لبنان بمِنظارٍ غربي: أزماتُه كانت دائمًا عَمَلًا داخليًا
زار الكاتب والصحافي البرتغالي فرانسيسكو سيرانو لبنان أخيرًا، حيث مكثَ فيه أيامًا عدة زارَ خلالها مناطقَ لبنانية مختلفة، وقابل سياسيين، أكاديميين ومواطنين عاديين، وعادَ بنتيجةٍ واحدة: أزمةُ لبنان هي من صنعٍ داخلي أي أنَّ دودَ الخَلِّ مِنهُ وفيه.
فرانسيسكو سيرانو*
يتذكّرُ عبد الله الساعي (39 عامًا)، الجالس على كرسيٍّ بلاستيكي مُحاطًا بالشوكولاتة والوجبات الخفيفة وزجاجات المشروبات الكحولية التي يبيعها في كشكه الموجود على جانب الطريق، اليومَ الذي كاد فيه أن يُشعِلَ النيرانَ في أحد البنوك، ويقول: “لقد سئمتُ من رؤيتهم يسرقون منّا طوال هذه السنين”.
يقعُ متجره الصغير على طريقٍ رئيس بالقرب من بلدة كفرَيّا في وادي البقاع، أهم منطقة زراعية في لبنان. وتنتشر في الأراضي المُحيطة المزارع وكروم العنب والبساتين، كما تُشيرُ الجبالُ المغطاة بالثلوج شرقًا إلى الطريق المؤدّية إلى سوريا.
تبدو هذه المنطقة من الوادي مُسالمة وهادئة. لكنَّ الهدوءَ السطحي يخفي الأزمةَ الحادة التي تُغرِقُ لبنان. بدءًا من العام 2019، عندما أطاحت الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد وسوء الإدارة الحكومة، عانت البلاد من سلسلةٍ من الاضطرابات التي تُشيرُ إلى نقطةِ تحوُّل. أدّى الانهيار المالي الذي سبّبته النُخَبُ السياسية والمالية إلى محو 97% من قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، ما تَرَكَ ثلاثة أرباع سكان البلاد البالغ عددهم 5.5 ملايين نسمة في فقر. في آب (أغسطس) 2020، أدّى انفجارٌ هائلٌ في مرفَإِ بيروت –نتيجة إهمال الدولة وفسادها– إلى مقتل 218 شخصًا وإصابة الآلاف وتعرُّضِ المدينة لصدمةٍ عميقة.
اليوم، تقودُ الدولةَ، أو ما تَبَقَّى منها، حكومةُ تصريف أعمال ذات صلاحيات محدودة. وما زالَ منصب رئاسة الجمهورية شاغرًا منذ أواخر العام 2022، مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون. وعلى الرُغمِ من عقده 13 جلسة تصويت، لم يتمكّن برلمانُ البلاد المُجَزَّأ المؤلَّف من 128 عضوًا، والمُكَوَّن من أحزابٍ سياسية مُنقَسِمة على أُسُسٍ طائفية، من الوصول إلى غالبية الثلثين المطلوبة لانتخابِ رئيسٍ جديد.
إضافةً إلى ذلك، تَلوحُ في الأُفُقِ حربٌ إقليمية. منذ هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) والهجوم العسكري الإسرائيلي اللاحق على غزة، كان مقاتلو “حزب الله” – الميليشيا الشيعية اللبنانية المدعومة من إيران– يتبادلون إطلاق النار مع الجيش الإسرائيلي عبر الحدود اللبنانية-الإسرائيلية التي يبلغ طولها 75 ميلًا أو 120.7 كيلومترًا.
وأدى القتال إلى مقتل 357 لبنانيًا و22 إسرائيليًا حتى كتابة هذه السطور، بينما أدّى إلى نزوح آلاف الأشخاص من جنوب لبنان. كما قصفت إسرائيل أجزاءً أخرى من البلاد، بما في ذلك جنوب بيروت وسهل البقاع، مُستهدفةً قادة “حماس” و”حزب الله”.
مثل العديد من اللبنانيين، أمضى عبد الله الساعي حياته في الخارج لبعض الوقت. بعدَ أن عاش ما يقرب من عقد من الزمن في فنزويلا، انتقلَ مع عائلته إلى كولومبيا -موطن زوجته- حيث حاول إنشاءَ مشروعٍ تجاري في مدينة بارانكويلا.
لكن بعدما أنفق 80 ألف دولار لمعالجة الأوراق القانونية وتعيين موظفين واستئجار الموقع، فقد خسر كل شيء لأنه لم يتمكّن من استرداد 130 ألف دولار من مُدّخراته في لبنان لإنهاء المشروع. وبعد نفاد المال، عاد إلى لبنان مع زوجته وطفليه الصغيرين في أواخر العام 2019.
وبحلول تلك المرحلة، كانت غالبية اللبنانيين قد حُرِمت بالمثل من مُدّخراتها. لقد أدّت الاحتجاجات الحاشدة المُناهِضة للحكومة التي بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 إلى إغلاق البنوك لأسابيع. وعندما أُعيدَ فتحها في نهاية المطاف، تراجعت الليرة اللبنانية إلى حدٍّ أنها أصبحت عديمة القيمة تقريبًا. علاوةً على ذلك، وبسبب ضوابط رأس المال (capital controls)، وجد الناس أموالهم محبوسة في النظام المصرفي. كان بإمكانهم سحب مبالغ محدودة فقط من مُدّخراتهم، جُزءٌ صغير من القيمة الأصلية. أصبحت حياة الساعي مُرَكَّزة على زياراتٍ منتظمة وغير مُثمرة للبنك. وبحلول كانون الثاني (يناير) 2022، وصل إلى حالةٍ من اليأس وقال: كفى.
في أحد أيام ذلك الشهر، دخل إلى فرع بنك بيروت والبلاد العربية (BBAC) في بلدة جِبّ جنين حوالي الساعة 11:00 صباحًا، حاملًا مسدس “فايكنغ” نصف آلي وزجاجة بنزين في حقيبة ظهره. وقال لـكاتب هذه السطور: “لم يرَ أحدٌ المسدس على الإطلاق. لكنني سكبتُ البنزين على الأرض وأخبرتهم أنني سأشعلُ النار في المكان إذا لم أحصل على 50 ألف دولار من أموالي”.
استمرّت المواجهة ثلاث ساعات ونصف الساعة. في الداخل، عمل مدير الفرع كقناةِ اتصالٍ بين الساعي والمكتب الرئيسي، فيما انتظرَت قوات الأمن خارج المبنى. وبعد ساعاتٍ من المفاوضات وافقَ البنك على طلبه.
اتّصل بزوجته وطلب منها الحضور لاستلام المبلغ. في البداية، لم تكن كارين خيمينيز على عِلمٍ بأنَّ زوجها قد قرر اتخاذَ مثل هذا الإجراء المُتطرّف، فحضرت إلى الفرع وأخذت الأموال، حيث رافقتها بعدها إلى خارج جب جنين عشرات السيارات التي يقودها متعاطفون.
يتذكّر الساعي قائلًا: “عندما اتصلت بي قائلة إنها آمنة، سلّمتُ نفسي. لم يُصَب أحدٌ بأذى”. تم سجنه لمدة 17 يومًا ثم أُطلِقَ سراحه من قبل القاضي المسؤول.
ويقول إنه حتى قوات الأمن تعاطفت مع أفعاله. لقد أدّى انهيار الليرة اللبنانية إلى تدمير الأجور العامة. فالجنود الذين كانوا يحصلون على راتب شهري يعادل 1,000 دولار قبل الانهيار المالي، اضطروا فجأة إلى الاكتفاء بحوالي 60 دولارًا. وقد وجد الكثيرون وظائف ثانية وثالثة، بينما ترك آخرون الجيش تمامًا، وأصبحوا فارين من الخدمة.
