حُدودُ “العلاقة الخاصة” بين إسرائيل و أميركا

كابي طبراني*

يبدو أنَّ الرئيس الأميركي جو بايدن قد سَئِمَ أخيرًا من سلوكِ إسرائيل في قطاع غزّة. في الأسبوع الفائت، أعلنت الإدارة الأميركية وقفًا مؤقتًا لإرسالِ الأسلحة إلى الدولة العبرية للضغط عليها ضد المضي قُدُمًا في الهجوم المُخَطَّط له على رفح، المدينة التي فَرَّ إليها مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين نتيجةً للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضدّ “حماس” في أماكن أُخرى في القطاع.

ونظرًا لأنَّ الكونغرس الأميركي قد وافَقَ أخيرًا على تمويلٍ إضافي لدَعمِ أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، فقد أثارَ ذلك خلافًا بين بايدن والجمهوريين في مجلس النواب، الذين أقرّوا مَشروعَ قانونٍ يوم الخميس الفائت يُوَبِّخُ الرئيس ويسعى إلى إجبارِهِ على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل. وعلى الرُغمِ من عَدَمِ وجودِ فُرصةٍ لتمريره في مجلس الشيوخ الذي يُسَيطرُ عليه الديموقراطيون، إلّا أنه قد تكون له آثارٌ انتخابية في تشرين الثاني (نوفمبر) المُقبل.

في بعض النواحي، كانت هذه النتيجة مسألةَ وقتٍ فقط. لقد أثارَت الطريقة التي أدارت بها إسرائيل حملتها العسكرية في غزّة الجَدَلَ والغضبَ في مختلف أنحاء العالم. وأدّى ذلك إلى اتهاماتٍ بالإبادة الجماعية في محكمةِ العدل الدولية وإجراءِ تحقيقاتٍ في جرائم حَربٍ في المحكمة الجنائية الدولية. في الولايات المتحدة، أثارَ هذا الأمرُ احتجاجاتٍ في جميع أنحاءِ البلاد، ولا سيما في حرم الجامعات. وعلى الرُغمِ من رغبة إدارة بايدن في وَقفِ القتال، فقد أجبرت العمليات العسكرية الإسرائيلية واشنطن على مواقف مُحرِجة يتعيَّنُ عليها فيها عَزل نفسها دوليًا من طريقِ استخدامِ حقِّ النقض (الفيتو) أو الامتناع عن التصويت على قرارات مجلس الأمن الدولي التي تدعو إلى وقف إطلاق النار.

وبينما كانت تصرّفاتُ الحكومة والجيش الإسرائيليين تجعَلُ من الصعب على الولايات المتحدة أن تظلَّ حليفًا قويًا، بقيَ دَعمُ بايدن لإسرائيل ثابتًا، على الأقل حتى أسبوعٍ مضى. ما الذي تَغَيَّر؟

يوم الخميس الفائت، خلصَ تقريرٌ صادرٌ عن وزارة الخارجية الأميركية إلى أنه على الرُغمِ من الحاجة إلى مزيدٍ من المعلومات، إلّا أنه “من المعقول التقييم” والقول بأنَّ الأسلحة والذخائر التي تُوَفّرها الولايات المتحدة لإسرائيل تُستَخدَمُ في “حالاتٍ تتعارَضُ مع إلتزامات [القانون الإنساني الدولي للولايات المتحدة] أو أفضل الممارسات الراسخة للتخفيفِ من الأضرارِ التي تَلحَقُ بالمدنيين”. واعترفَ التقريرُ بالتحدّي الذي يواجهُ الجيشَ الإسرائيلي، نظرًا إلى كيفية تمركُزِ ووجود “حماس” بين السكان المدنيين والاندماج  فيهم وفي البنية التحتية للقطاع. ولكن هذا ليس عُذرًا، خصوصًا عندما يتعلّقُ الأمرُ بالضرر الذي يَلحَقُ بالمدنيين العُزَّل الذين لا حولَ لهم ولا قوّة، كما بعُمّالِ الإغاثة الدوليين في غزة. ووَجَدَت وزارة الخارجية أدلّة دامغة على “انتهاكاتٍ مزعومة لحقوق الإنسان من قبل القوات الإسرائيلية خلال الفترة المشمولة بالتقرير”، وبخاصة “تأثير العمليات العسكرية الإسرائيلية على الجهات الفاعلة الإنسانية”. وشَمَلَ ذلك الغارة الإسرائيلية الأخيرة بطائرة مُسَيَّرة والتي أسفرت عن مقتل أعضاءٍ من منظمة “المطبخ المركزي العالمي” الخيرية.

ويُسَلّطُ تقريرُ وزارة الخارجية الضوءَ على حقيقةٍ مفادُها أنّهُ حتى لو لم يتّفق البعضُ مع وَصفِ سلوكِ الجيشِ الإسرائيلي بأنه “إبادة جماعية”، فلا تزال هناك أسبابٌ تجعلُ تصرّفاته مُثيرةً للقلق. وعلى وجهِ التحديد، حتى لو لم يكن سلوكُ إسرائيل نتيجةً لنيّةِ الإبادة الجماعية، فإنهُ يُشيرُ إلى مستوى من عدمِ الكفاءة وعدم الاحتراف وعدم المسؤولية.

