حِساباتُ إيران في الحَربِ بَينَ إسرائيل و”حماس”

في العام 2015، توقّعَ آية الله علي خامنئي أن “إسرائيل سوف تختفي خلال 25 عامًا”. لن يكونَ المرشد الأعلى موجودًا في العام 2040 لمعرفة ما إذا كانت توقعاته قد تحققت، ولكن لا يوجد دليلٌ على أنه سيخاطر بنظامه -وعملية الخلافة التي طال انتظارها في طهران- من خلال توريط إيران في صراعٍ عسكري مباشر.

حركة “حماس”: مهمة لإيران ولكن…

أليكس فاتانكا*

مع احتدامِ الحَربِ بين إسرائيل وحركة “حماس” في غزّة، فإنَّ الدورَ الذي تلعبه إيران سيكون عاملًا مركزيًا. فطهران ليست أكبر عدوٍّ إقليمي للدولة العبرية فحسب، بل هي أيضًا المُزَوِّدُ الرئيس للمساعدات العسكرية والتدريب ل”حماس”. ونظرًا لمركزية إيران في حرب الشرق الأوسط الدائرة، فما هي نهاية اللعبة بالنسبة إلى طهران؟ إستنادًا إلى التصريحات الإيرانية منذ الهجوم المُميت الذي شنّته “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لا يبدو أنَّ نهاية اللعبة هذه قد أصبحت ثابتة. وكما هو الحال مع جميع أصحاب المصلحة في هذه الحرب، فإن حسابات طهران تتطوّر وتتشكّل من خلال الأحداث على الأرض في غزة.

لكن هناك حقيقتين أساسيتين واضحتين: ليست لدى إيران أيُّ نيّة للانخراط عسكريًا بشكلٍ مباشر في الحرب ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة إذا قرّرت واشنطن المشاركة. إن القيامَ بذلك سيكون ببساطة محفوفًا بالمخاطر للغاية بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية ومرشدها الأعلى البالغ من العمر 84 عامًا، آية الله علي خامنئي، الذي كانت “سقّالات” وهياكل نظامه مُهتَزّة في السنوات الأخيرة. بدلًا من ذلك، ترى طهران في هذه اللحظة فرصةً ذهبية لإثباتِ رؤيتها للمنطقة استنادًا إلى مفهوم “محور المقاومة”. وهذا بدوره يُعَدُّ رفضًا واضحًا لاتفاقيات أبراهام وفكرة اندماج إسرائيل في نسيج الشرق الأوسط.

تستطيع الولايات المتحدة، والغرب بشكلٍ عام، أن تفعل الكثير لتعزيز الأجندة الإيرانية عن غير قصد إذا فشلت في التوسط في الصراع بين إسرائيل و”حماس” على النحو الذي يأخذ في الاعتبار مطالب الجماهير العربية والإسلامية. وبعبارة مُلَطَّفة، فإن مفهومَ اتفاقيات أبراهام على المحك ولا أحد يريد رؤية زوالها أكثر من الجمهورية الإسلامية.

ما الذي تريده إيران وما لا تستطيع تحمّله وقبوله؟

في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، جلس علي خامنئي على منصّةٍ وعلّق على الحرب. كانت خلفه هناك ملصقاتٌ تحملُ صور سبعة علماء نوويين إيرانيين تم اغتيالهم بدايةً من العام 2010. ولطالما ألقت طهران باللوم على إسرائيل في هذه الاغتيالات وغيرها من أعمال التخريب على الأراضي الإيرانية. لم يكن تصميمُ المَشهد مَحض مصادفة. كانت رسالة خامنئي، على الأقل إلى الجمهور الإيراني، هي أنَّ إيران –من خلال دعمها ل”حماس” على مرِّ السنين– ردّت على إسرائيل. وكان ذلك جُزئيًا للإدعاء بالانتقام الناجح، وجُزئيًا لتذكير إسرائيل بأن إيران قادرة على الانتقام.

هل كانت هذه هي طريقة خامنئي لإخبار إسرائيل أن الخصمَين بحاجة إلى إعادة التفكير في حدودِ حَربِ الظل المستمرة منذ عقد من الزمن؟ هل هناك حاجة إلى إنشاء خطوط حمراء جديدة؟ ربما كان هذا هو القصد بشكلٍ جيد للغاية. وفي الوقت نفسه، منذ هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بذل خامنئي قصارى جهده لينكر مرارًا وتكرارًا أيّ دورٍ إيراني مباشر فيها. وقد يُشكّك في الحسابات الأميركية في ما يتعلق بالشرق الأوسط، وربما يشكك في شهية واشنطن للدخول في المعركة في حرب غزة، لكن خامنئي لا يقلل من شأن قوة الجيش الأميركي بمجرّد إطلاق العنان له.

فهل يرغب خامنئي في رؤية الولايات المتحدة تنجرُّ إلى حربٍ جديدة ومُكلفة ومفتوحة النهاية في المنطقة؟ هذا أمرٌ معقول للغاية، وربما هو شوقٌ يتقاسمه مع روسيا والصين وغيرهما من المنافسين الأميركيين. لكن أيًا من تلك الدول الأخرى ليست قريبة من “حماس” مثل إيران. إن المساحة الضيِّقة المُتاحة للجمهورية الإسلامية للإنكار تجعل من غير المُحتَمل أن ترغبَ في المخاطرة ببقائها السياسي لمجرّد مساعدة “حماس” في حربٍ أوسع تشمل الولايات المتحدة. في نهاية المطاف، فإنَّ كل استثمارات إيران في ما يسمى بمحور المقاومة والجيش وعقيدة “الدفاع الأمامي” ترتكز على فكرة بسيطة: أنَّ إيران أفضل حالًا في قتالِ خصومها خارج حدودها من خلال وكلاء مسلّحين موالين لها وليس على أراضيها.

لكن حتى رغبة إيران في المخاطرة ببقاء محور المقاومة العزيز عليها لا بدَّ من التشكيك فيها. لا تبدو إيران غير راغبة في الدخول في الحرب فحسب، بل إنها أيضًا غير راغبة في المخاطرة بمستقبل “حزب الله”، جوهرة التاج بين وكلائها العرب. هذا لا ينبغي أن يكون مفاجأة. إن أجندة إيران المناهضة لإسرائيل هي خطة لعب طويلة المدى، تهدف إلى إضعاف إسرائيل عسكريًا وديبلوماسيًا ونفسيًا على مدى سنوات وربما حتى عقود مقبلة.

وبالعودة إلى العام 2015، توقّعَ خامنئي أن “إسرائيل سوف تختفي وتزول خلال 25 عامًا”. لن يكون خامنئي موجودًا في العام 2040 لمعرفة ما إذا كانت توقعاته تحققت، ولكن لا يوجد دليلٌ على أنه سيخاطر بنظامه -وعملية الخلافة التي طال انتظارها في طهران- من خلال توريط إيران في صراعٍ عسكري مباشر من شأنه أن يلقي حتمًا بظلاله على الجمهورية الإسلامية. مفاجآت لن تكون مستعدة للتعامل معها، سواء في الداخل أو في المنطقة. وبدلًا من ذلك، يمكن لخامنئي ببساطة أن يزعم ويدّعي أن هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) كان بمثابة انتصارٍ استراتيجي على إسرائيل واللحظة التي وصلت فيها المنطقة إلى نقطة انعطاف.

ماذا بعد؟

من المرجح أن يقوم حلفاء إيران بالوكالة بإطلاق النار على إسرائيل وعلى القوات الأميركية، من وفي لبنان أو سوريا أو العراق، لكن طهران ستمتنع عن المخاطرة بمستقبل محور المقاومة، بما في ذلك ترسانة “حزب الله” التي تضم ما يقارب 150 ألف صاروخ وقذائف صاروخية تستهدف إسرائيل. لن تُطلقَ إيران قواتها الوكيلة إلّا إذا هاجمت الولايات المتحدة الأراضي الإيرانية، وهو أمرٌ غير وارد في الوقت الحالي. في الواقع، ستحاول طهران على الأكثر -من خلال ضربات “حزب الله” المحدودة على إسرائيل في الشمال- تشكيل حسابات إسرائيل وإقناعها بعدم اللجوء إلى “القضاء” على “حماس”.

في المدى الطويل، تُريد إيران إبقاء “حماس” في غزة كجُزءٍ من استراتيجية طهران لمحاصرة إسرائيل. ولكن إذا اضطرت إيران إلى الاختيار، فسوف تقبل القضاء على “حماس” من أجل الحفاظ على “حزب الله” وسلامته. ومرة أخرى، يرجع ذلك إلى أنَّ طهران تحتاج إلى الاحتفاظ ب”حزب الله” كرادعٍ استراتيجي ضد إسرائيل والولايات المتحدة في المدى الطويل.

وكما هو الحال بالفعل، ستتركز طاقات طهران الآن على الساحة الديبلوماسية، في المنطقة والعالم. سوف يستخدم الإيرانيون الحرب في غزة ليس فقط لتبرير مفهوم محور المقاومة، بل أيضًا للضغط على الدول العربية التي لديها، أو تستكشف فكرة تطبيع، العلاقات مع إسرائيل. وتحرص طهران بشدة على تحقيق هذا الهدف لدرجة أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي اتخذ الأسبوع الماضي خطوة غير معتادة بمكالمة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. من الصعب أن نغفلَ خطّ الصدع الأساسي: تتمثّل خطة اللعبة الإيرانية في سحب الدول العربية المعتدلة بعيدًا من الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين يفعل الأميركيون العكس تمامًا، على الرغم من النتائج المُتباينة في أحسن الأحوال حتى الآن.

أخيرًا، وكما أفادت مصادر إيرانية، حذّر الأميركيون إيران من سوء التقدير على جبهتين، الأمر الذي قد يؤدي إلى عمل عسكري أميركي. أولًا، يجب على طهران أن تتجنّب تقديم أي مساعدة عسكرية مباشرة ل”حماس” خلال هذه الحرب. ثانيًا، لا ينبغي لطهران أن تنظرَ إلى الحرب كغطاءٍ لتوسيع برنامجها النووي. إن إدارة بايدن حساسة للغاية تجاه الاتهام بأنها كانت متساهلة مع إيران. وهذا الواقع الأساسي سيشكل سياسة الرئيس جو بايدن تجاه إيران في الأسابيع والأشهر المقبلة. وسوف تحرص طهران على عدم تقديم حجة لبايدن بشأن الحاجة إلى موقف أميركي أكثر قوة وتشدّدًا تجاه الجمهورية الإسلامية.

على المستوى العالمي، تأتي الحرب في غزة في الوقت الذي تسعى روسيا والصين إلى إزاحة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط. وسوف يشككان، جنباً إلى جنب مع إيران وحلفائها، في مصداقية وكفاءة واشنطن كصانع قرار ووسيط. سيتم تقديم الولايات المتحدة كمصدرٍ لعدم الاستقرار، وستقوم روسيا والصين بالترويج لأنفسهما كحَكَمَين مُحايدَين بينما يبحث الشرق الأوسط عن حلٍّ سياسي للحرب. وكما قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي: “إن الافتقارَ إلى العدالة للشعب الفلسطيني هو في قلب هذا الصراع”.

منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، قررت موسكو وبكين، اللتان تربطهما علاقات وثيقة مع إسرائيل، التزامَ الصمت أو عدم التعبير عن مشاعر مؤيدة للفلسطينيين. ولا يرجع هذا إلى الموقف الجديد المناهض لإسرائيل في حد ذاته. إنها ببساطة خطوة انتهازية من جانب روسيا والصين لاستغلال هذه اللحظة لإظهار فشل السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. ما سيتفق عليه جميع أصحاب المصلحة من الأطراف الثلاثة – الولايات المتحدة، الأوروبيين، روسيا والصين وإيران- هو أن هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) داخل حدود إسرائيل قلبت الوضع الراهن وقواعد الاشتباك القائمة منذ عقود.

منذ تأسيس حركة “حماس” في العام 1987، خاضت معها إسرائيل ثمانية صراعات. ولم يمتد أيٌّ من تلك الصراعات إلى المنطقة الأوسع. واليوم لا تريد أي قوة إقليمية، بما في ذلك إيران، حربًا أوسع في الشرق الأوسط. والاختبار بالنسبة إلى واشنطن هو إدارة هذه الحرب سياسيًا في الداخل وديبلوماسيًا على الساحة الدولية. ويتعيّن على الولايات المتحدة أن تجد طُرُقًا خلّاقة لطمأنة إسرائيل والعالم الإسلامي بأنها قادرة على القيام بدور الوسيط المحايد في هذا الصراع. وإذا لم تفعل ذلك، فإنها ستوفّر فرصةً لروسيا والصين، وستساعد إيران على الإثبات بأنَّ محورَ المقاومة والكفاح المسلح هو المسار الوحيد القابل للتطبيق بالنسبة إلى الفلسطينيين.

  • أليكس فاتانكا هو خبير في الشؤون الإيرانية ومدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط. يمكن متابعته عبر تويتر (X) على: @AlexVatanka
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى