هل الرَدعُ النووي حقيقةٌ أم وَهْم؟
بول بوست*
اجتذَبَ الخطابُ الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيرًا في جامعة السوربون حَولَ رؤيته للاتحاد الأوروبي، فضلًا عن مقابلته اللاحقة مع مجلة “إيكونوميست”، قدرًا كبيرًا من الاهتمام – كما كان ماكرون يَهدُفُ ويُريد. وقد حَذَّرَ في المناسبة من أنَّ “أوروبا يمكن أن تموت”، وأعرب عن شعوره بضرورة هزيمة روسيا في أوكرانيا مهما كان الثمن، حتى إنه لم يستبعد إرسالَ قواتٍ فرنسية إلى هناك لدَعمِ كييف.
وبينما تصدّرت هذه التعليقات عناوين الأخبار، هناكَ موضوعٌ آخر تطرّق إليه الرئيس الفرنسي يستحقُّ المزيدَ من الاهتمام: الأسلحة النووية.
في خطابِهِ في جامعة السوربون، قال ماكرون: “إنَّ الردعَ النووي يقع في قلب استراتيجية فرنسا الدفاعية. ولذلك فهو عنصرٌ أساسي في الدفاع عن القارة الأوروبية”. وفي المقابلة التي أجرتها معه مجلة “إيكونوميست”، أوضَحَ ماكرون وجهةَ نظره بشكلٍ أكثر وضوحًا، قائلًا إنه على استعدادٍ لجعلِ الأسلحةِ النووية الفرنسية مُتاحة لحماية أوروبا بأكملها. حتى أنَّ ماكرون استشهَدَ بالرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، الذي كان في أواخر الثمانينيات أكّدَ لنظيره الألماني الغربي، المستشار هيلموت كول آنذاك، أنَّ ترسانةَ فرنسا يمكن أن تكون “الرادع النووي لأوروبا”، في محاولةٍ لإقناعِهِ برَفضِ الأسلحة النووية الأميركية المُنَتشِرة في القارة.
إذا لم تكن تعليقاتُ ماكرون كافيةً لرَفعِ المخاطر النووية في أوروبا، فقد أعلنت روسيا أنها ستُجري سلسلةً من التدريبات لمُحاكاةِ استخدام ما يُسَمَّى بالأسلحة النووية التكتيكية أو أسلحة ساحة المعركة في أوكرانيا. وكانت هذه التدريبات ردًّا مباشرًا على اقتراحِ ماكرون بنشرِ قواتٍ فرنسية على الأرض في كييف، وكانت مثالًا آخر على التهديد النووي الروسي من أجلِ وَقفِ وثَني المزيد من الدَعمِ الغربي لكييف.
كلُّ هذا يُثيرُ سؤالًا جوهريًا، سؤالٌ يذهب إلى ما هو أبعد من ماكرون وفرنسا وروسيا والأمن الأوروبي: هل الأسلحة النووية هي في الواقع رادعٌ فعّال؟ قبلَ بضعةِ أسابيع فقط، وفي أعقابِ هجومٍ واسع النطاق بالصواريخ والطائرات المُسَيَّرة شنّته إيران على إسرائيل، سلَّطَ نشطاءُ نَزعِ السلاح الضوءَ على كَيفَ أنَّ سلوكَ إيران –أي استعدادها لمهاجمةِ دولةٍ معروفةٍ بامتلاكها أسلحة نووية- يُكَذِّبُ ويَدحَضُ فكرةَ أنَّ امتلاكَ أسلحةٍ نووية يُسَهِّلُ الردع.
إنَّ الدولَ التي تمتلك أسلحةً نووية قد تمتنعُ عن شنِّ هجماتٍ نووية واسعة النطاق ضدّ بعضها البعض، لأنها تعلم أنَّ القيامَ بذلك من شأنه أن يستدعي ردودَ فعلٍ ضخمة بالقدرِ نفسه. لا شكَّ أن هذا السيناريو المُتَطَرِّف المُتَمثِّل في “التدميرِ المُؤكَّد المُتبادَل” كان مصدرَ قلقٍ للكثيرين خلال الحرب الباردة. ولكن ماذا عن السيناريو الذي يقلُّ كثيرًا عن هذه العتبة؟ فماذا لو، على سبيلِ المثال، شنَّ بوتين ضربةً نووية على أوكرانيا باستخدامِ سلاحٍ واحدٍ مُنخَفِض القوة؟ هل تكون الولايات المتحدة، وهي المزوِّد الرئيس لـ”المظلّة النووية” لحلف شمال الأطلسي، مُستَعِدَّة للسماح بضربةٍ انتقامية عينية؟ الشكوكُ التي يُثيرُها مثل هذا السيناريو تجعلُ من المعقول تمامًا التشكيك في فعاليةِ الرَدعِ للأسلحة النووية.
بشكلٍ عام، فإنَّ تقييمَ مصداقية الردع للأسلحة النووية، أو الردع بشكلٍ عام، أمرٌ صعبٌ للغاية. وذلك لأننا لا نُلاحِظُ الردعَ أبدًا. ولا نلاحظُ إلّا فشل الردع. عندما هاجمت روسيا أوكرانيا، سواءَ في العام 2014 عندما استولت في البداية على شبه جزيرة القرم، أو في العام 2022 عندما شنّت غزوًا واسع النطاق للبلاد، فمن الواضح أنه لم يتم ردعها.
لكن لنَفتَرِض وجودَ جدولٍ زمني اختارت فيه روسيا عدم مهاجمة أوكرانيا في أيٍّ من الحالتين. سيكونُ من الصعبِ معرفة سبب اتِّخاذ موسكو هذا القرار. ربما كان ذلك بسبب المخاوف من ضربةٍ انتقامية من قبل بعض دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أي الردع. في نهاية المطاف، كان “الناتو” ضَمَنَ رسميًا في العام 2008 أن أوكرانيا سوف تُصبِحُ ذات يومٍ عضوًا في الحلف. وكان بعضُ أعضاء الحلف، وفقًا لمذكرة بودابست لعام 1994، مُلزَمًا في هذه الحالة بحمايةِ سلامة أراضيها.
لكن في مثل هذا السيناريو، ربما امتنعت روسيا عن مهاجمة أوكرانيا لمجرّدِ أنَّ موسكو، وعلى وجه التحديد بوتين، لم يكن لديه الرغبة في الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية، على الأقل ليس في ذلك الوقت. والمشكلة هي أنَّ الخوفَ من الانتقامِ وعدم الاهتمام غالبًا ما يكونُ من المستحيل التمييز بينهما من خلال مراقبة سلوك الدولة. رسميًا، يشيرُ خبراءُ السياسة الدولية إلى هذا باسم “تأثيرات الاختيار”.
إن “تأثيرات الاختيار” تجعلُ تقييم الردع النووي صعبًا بما فيه الكفاية. لكن هناكَ صعوبة أخرى في تقييم القيمة الردعية للأسلحة النووية، وهي صعوبةٌ خاصة بالأسلحة النووية: فهي لم تُستَخدَم في الحرب إلّا مرتين. لقد كان إلقاءُ القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية مأساة، لكنها مأساةٌ لم تتكرّر. وقد أشارت الباحثة الأكاديمية الأميركية في العلوم السياسية نينا تانينوالد في عبارتها الشهيرة إلى ما أسمته “المحرّمات النووية” ــ فكرة مفادها أنَّ القوة التدميرية الهائلة والعشوائية التي تتمتّع بها هذه الأسلحة تضع استخدامها خارج حدود الأخلاق — لتفسيرِ وشرح لماذا كان هذا هو الحال.
لكن ما يُعتَبَرُ خبرًا جيدًا للبشرية، يُعَدُّ خبرًا سيئًا للعِلم. إنَّ عَدَمَ وجودِ حالاتٍ تاريخية منذ العام 1945 يجعلُ من الصَعبِ معرفة الظروف الدقيقة التي سيمضي في ظلها قادة الدولة نحو إطلاقِ سلاحٍ نووي. نحنُ نعلم أن القادة قد فكّروا في استخدام الأسلحة النووية كخيارٍ أثناء الأزمات، وأنَّ البشرية قد اقتربت بشكلٍ غير مريح من الإطلاق الفعلي للأسلحة النووية. ولكن بدلًا من الإشارة إلى أنَّ عدم استخدامها كان بسبب أن استخدامها من المحرّمات، فقد يكون ذلك ببساطة بسببِ الحظّ الغبي.
إنَّ عدمَ اليقين بشأن عدم استخدام الأسلحة النووية يُشكّلُ أهميةً كبيرة، لأنه يعني أنَّ الافتراضات كثيرًا ما تُشَكّلُ فهمنا للسياسة العالمية. يستشهدُ بعض المراقبين بحقيقة أن العالم تجنّبَ الحرب النووية منذ العام 1945 كدليلٍ لصالحِ استخدامِ الأسلحة النووية كرادع. ويذهب البعض إلى حدِّ الزعم بأنَّ الأسلحة النووية مسؤولة عن “سلامٍ طويل الأمد” بل وحتى عن “تراجُعِ الحرب”. يدّعي البعض، مثل الباحث البارز في العلاقات الدولية كينيث والتز، أنَّ عدمَ الاستخدام النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة يشيرُ إلى أنه ينبغي علينا في الواقع تشجيع الدول الأخرى على امتلاك القنبلة النووية وخَلقِ عالمٍ حيث الجميع يردعُ الجميع بشكلٍ فعّال.
لكن كما إنَّ عدم استخدام الأسلحة النووية في الحرب منذ العام 1945 قد يكون راجعًا إلى الحظ، فإنَّ ما يُسَمّى بالسلام الطويل قد يكون راجعًا إلى ما هو أكثر من مجرد الأسلحة النووية. لقد عرفت حقبة ما بعد الحرب الباردة انتشارًا للديموقراطية وتوسُّعًا في التجارة. وشهدت اعتماد الحظر المعياري والقانوني ضد استخدام القوة. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ السلامَ الطويل الأمد “مُفرِط التحديد”، وبالتالي، من الصعب التحديد الدقيق إلى أيِّ مدى يرجع ذلك بالفعل إلى الردع النووي الفعّال مُقارنةً بكلِّ هذه العوامل الإضافية.
وفيما هناك أسبابٌ مُتعدِّدة للسلام، هناكَ أيضًا أسبابٌ مُتعدّدة للردع. عندما تُحاوِلُ الدولُ ردعَ بعضها البعض، نادرًا ما تكون الأسلحة النووية هي العامل الوحيد. وحتى عندما حاول الباحثون تحديد تأثير الأسلحة النووية، بمعنى أكثر محدودية ومحلية، في قلب ميزان القوى وخلق الردع، فكان من الصعب مرة أخرى تمييز تأثير الأسلحة النووية عن العوامل الأخرى التي تُعزّز الردع. ولنتأمل هنا كوريا الشمالية. من غير الواضح ما إذا كان امتلاك قنبلة نووية ضروريًا لأمن كوريا الشمالية، نظرًا لحشد جيشها الضخم على حدودها مع الجنوب وعشرات الآلاف من الصواريخ التقليدية التي تستهدف سيول، على بُعدِ 30 ميلًا فقط. إنَّ اندلاعَ الحرب في شبه الجزيرة الكورية سيكون مُدمِّرًا ــ وبالتالي ينبغي تجنّبه ــ حتى لو لم تحصل بيونغ يانغ على السلاح النهائي أبدًا.
باختصار، إنَّ القيمة الردعية للأسلحة النووية غير مُثبَتة وغير قابلة للإثبات في كثيرٍ من النواحي، ما يجعلها في نهايةِ المطاف مقامرة. فقد يضع ماكرون الأسلحة النووية في قلب الأمن الفرنسي والأوروبي، وقد يعتمد عليها بوتين لإخافة الغرب. ولكن في كلتا الحالتين، يُراهنُ الطرفان على أنَّ الآخرين سوف يتراجعون بسبب الخوف من القوة التدميرية للأسلحة النووية. وقد يكون هذا الرهان صحيحًا. ولكنه أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، لأنه من الصعب أن نعرفَ ما إذا كانت الأسلحة النووية هي حقًا أداةً للإرهاب، أو أداةً للسلام من خلال الإرهاب، أم أنها مجرّد أداةٍ لا طائل من ورائها.
- بول بوست هو أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو وزميل غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.