إنَّ القصفَ المُكَثَّف على غزة يتعارَضُ مع الأدلّة التي تُشيرُ إلى عدم جدوى القصف الاستراتيجي. علاوةً، يبدو أنَّ العملية البرّية الإسرائيلية تُركّزُ على قتل مقاتلي “حماس”، بدلًا من تأمين المناطق، وهذا بدوره يؤدّي إلى وَضعٍ يُطيلُ أمَدَ مُعاناة المدنيين الفلسطينيين العالقين بين الجيش الإسرائيلي و”حماس”. ولهذا السبب حذّرَ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن قبلَ أشهرٍ من أنَّ إسرائيل تُواجِهُ “هزيمةً استراتيجية” على الرُغمِ من انتصاراتها التكتيكية. وكما ذكرت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد قبل أشهر، فإنَّ اختلاطَ “حماس” بالسكان المدنيين في فلسطين لا يبرّرُ قتل المدنيين. بدلًا من ذلك، فإنّهُ يزيدُ العبءَ على القوات الإسرائيلية لاتِّخاذِ جميع التدابير اللازمة لتجُّنبِ سقوط قتلى في صفوف المدنيين. وقد فشلت إسرائيل في اتِّخاذِ مثلِ هذه التدابير.

وهذا ما دفع إدارة بايدن أخيرًا إلى القيام بما هو أكثر من مجرّد عَقدِ الحاجِبَين أو التعبير عن مخاوف جدّية بشأن سلوك إسرائيل. وكما كتبَ بعض المعلّقين الأميركيين قبل الحرب الحالية، فإنَّ العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي علاقة خاصة، ولكنها ليست غير قابلة للتخريب. هناكَ حدود. ويبدو أن إسرائيل وجدت أخيرًا تلك الحدود. كانت الكتابة علنية لبعض الوقت. وبحسب بعض التقارير، وَصفَ بايدن في عددٍ من المناسبات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه أحمق” و “مُتَهوِّر”.

ولكن، لا يخطئَنَّ أحدٌ، فالعلاقاتُ بين الولايات المتحدة وإسرائيل ليست مُعَرَّضة لخطرِ التمزّق والتخريب بسبب هذه القضية. التوتّرات بين الحليفين ليست جديدة. ولنتأمل هنا كيف عارضت الولايات المتحدة منذ فترةٍ طويلة تطوير إسرائيل للقنبلة النووية. لقد فعلت إسرائيل ذلك على أيّةِ حال. وعلى الرُغمِ من أنَّ العلاقة لم تكن أبدًا “مُصَفَّحة” كما يؤكد البعض، بما في ذلك بايدن نفسه، فإنَّ الولايات المتحدة ليست على وشك التخلّي عن إسرائيل بالكامل.

علاوةً على ذلك، يجب الأخذُ في الاعتبار أنَّ إسرائيل، على أساس الأسلحة التي تمتلكها أصلًا والتي تلقّتها من الولايات المتحدة، لا تزال قادرةً تمامًا على تنفيذ عمليتها العسكرية في رفح. في بعضِ النواحي، يُشبهُ تهديدُ بايدن لإسرائيل تصريحه في العام 2021 بقطع “الدعم الهجومي” للمملكة العربية السعودية، أي الذخائر التي يُمكِنُ أن تستخدمها القوات السعودية لتنفيذِ ضرباتٍ في اليمن. مع ذلك، واصلت الولايات المتحدة تقديمَ دَعمٍ عسكري آخر للمملكة، الذي مَكّنها من مواصلة عملياتها في اليمن.

لكنَّ السببَ الرئيس وراءَ عدم تخلّي الولايات المتحدة عن إسرائيل بشكلٍ كامل هو أنَّ الدولة العبرية، مثل المملكة العربية السعودية، تُشَكّلُ عنصرًا أساسيًا في مواجهة التهديد الرئيس لمصالح أميركا في المنطقة: إيران. وهذا كان بمثابة الدافع الأساس لاتفاقات أبراهام التي أدّت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض جيرانها العرب، وكذلك أساس الجهود المُستمرّة التي تبذلها واشنطن لتطبيع العلاقات بين تل أبيب والرياض.

في نهاية المطاف، رأت الولايات المتحدة أنه على الرُغم من التزامها تجاه الجيش الإسرائيلي، إلّا أنها تتحمّلُ أيضًا مسؤولية حماية المدنيين في غزة، الذين يموتون بسبب الطريقة التي تُنَفّذُ بها إسرائيل عملياتها العسكرية. وفي هذه الحالة، فإنَّ النيّة، التي أصبحت محورَ الاتهامات بشأنِ سلوكِ إسرائيل باعتباره “إبادة جماعية”، لا صلة لها. كما إنَّ ازدراءَ “حماس” المُتعَمَّد لحياة المدنيين الفلسطينيين لا علاقةَ له بالموضوع. الأمر ذو الصلة هو أنَّ إسرائيل تتحمّلُ مسؤوليةَ تنفيذ عملياتها بطريقةٍ تتفق مع التناسب والتمييز والقانون الإنساني. لقد فشلت في تحمل تلك المسؤولية، سواء كانت نيّة إبادة جماعية أم لا.

قد يظلُّ السلوك غير الكفؤ وغير الاحترافي في الحرب أمرًا غير قانوني. وحتى لو تمَّ تنفيذه بدون نيّةِ قَتلِ المدنيين، فإنَّ استخدامَ القوة العسكرية التي تقتل المدنيين بشكلٍ غير متناسب لا يزال خارج حدود ممارسات القانون الإنساني الدولي المقبولة. وفي مجال القانون العام، يُشبه هذا الأمر الفَرقَ بين القتل المتعَمَّد والقتل غير المُتَعمَّد. يبدو أنَّ إدارة بايدن مستعدة أخيرًا لتناول هذه القضية. مع ذلك، فهي لن تتخلى عن إسرائيل، ولكنها سئمت أيضًا من الارتباط بعدم كفاءتها ووحشيتها العسكرية.

كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى