عُيوبُ الديموقراطية الخفيّة

بقلم السفير جان معكرون*

هل نجحت الديموقراطية في إيصال الحكّام القادرين على الحكم الرشيد والمُلتَزِمين بالقِيَمِ الديموقراطية والإنسانية؟ إنه سؤالٌ مطروح في كل زمان ومكان. تُكرّر المؤلفات الدستورية والسياسية المبدأ الديموقراطي الذي أطلقه أبراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو أنّ الديموقراطية “حكم الشعب بواسطة الشعب ومن أجل الشعب”. وحيث أنّ الشعبَ غير قادرٍ عملياً على الحكم مُباشرةً، قام بتكليف هيئةٍ تُمثّله عُرفَت بمجلس النواب تولّى ليس فقط سَنّ القوانين باسمه بل انبثقت عنه أيضاً حكومة تحكم تحت رقابته.

السؤال الواجب طرحه هنا هو، إلى أي مدى يعكس مجلس النواب رضى الناخبين ومصالحهم وآمالهم؟

لقد أضاء “جان ماري كوتيري” (Jean-Marie Cotteret)، أستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون، على ناحية مهمّة عندما قال: “إنّ المحكومين يشعرون أقلّ وأقلّ تمثيلاً بالذين قاموا باختيارهم”، بمعنى أنّ النواب لا يُمثّلون الناخبين كما يجب عندما يُمارسون مهامهم التمثيلية والتشريعية، وهذا ما يقودنا إلى الاعتقاد بأنّ النواب لا يُشكّلون ضمانةً لحقوقِ الناخبين ومصالحهم.

ما هي حقيقة العلاقة بين الناخبين والمُنتَخَبين؟

إنّ مسألة قصور المشترع في معالجة المشاكل الرئيسة، على الأخص الاقتصادية والاجتماعية، أثارت اهتمام العديد من الفقهاء الدستوريين مُعَلّلين هذا القصور بنشوء واقعات وحاجيات جديدة تستلزم اختصاصات قانونية وتقنية غير متوفرة في غالب الأحوال في البرلمان، إضافةً إلى بطء العملية التشريعية وعدم قدرة النواب على مناقشة جدّية لمشاريع القوانين. ونذكر أيضاً أنّ العديد من المراقبين الدستوريين قد طرحوا موضوعاً غير مألوف وهو عدم عصمة الغالبية النيابية.

وإذا عدنا إلى أساس العلاقة بين الناخبين والمُنتَخَبين، لا بدّ لنا من معالجة مدى تمثيل النواب للناخبين ومدى عصمة الغالبية النيابية، فهل هي دائماً على حق في تشريعاتها القانونية؟ وهل تُمثّل هذه التشريعات غالبية أم أقليّة شعبية؟

قد لا تمثّل هذه الغالبية النيابية المنتخبة غالبية شعبية والأمثلة عديدة، فلقد ذكر الفقيه القانوني الفرنسي  “لو فور” (Le Fur) أنّ حسابات دقيقة أظهرت في فرنسا أنّ غالبية مجالس النواب منذ 1875 لغاية 1934 مثّلت فقط أقلية من الشعب الفرنسي بسبب تزايد عدد المُمتَنعين عن التصويت والأصوات المُلغاة.

كما استنتج السياسي الفرنسي “أندريه تارديو” (André Tardieu) أنّ النواب الذين شرّعوا القوانين في العام 1937 لم يُمثّلوا سوى 10% من الشعب مُبرّراً ذلك بأنّ الغالبية النيابية مثّلت أقليّة من الشعب الفرنسي الذي بلغ آنذاك 42 مليون نسمة، وشرح كيف أنّ 11 مليوناً منهم تمتّعوا بحق الانتخاب لكنّ 8 ملايين فقط مارسوا هذا الحق، أي ما يعادل 21% من المجموع. ثمّ أكمل أنّ قانوناً مُتعلّقاً بفصل الكنيسة عن الدولة قد صوّتت عليه غالبية نيابية مثّلت فقط 2,600,000 ناخب أي ما يعادل 6% من الشعب الفرنسي.

وتعليقاً على ما تقدّم، وإذا اعتمدنا طريقة احتساب “تارديو” وطبّقناها على الواقع اللبناني، أي نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في العام 2018 حيث بلغت نسبة الإقتراع 49,68% أي أنّ 1,861,203 اقترعوا من أصل 3,746,483 ناخب، وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ 50% من المُقترعين والبالغ عددهم حوالى 900,000 ناخب فعندها تتوضّح لنا الصورة الصادمة للديموقراطية في عملية إقرار القوانين عندما نعرف أنّ نصاب جلسة مجلس النواب هو غالبية عدد أعضائه، أي 64 نائباً، وأنّ التصويت يتمّ بغالبية الحاضرين من النواب. إذ قد يصدف أحياناً أن تقَرّ القوانين بغالبية ضئيلة لا تتخطّى 33 نائباً يكونون قد شرّعوا باسم الشعب اللبناني.

وتأكيداً على هذا العيب الخفي في الديموقراطية، فلقد أشار الدكتور جورج شرف في كتابه “الطوائف والحكم في لبنان” إلى أنّ النواب المُنتخبين في العام 1968 مثّلوا ما بين 16% و 32% من الناخبين، كما أنّ النواب المُنتخَبين في العام 1972 قد مثّلوا ما بين 16 و36% من الناخبين.

وتعقيباً على ما ورد آنفاً، نذكر أنّ الغالبية النيابية في أفضل حالاتها ليست دائماً على حق، إذ قد تُخطئ أحياناً ولا يُمكن التسليم بأنّ الكثرة العددية تُشكّل ضمانة أكيدة للحقيقة والخير العام.

وكان المؤرخ والعالِم الفرنسي “ألكسي دو توكفيل” (Alexis de Tocqueville) على حق عندما قال: “إذا سلّمنا بأنّ الفرد الذي يملك السلطة قادر على إساءة استعمالها، فلماذا لا نسلّم بقدرة الغالبية على الإساءة ذاتها”.

حتى أنّ البابا يوحنا بولس الثاني قد اعتقد “بأنّ الحقيقة ليست مطابقة دائماً لرأي الغالبية”.

وإذا كانت العبرة كل العبرة تكمن في التزام التشريع بمبادئ العدل والمنطق والمصلحة العامة، فإنّ مًن يقرأ المراجع القانونية والفلسفية يخرج بانطباعٍ أنها جميعها تُركّز على أهمية استناد القانون إلى هذه المبادئ. فالعدل في التشريع هو الأساس وهو الضمير الإنساني السائد والمتكوَّن من المبادئ التي ترعى مجتمعاً معيّناً في زمانٍ محدّد. لكنّ واقع التشريع يقودنا إلى مقاربة ظاهرة غريبة وهي ظاهرة القانون التعسّفي الصادر عن الغالبية النيابية، ويُمكن تعريف القرار أو القانون التعسّفي بغياب الأسباب القانونية المُبرَّرة وبتأثّر صانعي القانون بمزاجهم وأهوائهم الشخصية، إضافةً إلى تحيّزهم العاطفي وغير الموضوعي.

ولقد عبّر عالِم الإجتماع والفيلسوف الفرنسي “جوليان فراند” (Julien Freund) عن تعسّف واستبداد الأكثرية النيابية بدقّة بالغة قائلاً: “إنّ الجلالة ليست قداسة. لا نرى لماذا تدلّ العدديّة على النقاوة أو لماذا تكون الإرادة الجماعية أكثر استقامة من الإرادة الفردية”.

ونُشير هنا إلى أنّ أرشيف ومحاضر البرلمانات في العالم مليءٌ بالقوانين التعّسفيّة والتي تعدّلت مع مرور الزمن أو ما زالت نافذة. ففي العام 1967، وافق فقط 4% من الأميركيين على الزواج المختلط بين الأعراق المختلفة، أي أنّ حوالى 90% من الأميركيين عارضوا هذا الزواج لكنّ المحكمة العليا قضت برفض قرار الأكثرية بهدف الحفاظ على حقوق الأقليّة.

أمّا في لبنان فالأمثلة عديدة على القوانين التعسّفيّة غير العادلة كالقوانين التي تُفرّق بين حقوق المرأة قياساً مع حقوق الرجل. ونكتفي بالإشارة إلى القانون رقم 49/65 الصادر في 6/9/1965 والقانون رقم 45/65 الصادر في 2/10/1965 والمعروفَين بقانونَي الإصلاح ولدى أنصارهما بقانونَي التطهير، الأول خاص بالقضاة والثاني بالموظفين. إنّ هذين القانونين لم يُوفّرا لمن تناولهما أي إمكانية لممارسة الحق البديهي بالدفاع والذي اعتمدته جميع شرائع العالم. ولقد خالف مجلس النواب اللبناني في إقراره هذين القانونين حقوق الإنسان الأساسية لأنّ “القانون الذي يعمل على تحريم الطعن القضائي لا أثر له ولا موضوع له” طبقاً لرأي الدكتور محسن خليل، أستاذ القانون العام في جامعة الإسكندرية. كما اعتبر الدكتور إدمون ربّاط أنّ هذين القانونين يخالفان الدستور بطريقة فاضحة.

وفي مقالة قيّمة نُشرت في العام 1974 لنقيب المحامين في بيروت الأستاذ فؤاد رزق في العام 1958، أكّد فيها عيوب الديموقراطية الخفيّة حين قال: “إنّ بعض القوانين الصادرة عن مجلس النواب اللبناني حوت أخطاء جسيمة لا يمكن تفسيرها إلّا بأنها نتيجة جوّ مضطرب يسود المناقشات ويضيع فيه صفاء الذهن”.

وفي السياق ذاته، ذكر السياسي الفرنسي أندريه تارديو أنّ النواب في فرنسا لا يستعجلون التشريع إلاّ لأسبابٍ خاصة بهم وهي إقرار القوانين الانتخابية وزيادة تعويضاتهم. ولنا في لبنان مثلٌ صارخ على ذلك، ففي الجلسة النيابية المُنعقدة في 15/11/1979 وبينما كان النائب منير أبو فاضل يتولّى إدارة الجلسة نيابةً عن رئيس المجلس، تمّ عرض مشروع قانون يقضي برفع التعويض العائلي للموظفين إلى 75 ليرة عن الزوجة و40 ليرة عن الولد، فطلب وزير المالية تأجيل البحث لأنه يُرتّب أعباءَ مالية.

كما أضاف النائب بيضون: “ما درسناه”، فأجاب النائب أبو فاضل: “معجّل مكرّر، ما بدّو درس” و”إنّ الموظفين لا يقبلون 15 ليرة لزوجاتهم”. وختم أبو فاضل قائلاً: “لمّن صار للموظف صار بدّو درس، بس إعفاء سيارات النواب من رسوم الميكانيك وكل الرسوم أُقرّ بالإجماع”.

أمام هذه العيوب الخفيّة في الديموقراطية، نتساءل عن مدى شرعية النواب التمثيلية وعن مدى فعاليّتهم في تحقيق أمنيات وآمال الناخبين وتحقيق الخير العام. وإذا كان الشعب المؤتمن الأساسي على السيادة، فإنّ البرلمان هو المُكلّف بممارستها عملياً ويترتّب بالتالي على النواب أن يتمايزوا بالحكمة والعدل والرؤية. فالتشريع رسالة والرسالة هي أن يشارك النائب معاناة الناس ومشاكلهم وحاجياتهم وآمالهم ويسعى جاهداً إلى حلّها ومعالجتها.

ولا شكّ أنه من المستحيل أن يرضي النواب جميع أفراد الشعب ولا بدّ من إغضاب البعض ولقد عبّر روسو عن هذا الواقع ببراعة قائلاً: “Il faudrait des Dieux pour donner des lois aux hommes”، أي أننا نحتاج إلى آلهة لكي نسنّ القوانين للناس.

وقبل أن أختم، لا بدّ لي من الإشارة إلى أنّ تاريخنا الانتخابي والتشريعي هو المربّي الشريف، ليس فقط للنواب بل أيضاً للناخبين. والعبرة كل العبرة تكمن في الصفات الواجب توافرها في الأشخاص القيّمين على رسالة الحكم والتشريع ولكي تنجح الديموقراطية، لا بدّ من إعداد الناخبين إعداداً جيداً لكي يتمكّنوا من الاختيار بوعيٍ وحكمة ولا حلّ إلاّ بتعليم الناخبين وتثقيفهم.

وختاماً، رأيت من المفيد أن أقتبس المقولة المعبّرة للأستاذ فؤاد رزق بعنوان “بين حكم الشعب وحكم أصدقائه” حين قال: “رجال الحكم الذين نحتاجهم هم من لا يرون في الحكم وسيلة للسيطرة أو للمجد أو للثراء، بل خدمة يقومون بها بدافع المحبة تصل إلى درجة التضحية بالذات”.

 

  • السفير الدكتور جان معكرون هو كاتب وديبلوماسي لبناني سابق.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى