المالكي-الصدر: الجَدَلُ الحَقِيقِي!

محمّد قوّاص*

تدور تطوّراتُ العراق في السنوات الأخيرة على إيقاعِ الصراعِ الذي يجري بين التيّارات السياسية الشيعية. ولئن قامت العملية السياسية منذ العام 2003 على أساس ثُلاثية شيعيّة سنيّة كرديّة، إلّاأأن كلّ الحراك السياسي يقوم من دونِ لبسٍ حول عمود الشيعية السياسية الفقري والبوصلة التي تُحدّد وجهاته.

نهلت الشيعيّة السياسية عصبيتها من عامِلَين.

العامل الأول ديني، يَستوحي دينامياته من التراث الشيعي الفقهي والتاريخي والسياسي، ويتحرّك مُستندًا على “المرجعية” وإن كانت حائرة الموقع بين تلك التقليدية في النجف وتلك الراهنة سياسيًّا في قمّ.

العاملُ الثاني سياسي، يتأسّس على “مظلومية” تمّ الترويج طويلًا لحقيقتها حتى وصلت إلى مستوى البداهة، تنهل من خطاب يَحصُرُ عذابات ديكتاتورية صدام حسين بالشيعة وحدهم، مُهمّشّا شرائح طائفية وقومية وسياسية واسعة نال منها الاستبداد وأمعن في قمعها وضربها بسبب معارضتها، كما المعارضة الشيعية، للنظام الحاكم في بغداد.

لكن عاملَين آخرَين، خارجيَين هذه المرة، أسهما في إقامة العملية السياسية على قاعدة الخزّان الشيعي لا سيما ذلك الذي يمثّله الإسلام السياسي الشيعي.

الأوّل، الدعم الأميركي الواضح لـ”خيار الشيعة” منذ رعاية واشنطن لسلسلة من مؤتمرات المعارضة في مدن عديدة في العالم قبل سنواتٍ من غزوِ العام 2003. استند هذا الخيار أيضّا على مدرسة فكرية أميركية راجت بعد “11 أيلول/سبتمبر” ترى في الشيعة حليفًا وفي السنّة خطرًا استراتيجيًّا ما كان تنظيم “القاعدة” إلّا واجهة له. صحيحٌ أن فصائل ومُكوّنات عراقية معارضة مُتعدّدة الهويات كانت مُنخرطة في تلك المؤتمرات، لكن واشنطن (ولندن أيضًا) استثمرت بشكل راديكالي في دعمِ الشيعية السياسية وجعلها العماد الأول للتغيير في العراق.

الثاني، انخراط إيران المُفرِط والواسع والشامل بالإمساك بالعملية السياسية في العراق، والهَيمَنة على كافة مُكوّناتها داخل كافة الطوائف والقوميات. ولم تكتفِ طهران بدعم حلفائها وأتباعها، بل عملت، بالأمن والمال والفقه والعسكر، على جعل الأحزاب الشيعية الدينية امتدادًا لَصيقًا بالجمهورية الإسلامية والمُرشد الأعلى في طهران.

على أن الأطراف السياسية الشيعية، بالوجهَين الديني والمدني، والمُفترَض أنها متعدّدة متنافسة متناقضة، وجدت واجهتَين أساسيتَين للوحدة وتجاوز التناقضات وتهميش الخلافات.

الواجهة الأولى، هي مواجهة حكم البعث والحرص على عدم السماح باحتمال أي عودة للحزب الذي أطاح به غزو العام 2003، ومنع أيّ تسلّلٍ مُحتمل له داخل العملية السياسية المُستَحدثة، إلى النظام السياسي الجديد.

ورُغم أنه بات لحُكمِ العراق مصالح دولية وداخلية كبرى تفرض على الساسّة منطق التزاحم على المناصب والتحاصص، إلّا أن الهاجس من “عودة البعث” بقيَ رُعبًا حقيقيًا، يزعمونه أو يرونه واقعيًا واردًا، حتى وصل الأمر إلى حدّ الهوس وأسسوا لمكافحته كل الأدوات والقوانين والتدابير وجعلوا للأمر مؤسسة “اجتثاث”.

والواجهة الثانية، ليست بعيدة من الأولى وربما مُتناسلة منها، وتتعلّق بظهور تنظيم “داعش” في العام 2014.

دفعت “الكارثة” بالنُخب السياسية الشيعية بتجاوز أيّ خلاف، بما في ذلك تجاوز مسؤولية نوري المالكي وحكومته آنذاك عما حدث، وراحت كافة مُكوّنات الشيعية السياسية تتحالف وتتآلف لردّ الخطر الإرهابي، سواء في هويته السنية المزعومة أو في ما يُمثّله من أعراض “عودة البعث” بأدواتٍ وخطاباتٍ ونصوصٍ أخرى. وذهبت المكوّنات الشيعية جميعها إلى التدثّر بعباءة المرجعية في النجف، بشخص السيد علي السيستاني، والاحتماء بفتواه الشهيرة حول “الجهاد الكفائي” في حزيران (يونيو) 2014 التي شرّعت شيعيًا قيام “الحشد الشعبي”.

لكن ابتعاد الأخطار عن وجودية الشيعية السياسية، أعاد للشيعة في العراق حيوية مُتعدّدة الطبائع. فلا خلاف على أن “الثورة التشرينية” في العراق منذ العام 2019 والتي وحّدت مدنه ومناطقه وكافة شرائحه الاجتماعية، هي في أصلها ومادتها شيعية تعبّر عن غضب إجتماعي شيعي التحق بمظلوميات جرى التعبير عنها من شرائح عراقية أخرى قبل سنوات.

و “الثورة” بهذا السياق هي شيعية ضد سطوة يمارسها ساسَةٌ شيعة على الحكم، لدرجة أن الشارع لدى الطوائف الأخرى امتنع أو تحفّظ عن أي مشاركة في فعاليات ذلك الحراك مخافة أن تُشوِّه الحساسيات الطائفية من رسائله، وأن يفقد طابعه الشيعي الذي بات شرطًا لتخليص العراق من أزمته.

على هذا فإن أزمة العراق هذه الأيام هي مخاضٌ يدور متنه حول صراع شيعي-شيعي يتأثّر به المُكوِّنَين السنّي والكردي ولا يؤثّران فيه، لا بل يتقيّدان بمعادلاته وشيفراته ويَتمَوضعان بحذر حول مآلاته العتيدة.

وإذا ما تصدّع نفوذ إيران داخل الشارع العراقي وفق ما أظهرته “ثورة تشرين” إلى درجة أن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي لم يرَ بها إلّا “أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة”، فإن طهران ما زالت تملك نفوذًا على الشيعية السياسية في العراق، وإن كان هذا النفوذ يكاد يكون كاملًا لدى التيارات المنضوية داخل “الإطار التنسيقي” ويفقد كثيرًا من وهجه لدى أطرافٍ شيعية أخرى وفي مقدمها ما يمثله السيّد مقتدى الصدر وتياره لدى شيعة العراق.

في قلب الجدل داخل “البيت الشيعي” يمسّ النقاش دور ووظيفة إيران. تسريبات زعيم حزب الدعوة نوري المالكي تكشف عن دعوة لمزيد من ولاء الشيعة لإيران وتحديدًا للحرس الثوري هناك. فيما مناصرو الصدر يهتفون داخل المنطقة الخضراء “إيران بَرّا بَرّا”، تمامًا كما هتف الشيعة التشرينيون قبل سنوات.

والحال أن “الجدل الشيعي” بات مطلوبًا لمعالجة أزمة الحكم وعلّة النظام في العراق.

تتعامل طهران مع شيعتها في العراق من خلال إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. يدخل إلى العراق كما يتجوّل في أية محافظة إيرانية. وإذا ما يمثّل الصدر، وهو صديق لإيران، محاولة لبناء دولة عراقية مستقلة، ولو شكليًا ونسبيًا، عن قرار طهران، فإن إيران حريصة على عدم فقدان حضورها العراقي، وساهرةً على عدم تمتّع البلد بهذا المُكتَسب طالما أن البلد ورقة أساسية من أوراق إيران على موائد مداولات طهران مع الإقليم والعالم.

والواقع أن ديمومة نفوذ إيران في العراق يحتاج إلى بقاء شعور شيعة العراق بالخوف. وعلى الرغم من اندثار حكم البعث منذ عقدين وهيمنة الشيعية السياسية وحلفائها على الدولة ومؤسساتها، فإن التسريبات التي نُسبت إلى المالكي تكشف مدى الاستمرار في تسويق الخوف للشيعة من بعثٍ عائد، وجعل خلاصهم الوحيد هو الولاء والولائية بصفتهما خيارًا وجوديًا فقهيًا، يكاد يكون “حُسينيًّا”، للالتصاق بإيران وحرسِها ووليِّها الفقيه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى