إذا تحوَّلَ قطاعُ غزّة إلى منطقةٍ غير قابلةٍ للحُكم فإنَّ “اليومَ التالي” قد لا يأتي أبدًا
إن هدف إسرائيل المُعلَن هو تدمير حركة “حماس”، ُمتجاهلةً بأنه من دون الاستقرار الأساسي في فترة ما بعد الحرب، فإنَّ “اليوم التالي” قد لا يأتي أبدًا.
دانا سترول*
في أوائل نيسان (أبريل)، وفي الشهر السابع من الحملة التي تشنّها إسرائيل لتفكيك حركة “حماس”، سحب الجيش الإسرائيلي غالبية قواته البرّية من قطاع غزة، تاركًا لواءً واحدًا فقط في الجُزءِ الأوسط منه. وشمل ذلك سحب القوات الإسرائيلية من خان يونس، المنطقة المُترامية الأطراف في جنوب غزة والتي يَعتقدُ مسؤولو المخابرات الأميركية أنَّ زعيمَ “حماس” يحيى السنوار يختبئ في شبكةِ أنفاقٍ واسعة النطاق تحتها. وفي تفسيرٍ لقرارِ سَحبِ هؤلاء الجنود، أشار المسؤولون الإسرائيليون إلى نجاحِ حملتهم العسكرية في تدمير 18 كتيبة من أصل 24 كتيبة تابعة ل”حماس”. كما إنَّ القوات الإسرائيلية تحتاج إلى وقتٍ للراحة قبل العودة إلى رفح في أقصى جنوب غزة لتفكيك كتائب “حماس” الأربع المُتمركزة هناك. لأسابيع عدة، لم تُهَيمِن على الحياة اليومية في غزة الغارات الجوية المستمرّة ومناورات القوات البرية، ولكن لا المنظمات الإنسانية ولا المدنيين يعرفون أين يبحثون عن الأمن الأساسي، إذ لا أحدَ يُديرُ غزة.
لهذا السبب يُشيرُ بعضُ مسؤولي الأمم المتحدة الآن إلى غزّة بأنّها “مقديشو على البحر الأبيض المتوسط”. وفي بعض المناطق، تقوم فلولُ الوزارات التي تديرها “حماس” بتقديمِ الخدمات أو تحويل المساعدات الإنسانية، بينما في مناطق أخرى تقومُ الشبكاتُ الإجرامية بنهبها ثم توزيعها. في أماكن أخرى، تتعاقد المجتمعات المحلية والجماعات الإنسانية مع جماعاتٍ مسلّحة أخرى غير “حماس” لتوفير الأمن. إنَّ غزة أضحت عبارة عن مساحة غير خاضعة للحُكم، حيث تتجذّرُ هياكل سلطة موازية ومتنافسة. لقد ظهرت بالفعل الظروف الملائمة لعدم الاستقرار في المدى الطويل.
في الشهر نفسه الذي انتشر خلاله انعدامُ القانون بشكلٍ عام في جميع أنحاء القطاع، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أنَّ الشركات الاستشارية ووكالات التنمية والمؤسّسات المالية قد بدأت جهودَ تخطيطٍ مُوَسَّعة لإعادة إعمار غزة. عُقِدَت محادثاتٌ في لندن في كانون الأول (ديسمبر) 2023، جمعت خبراء تنمية وممثلين عن القطاع الخاص ومُموِّلين دوليين لرسم مستقبل بديل لغزة. وبموجب هذه الخطة، سيكون لغزة ميناءٌ للمياه العميقة، وعملةٌ خاصة بها، وملعبٌ لكرة القدم. ولكن الأمور الأساسية ــ بما في ذلك ضمان عدم اضطلاع “حماس” بأيِّ دور في هذا الاقتصاد الحديث، وإنشاء إطار سياسي للحكم، وتحديد علاقة غزة بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ــ لم تتم مناقشتها. في هذه الأثناء، ترفضُ إسرائيل التخطيط لما سيحدث بعد انسحاب قواتها من غزة.
إنَّ ندرةَ الحلول الواقعية ل”اليوم التالي” في غزة تعكسُ غيابًا أكثر إثارةً للقلق للتخطيط. في الواقع، يُركّز المراقبون انتباههم على اليوم الخطَإِ. الأمرُ الأكثر أهمية هو “اليوم الفاصل”، عندما تكون هناك حاجة إلى تدفّق الدعم والخدمات المدنية بما يتجاوز المساعدات الإنسانية الطارئة، حتى مع استمرار العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي. وهذا الدعم –الذي سيتطلّبُ عزيمةً سياسية إسرائيلية للتخطيط وتحديد أولويات الفلسطينيين، إلى جانب الخبرة والتمويل الدوليين– سيكون حاسمًا لضمان عدم إضاعة “اليوم الفاصل”.
في الأفق
عندما يتحدّثُ المسؤولون والمعلقون عن “اليوم التالي”، فإنهم يشيرون إلى الفترة الزمنية التي تلي إنهاء إسرائيل لعملياتها العسكرية النشطة لتفكيك البنية التحتية العسكرية ل”حماس”. في سيناريو “اليوم التالي” هذا، من المتوقع أن يكون الجيش الإسرائيلي قد نجح فعليًا في تدمير “حماس” ككيانٍ مُنَظَّم، مما يتركها غير قادرة على حُكمِ قطاع غزة. ومن المتوقع أيضًا أن يكونَ هناك اتفاقٌ مقبولٌ لدى العواصم العربية وإسرائيل والولايات المتحدة والهيئات الدولية، لإنشاءِ قوةٍ أمنية على الأرض، وإطارٍ لحُكمٍ لا وجود فيه ل”حماس”، وخطة لزيادة إيصال المساعدات الإنسانية، والتوزيع والتمويل لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار.
تتطلَّبُ مثل هذه الخطة الطموحة لغزة ما بعد الحرب تخطيطًا وتسلسلًا تفصيليًا، وتنسيقًا مدنيًا عسكريًا، ودعمًا دوليًا كان ينبغي أن يبدأ بالتزامن مع حملة الجيش الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول (أكتوبر) 2023. لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تجنَّبَ عمدًا هذا النوع من التخطيط. معتبرًا إياه تنازُلًا يُخفّفُ الضغطَ على “حماس”. ومع ذلك، لا ينبغي لهذا أن يمنع إسرائيل من التخطيط لـ “اليوم الفاصل” – أو ما تشير إليه مؤسسات أبحاث مثل “راند” (RAND) بـ”الساعة الذهبية”. هذه هي فترة الأسابيع والأشهر التي تلي انتهاء العمليات العسكرية النشطة مباشرة، ولكن قبل بدء عملية إعادة الإعمار في المدى الطويل. تُعتَبَرُ هذه الفترة القصيرة حاسمة لأنها تضع التعافي بعد انتهاء الصراع على مسارٍ إيجابي أو سلبي.
التاريخُ الحديثُ مليءٌ بأمثلة على الفشل في التخطيط لهذه الفترة، ما ساهمَ بشكلٍ مُباشِرٍ في اغتنامِ الجهات الفاعلة السيِّئة الفُرَص، وتسريعِ عمليّاتِ التمرُّد، وتمكينِ الإرهاب، وإشعالِ دوراتٍ إضافية من العنف. ويُدرِكُ المسؤولون الأميركيون مدى صعوبة تحقيق الاستقرار بشكلٍ فعّال في مُجتمعِ ما بعد الصراع ومنع التمرّد. ولتحقيق هذه الغاية، عرضت وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتان مرارًا وتكرارًا تبادل الدروس المستفادة وأفضل الممارسات مع نظرائهما في إسرائيل. لم ترفض الدولة العبرية التعلُّم من هذه المعرفة والخبرة بشأن تسلسل الأنشطة لمَنعِ أسوَإِ النتائج لمجتمعات ما بعد الصراع فحسب، بل يبدو أيضًا أنها تسير على الطريق لتكرار الأخطاء نفسها.
خبرةٌ غير مُستَغلّة
هناكَ مجموعةٌ واسعة من الدراسات التي يسهل الوصول إليها والتي تُركّزُ على التعلُّم من الإخفاقات الماضية في التخطيطِ لأنشطة ما بعد الصراع. والذي يجعل الأمر أكثر لفتًا للانتباه هو أن المناقشات حول غزة ما بعد “حماس” ما زالت مُتخلّفة إلى حدٍّ كبير. لقد وفَّرَت تجارب الولايات المتحدة والأمم المتحدة في الصومال في العام 1992، وهايتي في العام 1994، والبوسنة في العام 1995، وكوسوفو في العام 1999، وأفغانستان في العام 2001، والعراق في العام 2003، خبراتٍ ومعلوماتٍ قَيِّمَةٍ للمنظّمات الدولية، والجماعات غير الحكومية، والإدارة الأميركية. وخصّصت هذه المنظمات والهيئات وقتًا وموارد كبيرة لإعادة هيكلة جهود التخطيط، وتدريب الموظفين، وتوثيق القرارات، أو عدم اتخاذ القرارات، التي أدت إلى نتائج غير ناجحة عند السعي إلى تحقيق الاستقرار وإعادة بناء المجتمعات بعد الصراعات القاتلة.
في ذروة الحروب في العراق وأفغانستان، على سبيل المثال، عندما فشلت القوات الأميركية في التخطيط لحركات التمرّد المُسَلَّحة والفراغ في الحكم، ركّزت الهيئات التي تُموّلها الحكومة الأميركية على ضمانِ تعلُّم الدروس. منذ العام 2005، قام المعهد الأميركي للسلام (USIP) بتشكيل مجموعةٍ من الخبراء المدنيين والعسكريين في الأزمات الإنسانية وجهود الإغاثة والإنعاش. لقد جادلت هذه المجموعة بشكلٍ مُقنِعٍ بأنَّ الأفرادَ العسكريين النظاميين هم مقاتلو حرب، وليسوا بُناةَ سلام – على الرُغمِ من أنهم كثيرًا ما يجدون أنفسهم مسؤولين عن أنشطة ما بعد الحرب قبل وصول العمال المدنيين إلى الأرض. والمشكلة هي أنَّ هؤلاء المدنيين لا يتم تضمينهم في التخطيط القتالي، مما يتركهم يحاولون إدخال أنفسهم في تسلسل القيادة العسكرية لإدارة الأنشطة غير العسكرية بطبيعتها. في العام 2009، أصدر معهد السلام الأميركي دليلًا بعنوان “المبادئ التوجيهية لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار”. ويُجادِلُ هذا الدليل بأنَّ المدنيين يفتقرون إلى العقيدة وخرائط الطريق للعمل في السياق الفريد لبيئاتِ ما بعد الصراع جنبًا إلى جنب مع القوات العسكرية العاملة. في العام 2011، افتتح معهد السلام الأميركي أكاديمية إدارة النزاعات الدولية وبناء السلام لتقديم التدريب المستمر لموظفي الحكومة الأميركية، حتى لا تتكرّر إخفاقات الماضي.
في العام 2004، أدركت وزارة الخارجية الأميركية أنَّ موظّفيها يفتقرون إلى المعرفة والمهارات اللازمتَين لإدارة الديبلوماسية والتنمية والتنسيق العسكري بشكلٍ فعّال في حالاتِ ما بعدَ الصراع، وفتحت كيانًا جديدًا يسمى مكتب منسق إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار. وفي العام التالي، نشر هذا المكتب قائمةً تضم أكثر من 100 مهمة أساسية لإعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع، بما في ذلك إنهاء الأعمال العدائية، ونزع السلاح، والشرطة المؤقتة، وإزالة الذخائر غير المنفجِّرة، فضلًا عن بناء الحكم الانتقالي، وموظفي الخدمة المدنية، ومنع المجاعة. في العام 2011، أصبح مكتب منسق إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار مكتبًا رسميًا، واليوم يرأسه سكرتير مساعد مُعتَمَد من مجلس الشيوخ. ولديه الموظفين والخبرة اللازمة للدخول في شراكة مع الحكومة الإسرائيلية ودعم عملية التخطيط التي تُعالِجُ بشكلٍ فعّال احتياجات ما بعد الحرب المباشرة في غزة. ويمكن للمكتب أيضًا الاستفادة من علاقاته الدولية لدعم التخطيط لمرحلة ما بعد “حماس” في غزة.
في العام 2018، أصدر وزير الخارجية الأميركي ووزير الدفاع ومدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بشكلٍ مُشتَرَك “مراجعةً للمساعدة في تحقيق الاستقرار” لتبسيط جهود الحكومة الأميركية في المناطق المُتضرِّرة من الصراع. وقد أشارت هذه المُراجعة إلى أنَّ أكثرَ من نصف الصراعات التي “تحقق السلام” تعود إلى العنف، وحذّرت من أنه من غير المرجح أن تنجَحَ جهودُ التنمية في المدى الطويل بدون استقرارٍ سياسي. دعت المُراجعة خبراء تحقيق الاستقرار المدنيين إلى التنسيق مع نظرائهم العسكريين من خلال “آلياتٍ مؤسّسية”، ولاحظت أن “تحقيق الاستقرار هو مسعى سياسي بطبيعته يتطلّبُ مواءمة جهود الحكومة الأميركية –المُشارَكة الديبلوماسية والمساعدة الأجنبية والدفاع– تجاه دعم السلطات والأنظمة الشرعية المحلية لإدارة الصراع سلميًا ومنع العنف”. كما جادلت بأنَّ التخطيطَ لتحقيقِ الاستقرار يجب أن يتمَّ دمجه مع الخطط العسكرية منذ البداية، وحذّرت من أنَّ عمليات مكافحة الإرهاب يُمكِنُ أن يكونَ لها تأثيرٌ مزعزعٌ للاستقرار. إن الاستنتاجات والتوصيات والتحذيرات الواردة في مراجعة العام 2018 هي مثالٌ آخر على الخبرة المُتاحة بسهولة والتي يبدو أن إسرائيل تنحيها جانبًا عمدًا في حالة غزة.
إغتنام اللحظة
الساعة الذهبية هي الفترة الحرجة المفقودة في التخطيط لغزة. خلال هذه الفترة، سيُصابُ المتواجدون على الأرض بالصدمة وينكسِرُ العقدَ الاجتماعي. قد تكون المساعدات الإنسانية مُتاحة، ولكن لن يقبلَ أيُّ ساكنٍ في غزة بسهولة حياة الانتظار في طوابير الأجانب لتوزيع المساعدات. سوف يرغبُ المدنيون في فَهمِ الخطة ومَن سيكون المسؤول عن تنفيذها. سوف يرغبون في معرفة ما إذا كان بإمكانهم العودة إلى ديارهم وما الذي سيتبقّى لهم للعودة إليه. وسوف يحتاجون إلى معلوماتٍ حول ما إذا كانوا سيكونون آمنين، وعن السلطة التي ستُنظّم الخدمات الأساسية وتستجيب لاحتياجاتهم وهم يسعون إلى إعادة بناء حياتهم. وبدون الثقة في وجود خطة، فإنَّ الجماعات المسلحة والقوى الأجنبية سوف تتحرّك وتخلق هياكل موازية تهيئ الظروف لمزيد من عدم الاستقرار. وهذه هي الفرصة التي تنتظر “حماس” وإيران وغيرهما استغلالها بكل سخرية.
تشيرُ دراسة أجرتها مؤسسة “راند” للأبحاث في العام 2020، بعنوان “اغتنام الساعة الذهبية”، إلى أنه في هذه الفترة القصيرة “يتم إنشاء الانطباعات الأولى، ويتم بناء التوقّعات، ويبدأ الدعم والمقاومة المحلّيان في الاندماج”. ويحدد التقرير الديناميكيات التي تؤثّرُ في مسار فترة ما بعد الصراع. وهو يسلّطُ الضوءَ على حاجة الولايات المتحدة وشركائها إلى تقديم تطمينات بأنه ستكون هناك حماية كافية لنظامٍ سياسيٍ جديد، فضلًا عن الدعم السياسي والمالي طويل الأجل. ويجب القبض على فلول نظام ما قبل الحرب المسلحة أو تعطيلها قبل أن تُتاحَ لها الفرصة لإنشاءِ شبكاتٍ بديلة أو غير مشروعة. الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو الاستنتاج الذي توصّلت إليه مؤسسة “راند” بأنه في كلِّ تدخُّلٍ قادته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، كانت هناك حاجة إلى قوّةٍ أكبر على الأرض لتحقيق استقرار الوضع مُقارنةً بما تم استخدامه لخوض الحرب نفسها. إذا لم يتواجد الجيش الإسرائيلي على الأرض بأعدادٍ كبيرة، وإذا لم يكن هناك إجماعٌ على قوّةٍ أمنية بعد الحرب، فسوف تَضيعُ الساعة الذهبية.
إنَّ إسرائيل تُخاطرُ بالفعل بعدم التخطيط للساعة الذهبية. لقد سَحَبَ الجيش الإسرائيلي معظم قواته من شمال غزة في كانون الثاني (يناير) مع تقدمه جنوبًا، مُعلنًا أنه تمَّ تفكيكُ كتائب “حماس” في الشمال. ومع انسحاب القوات الإسرائيلية من شمال غزة، أعلنت مديرة برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، سيندي ماكين، أن هذه المنطقة كانت بالفعل في “مجاعة كاملة”. وبعد ذلك، في أيار (مايو)، عاد الجيش الإسرائيلي بأعدادٍ كبيرة إلى مدينة غزة ومخيم جباليا للاجئين، وهي مناطق أُعلنت سابقًا خالية من “حماس”، للتصدّي للنشاط الإرهابي المُتجدّد. ومن دون وجودٍ أمني ذي مصداقية وخطةٍ لتوفير احتياجات السكان المدنيين في شمال غزة، فإنَّ “حماس” وآخرين سوف يعودون باستمرار، لسدِّ الفجوات في الحُكم والأمن.
إرسال صانعي السلام
تعلّمت الولايات المتحدة بشكلٍ مؤلم أنهُ بدونِ اتِّباعِ نهجٍ يُرَكّزُ على المدنيين لتحقيقِ الاستقرارِ في منطقة ما بعد الحرب، فإنَّ أيَّ إنجازٍ عسكريٍ سيكونُ عابرًا. إنَّ الحملةَ الإسرائيلية في غزة مُعَرَّضة ليس فقط لخطرِ إهدارِ الفُرَصِ خلال الساعة الذهبية، ولكن أيضًا لتفويت فرصة تحديد الظروف اللازمة للتعافي في مرحلة ما بعد الحرب في غزة والتي ستكون حاسمة لأمن إسرائيل. وهذه كلّها أخطاءٌ ارتكبتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة وغيرهما في أماكن أخرى. إنَّ تجاهُلَ ثقل التجربة التاريخية عندما يتعلّقُ الأمر بالتخطيط وصنع القرار في مرحلة ما بعد “حماس” في غزة هو قرارٌ سياسي.
ولعَكسِ هذا المسار في غزة، يجب رفع مستوى الأنشطة التي تُركّزُ على المدنيين إلى أولوية العمليات العسكرية نفسها. والأمر الأكثر إلحاحًا هو أن تقومَ إسرائيل بصياغةِ اقتراحٍ لوجود قوات إنفاذ القانون تجده مقبولًا ويلبّي الحد الأدنى من الشروط اللازمة لتقديم الخدمات للمدنيين الفلسطينيين وبديلًا من “حماس”. يتمتع هذا الاقتراح بأفضل فرصة للنجاح إذا تمَّ الاعترافُ به دوليًا ودعمته الولايات المتحدة والعواصم العربية، بما في ذلك أبو ظبي وعمّان والقاهرة والرياض. ثانيًا، يحتاج أصحاب المصلحة الخارجيون المُلتَزِمون بمنع عودة “حماس”، بما في ذلك إسرائيل والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة، إلى شريكٍ على الأرض يحتفظُ بالشرعية في نظر المدنيين لتوزيع المساعدات وتصريف الأنشطة الأساسية الأخرى، بما في ذلك إزالة الأنقاض والذخائر المتفجرة. ومن الممكن أن يتمَّ ذلك بموجب التفويض الدولي نفسه، بدعمٍ إسرائيلي وأميركي وإقليمي ودولي. وأخيرًا، يتعيّن على الائتلاف الحاكم في إسرائيل أن يُحدّدَ القادة المدنيين داخل الحكومة الإسرائيلية لإعفاء الجيش الإسرائيلي من دوره الأساسي في اتخاذ القرار في غزة ما بعد الحرب. وبعد ذلك يجب أن يبدأ التخطيط المدني العسكري الحقيقي.
إنَّ الحملةَ التي تشنُّها إسرائيل ضد “حماس” ليس لها سوى معايير عسكرية، وفي مقدمتها انهيار هيكل قيادة وسيطرة المنظمة الفلسطينية المتطرفة. وسيتم تحقيق ذلك من خلال استهداف مقاتلي “حماس”، وتحييد البنية التحتية لأنفاقها الإرهابية، والقضاء على كبار قادتها. ولكن مع وجود هذه المقاييس فقط لتقييم التقدّم ومع عدم اقتراب اثنين منها – تحييد الأنفاق والقضاء على القيادة – من الاكتمال، فإنَّ إسرائيل تُخاطِرُ بالتركيز على القضاء على التهديدات بدلًا من صياغة رؤية استباقية لما سيحل محل “حماس”.
صرح نتنياهو أنَّ إسرائيل لا تريد احتلال غزة في المدى الطويل. وتشترك إسرائيل مع العواصم العربية والولايات المتحدة وغيرها من البلدان في الهدف المتمثل في منع “حماس” من العودة إلى السلطة، وفرض قبضة خانقة على غزة، وتصدير الإرهاب. ويشير هذا إلى أنه لا يزال هناك مجالٌ سياسي للوحدة بشأنِ حُكمِ ما بعد “حماس” في غزة. والتسلسل هو أمرٌ أساس: أولًا، لا بدَّ من إنشاءِ بعثة مؤقتة متعددة الجنسيات أو بقيادة الأمم المتحدة، والتي ينبغي لها في نهاية المطاف تسليم مسؤولية الحكم إلى كيانٍ بقيادةٍ فلسطينية.
مَن يَحكُم؟
لا تزال هناك مهمّتان عاجلتان. الأولى هو تشكيل وجود لإنفاذ القانون في غزة، على الفور وفي المدى الطويل. إذا لم يكن من الممكن الحفاظ على النظام، فلن يكونَ من الممكن القيام بأيِّ أنشطة ذات معنى لتحقيق الاستقرار والتعافي. وقد تكون العواصم العربية التي لها علاقات مع إسرائيل من خلال معاهدات السلام أو اتفاقيات التطبيع مستعدة للمساهمة بالأفراد والمعدات والتمويل للوجود الأمني في مرحلة ما بعد “حماس”. لكنها ستحتاج أوّلًا إلى تطميناتٍ من إسرائيل بأنَّ المدنيين الفلسطينيين يُمثّلون الأولوية، وأنَّ الجيش الإسرائيلي لن يُعرِّضَ سلامةَ وجود قوات إنفاذ القانون للخطر، وأنَّ هناكَ خارطة طريق لاستعادة غزة بعد الحرب وإطارًا دوليًا لتقرير المصير الفلسطيني. ولأنَّ الحلولَ المحلّية هي الأكثر ديمومة، ينبغي على القوات الفلسطينية في نهاية المطاف أن تحمي المدنيين الفلسطينيين. ويجب على قوات الأمن المرتبطة بالسلطة الفلسطينية أن تبدأ التدريب الآن، بمساعدة المنسق الأمني الأميركي في إسرائيل والأردن.
أما المهمة الثانية العاجلة فهي التوصل إلى توافقٍ في الآراء بشأن إطارٍ للحُكم في غزة. ومن أجل تنسيق أنشطة ما بعد الحرب والإظهار للمجتمعات المحلية أن هناك بديلًا موثوقًا غير “حماس”، يجب أن يكون هناك كيانٌ يتمتّعُ بالصلاحيات والموارد الدولية في وضعٍ يسمحُ له باتخاذِ إجراءاتٍ فورية وإعطاء الأولوية للمشاركة المدنية. على سبيل المثال، اقترح مركز ويلسون للأبحاث أخيرًا أن تقومَ سلطةٌ متعدّدة الجنسيات ومجموعة اتصال دولية بإدارة غزة، بموجبِ ميثاقٍ دولي يُضفي الشرعية على المهمة. ويمكن أن يشملَ أعضاء المجموعة مجموعة الدول السبع وبعض العواصم العربية والولايات المتحدة وربما حلفاء آسيويين بما في ذلك اليابان وجمهورية كوريا الجنوبية. ولا بدَّ وأن يكون للسلطة الفلسطينية دور، ولكنها تحتاج أولًا إلى الدعم والضغوط الإقليمية حتى تتمكن من معالجة نقاط ضعفها. ويبدو أن مهمة الحكم المتعددة الجنسيات، التي تنتقل في نهاية المطاف إلى كيانٍ بقيادةٍ فلسطينية، هي الخيار الأفضل في هذه المرحلة من الحرب. ستحتاج هذه المهمة إلى الشراكة مع الجهات الفاعلة المحلية، بما في ذلك موظفو الخدمة المدنية السابقون في السلطة الفلسطينية، بما يتماشى مع هدف بناء إطار حكم غير تابع ل”حماس” في غزة. لقد نسّقت إسرائيل بنجاح مع كبار رجال الأعمال الفلسطينيين في غزة وموظفي الخدمة المدنية غير التابعين ل”حماس” في الماضي، مما يعني أن الكادر المحلي الضروري موجود اليوم وهو في وَضعٍ أفضل يمكن أن يحظى بثقة السكان المدنيين في غزة. ويمكن لإسرائيل تسريع هذه العملية من خلالِ إعداد قوائم تمَّ فحصُها من موظفي الخدمة المدنية ورجال الأعمال للتنسيق معهم، ودعم آليات التعاون بين هؤلاء الأفراد وبعثة الحكم المتعددة الجنسيات، بحيث يتم التخطيط والتسلسل.
إنَّ إعادةَ تنظيم الأدوار والمسؤوليات الإسرائيلية تجاه غزة سوف تكون ضرورية أيضًا إذا كنا نريد عدم إهدار الساعة الذهبية. اليوم، يتم الإشراف اليومي على الضفة الغربية وقطاع غزة من قبل وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (كوغا). وتتبع هذه الوحدة وزارة الدفاع، وهي تتولّى قيادة إسرائيل في تنسيق المساعدات الإنسانية إلى غزة، مع احتفاظه بالدور الأساسي في القضايا المدنية في الضفة الغربية. لكن وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق لم تقم قط بقيادة مهمة لتحقيق الاستقرار بعد الحرب، ولم تستثمر في الأفراد أو المهارات أو العلاقات مع الشركاء الدوليين المطلوبين لتنفيذ مثل هذه المهمة بنجاح. إن الإبقاء على وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق كقائد إسرائيلي لأنشطة ما بعد الحرب في غزة يخاطر بالفشل في تعلم الدرس القائل بأن الجهات العسكرية النظامية ليست في وضع أفضل لقيادة المهام المدنية بطبيعتها. إن إعادة إعمار غزة سوف تتطلب شركاء مدنيين. وبما أنَّ أشهرًا من التخطيط لغزة ما بعد الحرب قد ضاعت بالفعل، فلا بدَّ وأن تجتمع على الفور خليّةُ تخطيطِ مدنية-عسكرية تضمُّ ممثلين ديبلوماسيين وتنمويين وأمنيين من العواصم العربية وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة والولايات المتحدة. ويجب عليها أن تبني علاقات وروابط تنظيمية بحيث تكون آليات التنسيق جاهزة للساعة الذهبية.
أخيرًا، فإنَّ الاستجابة للاحتياجات العاجلة في غزة وتمكين إعادة الإعمار في المدى الطويل سوف تتطلّبُ التمويل والموارد. ووصف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي متطلبات إعادة إعمار غزة بأنها الأهم منذ الحرب العالمية الثانية، ويُقدّر أنها ستتكلف عشرات المليارات من الدولارات. ولن يكون هذا التمويل مُمكِنًا إلّا من خلال آلية دولية مُجمِعة. هناك الكثير من الأمثلة عبر الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية لبرامج التمويل في مرحلة ما بعد الصراع، بما في ذلك عندما قام البنك الدولي، في العام 2022، بحشد الالتزامات والتعهدات المالية لأوكرانيا لدعم رواتب موظفي الخدمة المدنية، ومبادرات الصحة العامة، وإصلاح البنية التحتية، وتسهيلات التمويل المرنة لجهود الإغاثة وإعادة الإعمار. إن الطريق البحري من قبرص إلى غزة لتوصيل المساعدات الإنسانية يعمل بالفعل وفق خطة تمويل مُجمِعة، وافقت عليها إسرائيل. وهذا يُقدّمُ دليلًا مُفيدًا على أنه عندما تتوافق الإرادة السياسية مع الاعتراف بالاحتياجات الملحّة لغزة، يمكن للدول أن تتعاون في مجال التمويل. وسوف تشكل هذه المواءمة أهمّيةً بالغة لضمان عدم إهدار الساعة الذهبية الحاسمة.
- دانا سترول هي مديرة الأبحاث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ونائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط. يمكن متابعتها عبر منصة (X) على: @dstroul
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.