انتشرت أنباء نجاح الساعي ب”سحب” مدّخراته بقوة السلاح. وعلى مدار العامين 2022 و2023، سعى العشرات من المودعين الآخرين إلى استرداد مُدَّخراتهم بطريقةٍ مُماثلة. في آب (أغسطس) 2022، دخل بسام الشيخ حسين أحد البنوك في وسط بيروت مُسَلَّحًا ببندقية وزجاجة وقود، وحصل من حسابه على مبلغ 30 ألف دولار بدون إطلاق رصاصة واحدة. وبعد شهر، قامت مودعة أخرى، سالي حافظ، بالاستيلاء على بنك آخر في بيروت باستخدام مسدس مزيف. وسحبت 12 ألف دولار من أموالها.
بحلول نهاية العام 2022، وقعت 27 حادثة مماثلة. باستخدام الأسلحة أو تنظيم الاعتصامات، تمكّن المودعون اللبنانيون من استرداد أكثر من 437 ألف دولار من مُدّخراتهم من البنوك قسرًا، وهو مبلغٌ زهيد مقارنة بمبلغ 100 مليار دولار الذي يُقال إنه لا يزال عالقًا في النظام المصرفي اللبناني.
في البداية، نجا المودعون الذين استخدموا هذه الأساليب للحصول على أموالهم من عواقب وخيمة. وقضى معظمهم بضعة أيام فقط في السجن، في حين حُكِمَ على عددٍ قليلٍ منهم بغراماتٍ رمزية. لقد حظوا بدعمٍ واسع النطاق من السكان الذين يعانون من الفقر المتزايد والذين سُلبوا بشكل أساسي من مدّخراتهم. ولكن سرعان ما انقلبَ المد. وعززت البنوك أمنها. تعامل القضاة بقسوة أكبر مع أي شخص يقتحمها بالقوة. وبحلول أوائل العام 2024، انتهت موجة المودعين الذين حاولوا اقتحام البنوك.
بالنسبة إلى فؤاد دبس، المحامي الذي دافع عن المودعين مثل الساعي، كان الانخفاض المفاجئ بمثابة مفاجأة. قال لي في شباط (فبراير) الماضي في مكتبه في الأشرفية، وهو حيٌّ ذو أغلبية مسيحية في شرق بيروت: “اعتقدتُ أنَّ مثل هذه الأفعال ستُصبحُ أكثر شيوعًا. ربما بدأ الناس الاستسلام للأمر الواقع”. وقال دبس إنَّ ذلك أمرٌ “مؤسف”، لأنه كان يعتقد أن هذه الظاهرة قد “تُجبِرُ الطبقة الحاكمة على فعلِ شيءٍ حيال الوضع”.
مع تقدُّمِ العام 2024، تبدو عملية تفكّك الدولة اللبنانية وانحلالها غير قابلة للرجوع. في ظلِّ الإفلاس السيادي واستمرار إفقار غالبية السكان، لا يزال قادة لبنان غير قادرين على الاتفاق على مَن يجب أن يشغل العديد من المناصب الحكومية الرئيسة أو التوصّل إلى خطةٍ للخروج من الأزمة الاقتصادية. لقد استمر الإهمال والوضع المزري الآن لسنوات.
غالبًا ما يتمُّ تصوير مشاكل لبنان، واستعصاء حلّها الواضح، على أنها مجرّد نتيجة للطائفية. وتقول هذه الحجة إنَّ عدمَ الاتفاق بين العديد من الجماعات الدينية المختلفة قد حال دون إنشاء دولة فاعلة. وهذا صحيحٌ جُزئيًا.
مع ذلك، يُمكنُ إرجاع مشاكل لبنان إلى حقيقة أن نُخَبه تعمل كتكتّلٍ اقتصادي بقدر ما ترجع إلى نظامه السياسي غير الفعّال القائم على الطائفية. لقد تشَكَّلَ النظامُ الحاكم وفقًا لاستعداد القادة السياسيين للتعاون مع بعضهم البعض للحفاظ على الوضع الراهن بقدر ما تأثر بالخلافات بينهم وبين ناخبيهم. على مرِّ السنين، استولى هؤلاء القادة على الدولة لاستخدامها كبقرةٍ حلوب، وحصدوا الغنائم الاقتصادية والحفاظ على قبضتهم على السلطة، في حين دمروا قدرتها على العمل فعليًا كدولة.
بهذا المعنى، فإنَّ الأزمة الحالية في لبنان هي نتيجةٌ لصراعٍ دامَ عقودًا من الزمن بين أقلية من قادة الميليشيات الفاسدين السابقين الذين ما زالوا على استعداد لاستخدام العنف والسكان الذين ظلوا ضحيتهم طوال ذلك الوقت. يقول دبس: “في الحرب بين القلّة (الأوليغار) والشعب، تنتصر القلّة”.
منذ استقلال لبنان في العام 1943، تمَّ تقسيمُ المناصب الحكومية بين الطوائف الدينية الثمانية عشرة في البلاد، وخصوصًا الطوائف الثلاث الرئيسة. ولا يزال الميثاق (غير المكتوب) يشترطُ أن يكونَ رئيس الجمهورية مسيحيًا مارونيًا، ورئيس الوزراء مُسلمًا سنّيًا، ورئيس مجلس النواب مُسلمًا شيعيًّا.
في أعقابِ الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرّت بين العامين 1975 و1990، أنشأ اتفاقُ الطائف ترتيبًا سياسيًا جديدًا للسلام أضعفَ الميزة المُصطَنَعة الممنوحة للمسيحيين الموارنة في نظامِ تقاسُمِ السلطة في البلاد. أدّى الترتيبُ السياسي بعد الحرب إلى إضعاف سلطات رئيس الجمهورية وتعزيز دور رئيس الوزراء. كما تمَّ تقسيم عدد المقاعد البرلمانية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
بعدَ الحرب، تحوّلت الميليشيات التي تحاربت إلى أحزابٍ سياسية، على الورق على الأقل. قادتهم، مجرمو الحرب الذين تمَّ العفو عنهم، تحوّلوا الآن إلى سياسيين، وانضموا إلى البرلمان وتولوا مناصب ووظائف في الحكومة. ومن خلال النظام السياسي الطائفي، سرعان ما استولوا على الدولة وقسّموها، ومنحوا العقود الحكومية من خلال مخططات فاسدة، وقاموا بتوزيع الوظائف العامة بين دوائرهم الانتخابية.
في الوقت نفسه، أدت عملية إعادة الإعمار بعد الحرب إلى إنشاءِ اقتصادٍ ريعي. وعرضت البنوك أسعار فائدة مُرتفعة لجذب الودائع بالدولار. وبدلًا من إنتاج السلع، قام لبنان بتصدير سكّانه ذوي المهارات العالية وعاش على تحويلاتهم المالية، التي تدفّقت إلى البنوك اللبنانية على شكلِ دولارات. وقد ساهمت الاستثمارات الآتية من الخليج والإنفاق السياحي في تعزيز خزائن العملة الصعبة في البلاد.
استمرَّ هذا النظام المالي في إقراض الحكومة. لكن أموال الدولة تم استنزافها من قبل النُخبة الحاكمة. لسنوات، اختلس قادة الأحزاب الموازنات العامة لإثراء أنفسهم ودعم شبكات المحسوبية للحفاظ على دعم دوائرهم الانتخابية.
في جوهر الأمر، كانت البلاد تعيش على مخطّطٍ هَرَمي ضخم يُغذّيه التدفق المستمر للأموال الجديدة. ويمكن للمودعين بسهولة تحويل ودائعهم من الليرة اللبنانية إلى الدولار والعكس، وكانت قروض المقترضين مقوَّمة بالدولار.
لكن في الوقت الذي كان الدين العام يتصاعد، كانت الظروف السياسية الإقليمية تتغيَّر. إنَّ نفوذَ “حزب الله” المُتزايد داخل الدولة اللبنانية –وحقيقة أنه كانَ يُرسِلُ مقاتلين لدَعمِ نظام الرئيس السوري بشار الأسد في حربه الأهلية ضد الجماعات المسلّحة السنّية إلى حدٍّ كبير- دفع دول الخليج السنّية إلى النأي بنفسها تدريجًا عن بيروت. وخوفًا من نفوذ إيران المتزايد في لبنان، خفضت تدريجًا استثماراتها في البلاد.
نتيجةً لذلك، بدءًا من العام 2013، بدأ ضخ الأموال الجديدة يتضاءل. واصلت البنوك، بما في ذلك مصرف لبنان المركزي، عملها كالمعتاد. على وجه الخصوص، بقيت الودائع بالليرة تتحوّل إلى ودائع بالدولار. ولكن كان هناك عدد أقل وأقل من الدولارات التي تدخل إلى النظام لدعمه.
بحلول العام 2019، كان لبنان يُعاني من أزمةٍ اقتصادية شاملة. في مواجهة انقطاع إمدادات الكهرباء والمياه، وارتفاع الضرائب وخصخصة الخدمات الأساسية، خرج الناس من جميع الطوائف، بما في ذلك معظم شرائح المجتمع، إلى الشوارع للاحتجاج على النخبة الحاكمة. للمرة الأولى منذ سنوات، كان الشعب اللبناني يُعرِبُ عن سخطه إزاء التداعي الذي أحدثه النظام السياسي الطائفي في البلاد.
لقد قوبلوا بقمع عنيف من قبل الجيش اللبناني، ولكن أيضًا من قبل الميليشيات المسلحة (الشيعية بخاصةً).
بالنسبة لريما ماجد، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، فإنَّ قمعَ الاحتجاجات الشعبية في العام 2019 يعكس الطبيعة المزدوجة للنظام. وتقول: “هناك فرع الميليشيات وفرع الأوليغار (القلة). إنهما مترابطان ويتوزّعان الأدوار”.
بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، كانت الحركة الاحتجاجية أطاحت حكومتين. لكن هياكل السلطة الأساسية ظلت سليمة. ومما يثير استياء العديد من اللبنانيين أن هذه الأوليغارشية قد تمسّكت بالسلطة حتى مع استمرار البلاد في دوامة الانحدار.
حتى اليوم، لا يعرف معظم اللبنانيين سوى القليل عن اثنين من الأحداث الكبرى التي قلبت حياتهم رأسًا على عقب خلال السنوات القليلة الماضية: الانهيار المالي وانفجار المرفأ. لقد كانت هاتان المأستان من صُنع النظام، ولا يزال ملايين الأشخاص يدفعون بسببهما ثمنًا يوميًا. مع ذلك، منعت الطبقة الحاكمة إجراء أي تحقيق جدي في أيٍّ منهما، ولا تزال المُساءلة بعيدة المنال.
تقول ماجد: “هناك شعورٌ بالفشل. لقد خرجنا إلى الشوارع. لقد احتجّينا. لقد تعرضنا للأزمات الواحدة تلو الأخرى، وانتهى بنا الأمر بالحكّام أنفسهم، بدون أيِّ خيارات”.
في الليل، أصبح معظم أنحاء بيروت الآن يشبه مدينة أشباح. تزايدت قصص السرقات والاختطاف للحصول على فدية. وبدون الكهرباء، لا تتم إضاءة العديد من الطرق السريعة والطرق الرئيسة في جميع أنحاء المدينة إلّا من خلال اللوحات الإعلانية الخارجية وشاشات الفيديو. في خضمِّ هذا الانحلال والتدهور، يعلن بعضهم عن سلع استهلاكية وإمكانية الهروب إلى دول أجنبية من خلال خطط تأشيرات الاستثمار. ولا يزال كلاهما بعيد المنال بالنسبة إلى معظم اللبنانيين.
على النقيض من ذلك، غالبًا ما تكون المطاعم والحانات في الأحياء الثرية مثل الجميزة ومار مخايل وبدارو مُكتظّة. لكن هذا لا يُنبئ إلّا بالقليل عن قدرة البلاد على اجتياز الأزمة. يقول دبس: “هناك فقاعة ما زالت تستمر في العيش. لكن الملايين من الناس مُعدَمون”.
يعكسُ هذا الانقسام المجتمعي ما إذا كان المرء يكسب المال بالدولار الأميركي أو بالليرة اللبنانية. قبل الأزمة، كان يمكن أن يصل سعر الدولار إلى 1500 ليرة لبنانية بسعر الصرف الرسمي. والآن، يستطيع شراء ما يقرب من 89 ألف ليرة لبنانية من السوق السوداء، وهو الانهيار الذي دمر الرواتب العامة ومعاشات التقاعد.
نتيجةً لذلك، أصبح الدولار أكثر بروزًا في التعاملات اليومية، حتى لو تجنّبت السلطات حتى الآن إعلان دولرة الاقتصاد بالكامل، وهو ما قد يساعد في حلِّ بعض المشاكل الحالية على الأقل.
تقول سهام رزق الله، أستاذة الاقتصاد في جامعة القديس يوسف: “يتجاهل معظم السياسيين أنَّ الدولار أصبح الآن العملة الوطنية، لأنَّ أحزابنا ليست لديها استراتيجية اقتصادية. لكن الدولرة الجُزئية أدت إلى زيادة عدم المساواة. ولن تجد أحدًا يقبض بالليرة اللبنانية ويُعارِض الدولرة. حتى السياسيون الذين يزعمون أنهم ضد الدولرة يستخدمون الدولار”.
وفي انقلابٍ عميق لمطالب الحركة الاحتجاجية لعام 2019، فإنَّ الأزمة الحالية تعمل بدلًا من ذلك على ترسيخ الطائفية. في جميع أنحاء المدن والأحياء في جميع أنحاء لبنان، تستمر لافتات قادة الأحزاب السياسية في تحديد مناطق دعمهم الجغرافية.
في الأحياء المسيحية، يرى المرء وجوه الرئيس السابق ميشال عون من “التيار الوطني الحر” الماروني، أو زعماء الأحزاب المارونية الرئيسية الأخرى، مثل سمير جعجع، رئيس “القوات اللبنانية”، وسامي الجميل رئيس “حزب الكتائب”. الثنائي الأب الراحل رفيق الحريري والإبن سعد الحريري من “تيار المستقبل” يطلّان على العديد من المناطق السنّية. وحيث يُشكّلُ السكان الشيعة الأغلبية، فإنَّ نبيه بري من “حركة أمل” أو السيد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله”، هما اللذان ينظران من فوق إلى المارة.
كلُّ اللبنانيين، بغضِّ النظر عن طائفتهم، سوف يتعرّفون على هذه الوجوه، لأن أصحابها سيطروا على سياسة البلاد لعقودٍ من الزمن. على مرّ السنين، تم استبدال العديد من اللافتات بشكلٍ متكرر للحفاظ على حالتها الأصلية، حتى مع استمرار سقوط المباني والجدران التي تُعلَّق عليها في حالةٍ سيئة.
بدلًا من الشعور بالولاء الصادق لمجموعةٍ متنوِّعة من الميليشيات السياسية االتي تحكمه، يبدو أن الشعب اللبناني وقع في فخ علاقة مسيئة وسيئة معها.
“الطائفية ليست حول المحبة أو عدم المحبة”. تقول ماجد: “الناس يعرفون أن هؤلاء القادة فاسدون ويهدفون إلى خدمة أنفسهم. لكن الناس يتبعونهم لأنهم يُقدّمون الوعود”. وتضيف أنه لا يهم ما إذا كانت هذه الوعود ذات مصداقية: “عندما تشعر أنَّ الدولة لن تحميك، من سيحميك؟ من سيُعطيك وظيفة؟ حزبك وقادة حَيَّك”.
وهنا أيضًا أدت الأزمة أخيرًا إلى تقليص قدرة الأحزاب السياسية على توجيه موارد الدولة نحو أنصارها.
مع ذلك، فإن قادة لبنان يعرفون كيفية الاستفادة من الانقسام والصراع لإبقاء أنفسهم في السلطة. منذ أن فقدت مصداقيتها بالكامل بسبب الانهيار المالي وانفجار المرفَإِ، تحاول الأوليغارشية الطائفية تبرير وجودها، واستعادة ثقة ناخبيها، الذين كانوا طالبوا بإزاحتها من السلطة قبل سنوات قليلة فقط.
السؤال الآن هو ما إذا كان لبنان سيتمكن من الخروج من أزمته الحالية من دون عنف. كان استعداد الأوليغارشية لبذل كل ما في وسعها من أجل البقاء في السلطة سببًا في جلب مخاطر جديدة تترتب على مثل هذه النتيجة، الأمر الذي شجع قادة الأحزاب والميليشيات الذين احتفظوا بالسلطة لسنوات على البحث عن كبش فداء لمشاكل البلاد.
في صيف العام 2023، بدأت ميليشيا مسيحية تطلق على نفسها اسم “جنود الرب”، الدخول بالقوة ومهاجمة الحانات الصديقة لمجتمع الميم في بيروت. بدأت المجموعة في البداية كمُراقِبة حي في منطقة الأشرفية المسيحية، وروَّجت لنفسها كمدافع عن الأعراف المجتمعية. وقد تم الترحيب بها في جهودها للعب دور شرطة الأخلاق من خلال التعليقات التحريضية التي أطلقها سياسيون لبنانيون.
استهدف خطابُ الكراهية بشكل خاص ما يقدر بنحو 1.5 مليون نازح سوري لَجَؤوا إلى لبنان هربًا من الحرب الأهلية في بلادهم. ويحصل معظمهم على أجورٍ مُنخفضة من العمل في الزراعة أو البناء، وهما من القطاعات القليلة المسموح لهم قانونًا العمل فيها.
لقد أصبح استخدام اللاجئين السوريين ككبش فداء أمرًا طبيعيًا لدرجة أنه في أوائل العام 2024، تمَّ إطلاقُ حملةٍ على مستوى البلاد – بما في ذلك اللوحات الإعلانية على طول الطرق في جميع أنحاء لبنان والإعلانات التلفزيونية على قناة “أم تي في” اللبنانية – والتي دعت البلاد إلى “التراجع عن الضرر” الذي يُفترَض أنَّ سببه تواجد اللاجئين السوريين، وإجبارهم على العودة إلى سوريا.
لسنواتٍ عدة، ظلت السلطات تفعل ذلك، زيادة عدد عمليات الطرد القسري للسوريين، على الرغم من أن الكثيرين ما زالوا يواجهون العنف وسوء المعاملة من النظام السوري بمجرّد عودتهم إلى ديارهم.
وقد تصاعد هذا الوضع في نيسان (أبريل)، في أعقاب اغتيال باسكال سليمان، أحد قادة حزب “القوات اللبنانية”، وهو حزبٌ سياسي ماروني مسيحي كثيرًا ما عارض “حزب الله” علنًا. وعلى الرُغم من أن السلطات اللبنانية زعمت أن سليمان قُتل على أيدي عصابة من المجرمين اللبنانيين والسوريين أثناء عملية اختطاف سيارة، إلّا أن حزب “القوات اللبنانية” استمرَّ في وصف ما حدث بأنه اغتيالٌ سياسي. وسرعان ما نفى السيد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله”، تورّط حزبه في الجريمة وهدد حزب “القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب”، وهو حزب مسيحي ماروني أيضًا، ضد أيّ استفزازات.
لكن بالنسبة إلى السلطات، كان مقتل سليمان بمثابة فُرصةٍ لزيادة الضغط على السوريين في لبنان بشكلٍ أكبر. ولم يُكلّف وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي نفسه عناء إجراء تحقيق شامل، وألقى باللوم على “الوجود السوري” في جريمة القتل وتفاقم حالة انعدام الأمن بشكل عام في البلاد. وأدى التحريض والتضليل على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تأجيج هجمات عنيفة متعددة ضد السوريين في الأيام التالية.
داخل لبنان ومِن حوله، التوتّرات عالية. يكمنُ الخطرُ الآن في أنَّ الصراعَ، سواء كان مدفوعًا بتوتراتٍ داخلية أو بالتصعيد العسكري من جانب إسرائيل، قد يُغرِقُ البلاد في مزيدٍ من الفوضى.
ويبدو أنَّ “حزب الله” يريدُ تجنُّبَ حربٍ أكبر وأوسع من شأنها أن تُعَرِّضَ بقاءه في لبنان للخطر وتزيد من الانقسامات داخل المجتمع اللبناني.
لكن سواء اندلعَ صراعٌ أوسع أم لا، فمن غير المرجح أن يَخرُجَ النظامُ الطائفي في لبنان من هذه الأزمة سليمًا. وستكون الأحزاب السياسية التي اعتمدت على الاستيلاء على الدولة للحفاظ على ولاء ناخبيها – حزب أمل الشيعي وبعض الأحزاب المسيحية، على سبيل المثال – هي الأكثر تضرّرًا من إفلاس الدولة. لكن بحسب ماجد، “لن يتمكن جميع القادة السياسيين من النجاة من الأزمة بالطريقة نفسها. أولئك الذين لديهم راعٍ أجنبي سيكونون أفضل حالًا”.
إحدى النتائج المُحتَمَلة للأزمة الحالية، خصوصًا إذا لم تؤدِّ إلى حربٍ في الأمد القريب، هي تعزيز قوة “حزب الله”. ومن المُرجَّح أن يُحاوِلَ الحزبُ، الذي يعمل على تعزيز سلطته داخل الدولة اللبنانية منذ سنوات، إعادةَ رسم توازن القوى في نظام الحكم في البلاد، بهدفِ تقسيمٍ متساوٍ للأدوار القيادية بين المسيحيين والسنّة والشيعة، بدلًا من التقسيم الحالي بين المسيحيين والمسلمين. تقول ماجد: “لقد كانوا يتحدثون عن هذا الأمر منذ سنوات، ويعتقدون أن الوقت قد حان بالنسبة إليهم للحصول على التمثيل الذي يشعرون أنه ينعكس في ثقل السكان الشيعة في لبنان”.
خلال الشواغر الرئاسية السابقة، تمَّ مَلءُ الفراغ بشكلٍ عام من خلال المفاوضات خلف الكواليس بين البرلمانيين. لكن هذا لن يكونَ كافيًا لإخراج البلاد من مأزقها السياسي والاقتصادي الحالي، الذي دامَ سنواتٍ عدّة حتى الآن. تقول ماجد: “لقد انتظر هؤلاء القادة في كثير من الأحيان رعاةً في المنطقة. إنهم ينتظرون الآن أن يصبح أحدهم أكثر اهتمامًا بلبنان”.
لكن بينما ينتظرون – ومعهم البلد – التوصّل إلى حل، لم يُغَيِّر السياسيون اللبنانيون أساليبهم بعد. من خلال إقرار موازنة 2024، اختارت حكومة تصريف الأعمال زيادة الضرائب غير المباشرة على السكان الذين يواجهون أزمة اقتصادية مذهلة، بدلًا من فرض الضرائب على الممتلكات أو أرباح الشركات.
وسواء تفاقم المأزق الحالي بسبب الحرب أو تمَّ حلّه من خلال تسوية سياسية جديدة، فإنه يظل من غير الواضح متى سيأتي الحل. عبد الله الساعي ليس مُتأكّدًا من أنه سيكون موجودًا لرؤيته. وقال لكاتب هذا المقال: “نحن نفكر في العودة إلى كولومبيا. لا يوجد مستقبل في لبنان. لقد كانت هذه كلها عملية سرقة ضخمة”.
- فرانسيسكو سيرانو هو كاتب، صحافي ومحلل سياسي برتغالي. يركز أبحاثه على شمال أفريقيا والشرق الأوسط الكبير وأميركا اللاتينية. ألّفَ كتبًا عدة آخرها في العام 2022 حول الشرق الأوسط في العقد الذي أعقب الثورات الشعبية في العام 2011 بعنوان “أنقاض العقد” (As Ruínas da Década).
- كٌتِبَ هذا التحقيق بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.