ما المَطلوبُ مِنَ القِمَّةِ العَرَبِيَّةِ المُقبِلة؟
الدكتور ناصيف حتي*
تُعقَدُ الدورةُ ال٣٣ للقمّةِ العربيةِ في البحرين يوم السادس عشر من الشهر الجاري. أمامَ القمّة، كما دَرَجَت العادةُ في تاريخِ القِمَمِ العربية، العديدُ من القضايا والمسائل القديمة، على الأقلّ بعناوينها ولو ليس دائمًا بمضامينها، وتلك الجديدة أو المُتَغَيِّرة أو الطارئة. تتناولُ هذه كلّها عادةً أولَوِيَّاتٍ مُشتَرَكة أو ضاغِطة على البعض، أو على الكُلّ، في مجالاتٍ مُختلفةٍ من الحياة السياسية العامة، بالمفهومِ الشاملِ لهذه، وفي الأُطُرِ العربية والإقليمية والدولية في خصوصياتها وترابُطِها وتداخلها. الكثيرُ من القراراتِ لا تأخذُ طريقها إلى التنفيذ، كما هو معروف، بسببِ طبيعتها إذ تؤكّدُ عادةً على مواقف ومبادىء عامة، أو تَحمُلُ مُناشداتٍ ودعواتٍ ولا تَحمُلُ عادةً قراراتٍ عمليّةٍ للتنفيذِ والمُتابَعة، مع التذكيرِ بالطبعِ أنَّ هناكَ العديدَ من الاستثناءات في تاريخِ القِمَمِ ولو أنّها تبقى قليلةً جدًا مُقارنةً مع ما أشرنا إليه من سمةٍ عامة لهذه القرارات في تاريخ جامعة الدول العربية .
يأتي انعقادُ القمّة هذه المرّة في خضَمِّ عودةِ القضية الفلسطينية، من بوّابةِ الحروبِ القائمة والمُترابِطة والتي تزدادُ سخونةً كلّ يوم، إلى احتلالِ موقعِ الصدارة على جَدوَلِ الأولَويّاتِ الإقليمية الضاغطة والساخنة في المنطقة. حروبٌ تحمُلُ تداعياتٍ على الأمنِ والاستقرارِ في الإقليم، الأمرُ الذي يَطالُ مصالِحَ الجميع ولو في أوقاتٍ ودرجاتٍ مختلفة ومُتفاوِتة. حربُ إلغاءٍ تقومُ بها إسرائيل ضدّ القضية الفلسطينية في الأراضي المحتلة وخارجها كقضيّةِ تحريرٍ وطني، تُقابلها استراتيجية “وحدة الساحات”، مما يجعلُ هذه الحرب المفتوحة في الزمان والمكان تمتدُّ من شاطىء البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر. من المُرجَّحِ إننا أمامَ تَبَلوُرِ مَشهَدٍ إقليمي قوامُه حربُ استنزافٍ مُمتدّة في الزمان والمكان تشهَدُ تصعيدًا، وقد تشهَدُ أحيانًا تخفيضًا، ضمنَ قواعد اشتباكٍ قائمة أو أُخرى جديدة أو مُتَجَدِّدة مع مخاطر الانزلاق دائمًا نحو حربٍ مفتوحة تطالُ تداعياتها الجميع .
في هذا السياق، أمامَ الحديثِ عن هُدَنٍ مُوَقَّتة للتوصّلِ يومًا إلى وَقفِ إطلاقِ النار، يبقى من الصعب، إن لم يكن من المُستحيل، تحقيقُ ذلك مع الأهدافِ المُرتَفعةِ السقف التي وضعتها إسرائيل، سواء في ما يتعلق بغزّة بشكلٍ خاص، أو على الجبهة الشمالية (جبهة لبنان) وقرارها برَفضِ العودة إلى الوَضعِ الذي كان سائدًا قبل الحرب وكان ناظِمًا للوَضعِ على الحدود. صحيحٌ أنَّ الحروبَ أحيانًا هي جُزءٌ من عمليةِ التفاوضِ على الأرض، وذلك قبل التفاوض ولو غير المباشر حول الطاولة، ولكنها تحملُ خطورةَ الاستمرارِ والتصعيدِ والتوسّعِ والانزلاق أيضًا نحو حربٍ مفتوحة قد لا يُريدُها أحدٌ، إذا لم يَتِمّ التوصّل إلى سلّةِ الحلِّ المُؤقَّت ولو تحت عنوان الحلّ الدائم أحيانًا، ولكنه الهشّ والقابل للسقوط إذا ما تغيَّرَت التوازنات أو تغيّرت الأهداف والأولويات عند الأطرافِ المَعنيّة .
قرارُ الجمعية العامة للأُمم المتحدة، يوم الجمعة الفائت، باعتبارِ فلسطين دولةً مُؤهَّلةً وفقًا للمادة ٤ من ميثاق الأُمم المتحدة لتكون دولةً عضوًا في الأُمم المتحدة ومنحها حقوقًا واعتباراتٍ إضافية، على أساسٍ استثنائي، لتعزيزِ مشاركتها في دوراتِ وأعمالِ الجمعية العامة للأُمم المتحدة، ومُطالبة مجلس الأمن الدولي بإعادةِ النظرِ في رفضهِ لعضوية فلسطين (الفيتو الأميركي تحديدًا)، والدعم الواسع للطلب الفلسطيني المدعوم عربيًا، ثم التاييد الواسع الذي حظي به هذا القرار شكّل انتصارًا معنويًا يجبُ البناءُ عليه وتعزيزه. وعلى صعيدٍ آخر، بذلت اللجنة السداسية العربية، وما زالت، جهودًا كبيرة في هذا المجال لإعادةِ إحياءِ عملية السلام على أساسِ حلِّ الدولتين.
أمامَ هذه المُعطيات كافة، يُصبحُ أكثر من الضروري على القمّة أن تُبلوِرَ استراتيجيةَ تحرّكٍ عربي على مستوى القادة. تَحَرُّكٌ يَضُمُّ دولَ السُداسية وغيرها من الدول التي ترغَبُ في المشاركة. تحرُّكٌ على مستوى القمّة، لما يُشَكِّلهُ ذلك من رسالة، نحو عواصم الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي والقوى الدولية الأُخرى، إلى جانبِ تجمّعاتٍ إقليميةٍ أساسية مثل الإتحاد الأوروبي.
على القمّة أن تُبَلوِرَ هذه المُعطَيات الجديدة والمطالبَ المطروحة عربيًا (مثل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وانضمامها للأُممِ المتَّحدة) والتحرّك لعَقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ للسلام عنوانهُ حَلّ الدولتين والسلام الشامل، ورسم خريطة طريق لذلك الأمر،.بالاشتراك مع الأطراف والقوى الدولية المعنية والفاعلة. لن يكونَ الرفضُ الإسرائيلي لهذا التحرّك/ المبادرة مُفاجِئًا. ولكن بقدرِ ما تكونُ هناكَ مِصداقيةٌ دولية لهذا التحرّك بازدياد عددِ الأطراف الدولية المُنضَمَّة إليه، تحت عنوان تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة ومبادرة السلام العربية المُرتَكِزة على هذه القرارات ومؤتمر دولي لبلورة خريطة طريق للسلام الشامل القائم على حلِّ الدولتين، بقدرِ ما سيضعفُ الموقف الاسرائيلي الرافض للسلام.
إنَّ أركانَ المبادرة الديبلوماسية العربية العملية التي يُفتَرَضُ أن تَنبثقَ عن القمّة هو العمل على وَقفِ إطلاق النار الدائم، إجراءات بناء الثقة أو ما يُعرَفُ بتبريدِ الجبهات، إطلاق المؤتمر الدولي للسلام على الأُسس والمرجعيات المُشار إليها والمعروفة، ورسم خريطة طريق وووضع جدولٍ زمني واضحٍ ولو مَرِن نحو السلام. السلامُ الذي يؤكّدُ المؤتمرُ الدولي على أركانه وهو حلّ الدولتين وإنهاء الاحتلال للأراضي العربية المحتلة. .طريقٌ ليس بالسهلِ وُلوجه والوصول إلى نهايته المطلوبة بسبب التعنّتِ الإسرائيلي ولكنه الطريقُ الوحيد، الذي دونه العديد من العقبات للوصولِ إلى السلامِ العادل والشامل والدائم، إذ لن تستطيعَ إسرائيل أن تُواجِهَ بشكلٍ مُستَمِرٍّ موقفًا دوليًّا شاملًا وواضحًا وصارمًا يُوَفِّرُ الطريقَ الوحيد لولوج السلام وليس الرهان على الأوهام، أوهام القوّة. فبناءُ الجسور إلى منتصف النهر وسياسات التهدئة والمراهم وأنصاف الحلول، أو الحلول المُجتَزَأة، تؤدي إلى تأجيل الانفجار والحروب المختلفة الدرجات والحدّة.
خلاصةُ الأمر، إنَّ طريقَ السلام الذي أشرنا إلى خريطته، وإلى المسؤولية العربية في إطلاقه عمليًا، أمامه الكثير من العوائق والمصاعب، ولكنه بمبادرةٍ عربيةٍ-دولية يُمكِنُ أن يَصِلَ إلى تحقيقِ الأهدافِ المنشودة، وهي أهدافٌ واقعية لحَلِّ الصراع، وشرعيةٌ إذ تستندُ إلى القرارات الدولية ذات الصلة وإلى الدعمِ الفعلي، وبالتالي الفعّال، للقوى الدولية المَعنية بالاستقرار والسلام في الشرق الاوسط. مبادرةٌ ننتظرُ أن تُبصِرَ النور وتنطلقُ بحَزمٍ وعَزمٍ من القمة العربية في البحرين.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).