ضُعفُ مصر في عَهدِ السيسي يُشَكِّلُ عِبئًا على الشرق الأوسط

فيما كانت مصر زعيمةً للعالم العربي سابقًا خصوصًا في عهد جمال عبد الناصر وأنور السادات، باتت اليوم في عهد عبد الفتاح السيسي ضعيفة وغير مُستقرّة.

جمال عبد الناصر: الزعيم الذي جعل دور مصر مُهيمنًا عربيًا ودوليًا.

ألكسندر كلاركسون*

بَعدَ سنواتٍ من الاضطرابات السياسية والضائقة الاقتصادية، يبدو الوقتُ الذي كان فيه العالم يَنظُرُ إلى مصر كمَصدَرٍ للإلهام السياسي كأنه تاريخٌ قديمٌ جدًا. لكن قبل 13 عامًا، كانت الديناميكية التي عَبَّرَت عنها الاحتجاجات الجماهيرية المصرية التي أطاحت نظام الرئيس حسني مبارك الفاسد آنذاك، سببًا في توليدِ الأمل في أنَّ الدولةَ الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم العربي كانت على أعتابِ عَصرٍ ذهبي ديموقراطي. كانت الطريقة التي اجتذبت بها ثورة مصر في كانون الثاني (يناير) 2011 الاهتمامَ العالمي آنذاك تَعكُسُ النفوذَ الإقليمي الذي تتمتّع به البلاد، والذي تدعمه كاريزما الزعماء السابقين مثل جمال عبد الناصر وأنور السادات.

لكن في الآونة الأخيرة، عَجِزَ النظامُ الاستبدادي للرئيس عبد الفتاح السيسي عن القيام بأيِّ شيءٍ أكثر من الردِّ على الأزمات المُحيطة بحدود مصر، الأمرُ الذي أدّى إلى توليدِ فراغٍ استراتيجي كانت جهاتٌ فاعلة أكثر تخريبًا على استعدادٍ لمَلئه. وفي مواجهةِ أزمةٍ اقتصادية حادّة تفاقمت بسبب عدم كفاءة نظام السيسي، أصبحت مصر تعتمدُ على التمويل من دولِ الخليج وعملياتِ الإنقاذ من صندوق النقد الدولي، مما حَدَّ من قدرة القاهرة على اعتمادِ نهجٍ أكثر حزمًا تجاهَ الصراعات الإقليمية. ومع تزايد المخاوف بشأن استقرار مصر، فإنَّ عجزَ القاهرة عن لُعبِ دورٍ جيوسياسي كبيرٍ يَخلُقُ حلقةً مُفرَغة ضارّة، ما يزيدُ من احتمالِ أن تؤدّي الفوضى المُحيطة بها إلى تفاقُمِ المشاكل الداخلية في مصر.

ليس من السهلِ تحديد اللحظة التي بدأت فيها مصر تَفقُدُ موقعها المُتَفَوِّق والمُتَمَيِّز الإقليمي. حقَّقَ عبد الناصر مكانةً قيادية عالمية خلال الحرب الباردة من خلال حركة عدم الانحياز وتحدّيه للتدخّل الإستعماري الفرنسي والبريطاني خلال أزمة السويس في العام 1956. لكن مغامرته العسكرية الفاشلة في اليمن وانهيار محاولته لتوحيد مصر مع سوريا في أوائل الستينيات الفائتة شكّلا أول انتكاسة كبيرة له. كما إنَّ الهزيمةَ المُذِلّة أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة في العام 1967 والنفوذ الاقتصادي المتنامي الذي حقّقته المملكة العربية السعودية والعراق والإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول المنتجة للنفط في العقد الذي تلا ذلك، قلّلا أيضًا من قدرة مصر على تشكيلِ النظام الإقليمي.

مع ذلك، تحت قيادة السادات، سمحت حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 إلى جانب ديبلوماسية الحرب الباردة الذكية تجاه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لمصر بالبقاء أحد اللاعبين المُهَيمِنين في الشرق الأوسط. ورُغمَ أنَّ معاهدةَ السلام مع إسرائيل التي توسّطت فيها الولايات المتحدة أدّت إلى اغتيال السادات على أيدي متطرّفين إسلاميين في العام 1980، فإنَّ إرثَه مَكّنَ مبارك من الاستمرار في مُمارسةِ نفوذٍ إقليمي كبير حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع إضعاف الفساد أسُسِ الدولة والاقتصاد في مصر.

على الرُغمِ من تفريغ المؤسّسات المصرية في ظل حكم مبارك الكليبتوقراطي، فضلًا عن القمع الوحشي للجماعات الجهادية وغيرها من التهديدات الأمنية خلال السنوات الثلاثين التي حكمها، فقد ترك نظامه مساحةً كافية للتعدّدية الاجتماعية للسماح بمشهدٍ ثقافي وإعلامي مُزدَهر ساعد على الحفاظ على استمرارية القوة الناعمة المصرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ونتيجةً لذلك، أدّى الشعورُ المستمر بأنَّ مصر لا تزال لاعبًا رئيسًا إلى توليدِ أملٍ واسعِ النطاق في أن تكون انتفاضة العام 2011 بمثابةِ تحوّلٍ في المنطقة بأكملها. وعلى الرُغم من الركود الذي شهده عهد مبارك، إلّا أنَّ مصر بقيت تتمتّعُ بما يكفي من النفوذ بعد سقوطه، الأمر الذي جعلَ الكثيرين من المُراقبين يأملون في أن تُصبحَ مصر الأكثر ديموقراطية ركيزةً للاستقرار الإقليمي.

تلاشى هذا الأملُ الوجيز في تموز (يوليو) 2013، بعد أن أطاح السيسي بخليفة مبارك، الرئيس السابق محمد مرسي، وحكومة مُنتَخبة ديموقراطيًا بقيادة جماعة “الإخوان المسلمين”. كان فَرضُ نظامٍ عسكري أكثر قمعية بكثير في عهد السيسي مما كان موجودًا في عهد السادات ومبارك بمثابة ضربةٍ أخيرة لتفوّق مصر وتميّزها الثقافي في المنطقة، والذي سرعان ما طغت عليه وسائل الإعلام المتمركزة في قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي الوقت نفسه، أدّى إنفاقُ نظام السيسي المُسرِف والسياسة الاقتصادية غير الكفوءة إلى تفاقم اعتماد الدولة المصرية المالي على دول مجلس التعاون الخليجي.

مع ذلك، حتى مع تراجع نفوذ القاهرة في جميع أنحاء المنطقة، استمرّت القوات المسلحة المصرية في الإسراف في الإنفاق، حيث حصلت على طائراتٍ حربية حديثة ودبابات وفرقاطات وحاملتَي طائرات هليكوبتر. من الناحية النظرية، فإنَّ القوة العسكرية الكبيرة المُتاحة لنظام السيسي زوّدته بالوسائل اللازمة للتعامل مع بؤر التوتر الجيوسياسية على حدود مصر. لكن من الناحية العملية، أدّت المخاطر السياسية المُحتَمَلة لعملية عسكرية فاشلة إلى تركيز نظام السيسي على توسيع الإمبراطورية التجارية الواسعة للجيش بدلًا من تطويرِ دورٍ ديبلوماسي وعسكري أكثر نشاطًا في الشؤون الإقليمية.

هذا التردّد في أخذ زمام المبادرة تفاقم بسبب المخاطر المُتَمَثِّلة في أنَّ القيامَ بدورٍ إقليمي أكثر نشاطًا قد يجذبُ عداءَ إيران ووكلائها وشركائها في جميع أنحاء المنطقة. ومع سعي المملكة العربية السعودية الآن إلى خفض التوتّرات مع طهران، فإنَّ أيَّ حكومةٍ مصرية ستُفَكّرُ مرّتين قبل الإقدام على ردودِ فعلٍ قوية تجاه الجماعات المتحالفة مع طهران، مثل الحوثيين، حتى عندما تُهدّدُ أفعالهم بشكلٍ مباشر المصالح الاستراتيجية للقاهرة، مثل استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر. علاوةً على ذلك، فإنَّ اتباعَ نَهجٍ أكثر نشاطًا يمكن أن يؤدّي أيضًا إلى تأجيج العداء المحلي تجاه القاهرة في ليبيا والسودان ودول أخرى حيث لا تزال الذكريات التاريخية لمحاولات الأنظمة المصرية السابقة للهَيمَنة ماثلة في الأذهان.

مع ذلك، يمكن للقاهرة أن تتبنّى نهجًا أكثر استباقية تجاهَ تصعيدِ الأزمات بدون تكرار أخطاء الأنظمة المصرية السابقة بالضرورة – أو الانصياع لخط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. بدلًا من ذلك، على افتراض أنها كانت قادرة على إصلاح الضرر الاقتصادي الناجم عن عدم كفاءة نظام السيسي، فإنَّ القيادة الجديدة التي تتمتع بشرعيةٍ شعبية أكبر ستكون في وضعٍ يُمَكّنها من إبراز القوة في جميع أنحاء المنطقة بطُرُقٍ تعكسُ حساسيةً استراتيجية مصرية مُمَيَّزة. ومن المرجح أيضًا أن تتعامل حكومة مصرية من نوعٍ مختلف مع بؤر التوتر مثل الصراعات في غزة والسودان وليبيا والبحر الأحمر بعنايةٍ أكبر من دول الخليج العربية، التي يعكس استعدادها لدعم المُستبدّين القتلة وقادة الميليشيات افتقارًا للقلق على مصير المدنيين.

إن مدى قدرة القاهرة على المساعدة في منع امتداد الصراع إلى مصر نفسها واضحٌ بشكلٍ صارخ عندما يتعلّقُ الأمرُ بهجومِ “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) على إسرائيل والحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة الذي أعقب ذلك. ومع اقتراح العناصر اليمينية المتطرفة في الحكومة والجيش الإسرائيليين علنًا الطردَ الجماعي للفلسطينيين من غزة إلى سيناء، فمن مصلحة القاهرة الذاتية ممارسة الضغط على إسرائيل -من خلال مشاركة ديبلوماسية رفيعة المستوى وشروط اقتصادية على مشاريع الطاقة المشتركة، بالتزامن مع الجهود الدولية الأوسع– لدفعِ الحكومة الإسرائيلية نحو نهجٍ أقل تدميرًا في غزة. ومن خلال القيام بذلك، لن تتمكّنَ القاهرة من إفادة المدنيين الفلسطينيين فحسب، بل يمكنها أيضًا تهدئة الاستياء الواسع النطاق بين الجمهور المصري بشأن التأثير الإنساني للحرب.

من الممكن أيضًا أن يكون لمصر الحازمة أكثر تأثيرٌ أعظم وأكثر إيجابية على الحرب الأهلية الكارثية في السودان، وذلك باستخدام نفوذها الاقتصادي وأجهزتها الاستخباراتية الواسعة للضغط على الجانبين للدخول في مفاوضاتٍ أكثر جدّية لإنهاء الصراع. وستكون لديها أيضًا الوسائل اللازمة لدفع دولة الإمارات إلى إنهاء عمليات نقل الأسلحة إلى قوات الدعم السريع التابعة لمحمد حمدان دقلو، والتي أدت إلى تصعيد الحرب. إنَّ المشاركة المصرية الأكثر فعالية لن تؤدّي إلى إنهاء القتال في السودان بطريقةٍ سحرية، ولكن الطريق نحو وقف التصعيد سيكون أكثر ترجيحًا إذا لعبت القاهرة دورًا أكثر نشاطًا في حلِّ الصراع.

وعندما يتعلّقُ الأمرُ بحماية الشحن في البحر الأحمر، فإنَّ الوجودَ البحري المصري الأكثر نشاطًا من شأنه أن يؤثّرَ في كيفية تعامل الجهات الفاعلة الأخرى مع الأمن البحري في المنطقة. إنَّ القاهرة التي لا تعتمد في المقام الأول على القوات البحرية الأميركية والأوروبية لتأمين الاقتراب من قناة السويس ستكون أكثر قدرةً على التأثير في الاستراتيجيات الغربية تجاه تهديداتٍ مثل الحوثيين، بما في ذلك السعي إلى استكمال الضغط العسكري من خلال المشاركة الديبلوماسية عبر القنوات الخلفية.

إن وجودَ حكومة جديدة في القاهرة على استعدادٍ لأن تكون أكثر حزمًا، بل وتتولّى في بعض الأحيان زمام المبادرة في الديبلوماسية الإقليمية، من شأنه أن يساعد أيضًا على تهدئة الإحباط الواسع النطاق بين الشعب المصري بسبب تقليص دور وحجم البلاد. هناك موضوعٌ مشترك في المناقشات المصرية حول الحرب في غزة، بالإضافة إلى الرعب من المستوى الهائل للخسائر في صفوف المدنيين، وهو الشعور السائد بالإهانة بسبب سلبية نظام السيسي وعدم رغبته في ممارسة ضغوط كبيرة على إسرائيل.

سوف يظلُّ التحوّلُ نحو استراتيجية مصرية أكثر حزمًا اللازمة للحفاظ على نظامٍ إقليمي مستقر أمرًا غير مرجح ما دام نظام السيسي غير الكفؤ لا يزال في السلطة. وبالتالي فإنَّ كيفية استبدال السيسي في نهاية المطاف والنظام الجديد الذي سيظهر في مصر بعد رحيله لن يكون حاسمًا فقط لتماسك الدولة والمجتمع في مصر، ولكن أيضًا لأيِّ فُرَصٍ لتحقيق شرق أوسط أكثر أمنًا وازدهارًا. بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، لا يمكن تحقيق شرق أوسط أكثر استقرارًا إلّا من خلال الشراكة مع مصر القوية، والتي تكون في بعض الأحيان مستعدة لقول لا.

  • ألكسندر كلاركسون هو محاضر في الدراسات الأوروبية في جامعة كينغز كوليدج في لندن. يستكشف بحثه تأثير مجتمعات الشتات العابرة للحدود الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945، وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام حدود الاتحاد الأوروبي في علاقاته مع الدول المجاورة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى