” دولته أخيراً، بينما سيُعاني اللبنانيون المُستَبعَدون والمُهمّشون، وسيُقاسون أكثر مما يقاسونه راهناً.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف كتباً عدة بالعربية والإنكليزية من بينها “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)، و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى