لماذا تَراجَعَت إيران وإسرائيل عَن حافَةِ الهاوية؟
على الرُغم من أنَّ واشنطن عازمةٌ على الإنسحابِ التدريجي من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، فإنَّ الديبلوماسية الأميركية في الآونة الأخيرة أثبتت أنها ما زالت مفتاح الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، وقد يُجبرها هذا الأمر على إعادة النظر في قرار هذا الانسحاب.
وَلي رضا نصر*
أدّى وابِلُ الهجماتِ والرَدُّ المُضاد عليها بين إيران وإسرائيل في الأسبوعين الأوَّلين من نيسان (أبريل) الفائت إلى تغييرِ المَشهَدِ الاستراتيجي في الشرق الأوسط بشكلٍ جذري. في الأول من نيسان (أبريل)، أدّت غارةٌ جوية إسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق إلى مقتلِ سبعةٍ من قادة الحرس الثوري الإسلامي، من بينهم جنرالان. بعد أسبوعين، ردّت إيران بوابلٍ من الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ، والتي تمَّ اعتراضُها كلّها تقريبًا. ردّت إسرائيل بسرعةٍ بهجومٍ بطائرات مُسَيَّرة وصواريخ على قاعدة جوية في إيران. وقد أدّى هذا التبادل إلى خروجِ حَربِ الظلّ التي يخوضها البلدان منذ أكثر من عقد من الزمن إلى العَلَن.
لقد أصبحَ من الواضح الآن أنَّ التنافُسَ المُتصاعِد بين إيران وإسرائيل سوفَ يُشَكِّلُ الأمنَ الإقليمي ويَدفَعُ سياسات الشرق الأوسط في المستقبل المنظور. يَنظُرُ كلُّ طَرَفٍ إلى الآخر باعتباره العدو اللدود الذي يجب عليه هزيمته بالوسائل العسكرية. إذا تُرِكَت المُنافسة الخطيرة بينهما من دونِ رادعٍ، فإنّها ستؤدّي إلى زعزعةِ استقرار المنطقة، وقد تؤدي في النهاية إلى صراعٍ يجرُّ الولايات المتحدة إلى حربٍ مُكلِفة. لذا، كان على واشنطن صياغة استراتيجيةٍ ديبلوماسية لتهدئة القوى التصعيدية التي عجّلَت بحدوث مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل في نيسان (أبريل) – ويُمكِنُ أن تفعلَ ذلك مرةً أخرى.
شَبَحُ حربٍ أوسع
أدّى الهجومُ الذي شنّته “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى إضعافِ هالةِ إسرائيل التي لا تُقهَر، وتقويضِ شعورها بالأمن. وقد شنّت إسرائيل ردًا عنيفًا، سعيًا إلى تدمير “حماس”، وتحرير الرهائن الإسرائيليين الذين ما زالوا في غزة، واستعادة الثقة في قدرتها على ردع الهجمات الخارجية وحماية سكانها. لقد استعصى على إسرائيل حتى الآن تحقيق الأهداف الثلاثة.
إنَّ الهجومَ الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية، مثل حملتها في غزة، كان مدفوعًا جُزئيًا بالرغبة في ضَمانِ عَدَمِ تَكرارِ هجومٍ بحَجمِ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أبدًا. وأسفرت الغارة عن مقتل محمد رضا زاهدي، قائد الحرس الثوري الذي نسّقَ العمليات العسكرية ل”حزب الله” في لبنان، والحوثيين في اليمن، وجماعات مسلحة أخرى في المنطقة حشدتها طهران لدعم “حماس” في الأشهر الستة الماضية. من خلال استهداف زاهدي، أوضحت إسرائيل أنها تَعتَبِرُ إيران المسؤولة النهائية عن الأزمة الحالية. وبقتله في مجمعٍ ديبلوماسي، أظهرت استعدادها وقدرتها على اغتيال كبار المسؤولين الإيرانيين في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ وقت.
لم تَكُن هذه هي المرة الأولى التي تضرب فيها إسرائيل قواعد إيرانية في سوريا أو تقتل كبار ضباط وقادة الحرس الثوري هناك. حتى قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت إسرائيل هاجمت البُنية التحتية الصناعية والمنشآت العسكرية الإيرانية، وقتلت علماءً نوويين داخل إيران، وضربت قواعد تستخدمها الميليشيات الشيعية العراقية بالقرب من الحدود العراقية-السورية، واستهدفت بشكلٍ روتيني قوافل الشاحنات المسافرة من إيران إلى سوريا عبر العراق. أصبحت الهجمات الإسرائيلية في سوريا أكثر جرأةً ابتداءً من أوائل العام 2022، عندما خفَّضت روسيا وجودها هناك للتركيز على أوكرانيا، ولم تَعُد تعمل كضابطٍ على أينَ ومتى يُمكِنُ للمقاتلات والمُسَيَّرات الإسرائيلية أن تُغيرَ وتضرُب.
من جهتها، امتنعت إيران بشكلٍ عام عن الردِّ بشكلٍ مباشر. كانت آخر مرة انخرطت فيها الجمهورية الإسلامية في سياسةٍ انتقامية مع الدولة العبرية في شباط (فبراير) 2018، عندما ردّت إسرائيل على طائرةٍ مُسَيَّرة تديرها إيران دخلت مجالها الجوي (وهو اتهامٌ نفته طهران) بضربةٍ على مواقع إيرانية في سوريا. وأعقبت ذلك مناوشة أسقَطَت فيها القوات السورية طائرة مقاتلة إسرائيلية من طراز “أف-16”. وتجنّبَت إيران منذ ذلك الحين المواجهة المباشرة لصالح ما تُسمّيه “الصبر الاستراتيجي”، مع التركيزِ على بناءِ قدراتها العسكرية في سوريا والامتناع عن الإجراءاتِ التي قد تؤدّي إلى التصعيدِ مع إسرائيل.
لكن عندما هاجمت إسرائيل قنصليتها، غيّرَت إيران استراتيجيتها. لقد فَسَّرَت هذه الخطوة على أنها استفزازٌ كبيرٌ يَتَطَلّبُ ردًّا مُباشِرًا. ولم يجد قادة إيران سببًا كافيًا لافتراضِ أن إسرائيل لن تلجأ إلى المزيد من التصعيد ــ ليس فقط في سوريا، بل وأيضًا في لبنان وحتى في إيران ــ إذا فشلوا في استعادة الردع.
مع ذلك، كانَ حجمُ رَدِّ الفعل الإيراني مُفاجِئًا ومُثيرًا للقلق. فقد أعلنت طهران عن نواياها، وأبلغت الولايات المتحدة برَدِّها المُخطَّط له من خلال وسطاءٍ أوروبيين وعرب. بعد ذلك، ومن خلال إطلاق مئات الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ على إسرائيل، أوضحت إيران أنها لن تُمارِسَ الصبرَ الاستراتيجي بعدَ الآن، ومن الآن فصاعدًا ستردُّ عندما تتعرَّضُ للهجوم.
صَدَّت إسرائيل معظم المُسَيَّرات والصواريخ الإيرانية بمساعدة الأردن وبريطانيا والولايات المتحدة. ومن المُرَجَّح أنَّ طهران توقَّعت مثل هذه النتيجة. لم تكن نيّةُ إيران إثارة الحرب، بل فقط إظهار استعدادها لمهاجمة إسرائيل. مع ذلك، ردّت إسرائيل بشنِّ هجومٍ صاروخي على قاعدةٍ جويةٍ عسكرية رئيسة في وسط إيران. ويبدو أنَّ تلك الضربة أنهت هذه الجولة من الهجمات المُتبادَلة، لكنها أكّدت أيضًا أنَّ القواعِدَ التي أرشَدَت حربَ الظل بين إيران وإسرائيل لسنوات لم تَعُد قابلة للتطبيق. والآن، فإنَّ أيَّ هجومٍ من جانبِ أيٍّ من الطرفَين سوف يستدعي ردًا مباشرًا من الطرف الآخر، مما يثيرُ شبحَ حربٍ أوسع.
خفض درجة حرارة الصراع
تُريدُ واشنطن وحلفاؤها تجنُّبَ مثل هذا التصعيد، وطهران تعرِفُ ذلك. مباشرةً بعد الهجومِ على القنصلية في دمشق، تَحَرّكَت الولايات المتحدة وشركاؤها في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط بسرعةٍ لمَنعِ الأزمة من التصاعد إلى حرب. وأكدت أميركا لإيران أنها لم تكن على عِلمٍ بخططِ إسرائيل للضربة مُقدَّمًا، ثم أشارت إلى مخاوفها بشأنِ مخاطر حربٍ أوسع سواء في البيانات العامة أو عبر وسطاء. وتحدّثَ ديبلوماسيون عرب وأوروبيون، يحملون رسائل من واشنطن، إلى المسؤولين الإيرانيين مباشرةً. وحثّوا طهران على عدم الردِّ على الإطلاق، لكنهم أكدوا أيضًا أنه إذا حدثَ ردٌّ، فيجب قياسه بنطاقٍ محدود ومجموعة محدودة من الأهداف، حتى لا يؤدّي إلى مزيدٍ من التصعيد. وبعد الرَدِّ الإيراني، أعادت واشنطن وحلفاؤها توجيه جهودهما، ضاغطين هذه المرة على إسرائيل للتخفيف من ردّها.
نجحت الطفرة الديبلوماسية في احتواء الأزمة. كما أوضحت أنَّ الأولوية القصوى لأميركا هي منع الحرب في غزة من إشعال حريق إقليمي وجرِّ واشنطن إلى حربٍ أُخرى مُكلِفة في الشرق الأوسط. والحقيقة التي تعمل لصالح الولايات المتحدة هي أنَّ إيران وإسرائيل لا تحرصان على الصراع المباشر، على الرُغمِ من استعراضهما الأخير للقوة. تُدرِكُ إيران أنَّ إسرائيل دولةٌ نووية تتمتّعُ بقُدراتٍ تقليدية متفوِّقة، وأنَّ الحربَ مع إسرائيل ستعني في نهايةِ المطاف الحربَ مع الولايات المتحدة. من جانبها، تُدرِكُ إسرائيل أنَّ صراعًا أكبر مع إيران من شأنه أن يجبرَ “حزب الله” على إطلاق المزيد من الصواريخ على المدن والمنشآت العسكرية الإسرائيلية. ومع ذلك، إذا أُرِيدَ للهُدنةِ الهَشَّة بين إيران وإسرائيل أن تَصمُد، يجب على واشنطن أن تظلَّ مُنخَرِطةً بعُمق. ويتعيَّنُ عليها أن تعمَلَ بشكلٍ وَثيقٍ مع إسرائيل لمُعالجةِ المخاوف الأمنية للبلاد، ويتعيَّن عليها أن تبني على التقدُّمِ الديبلوماسي الذي أحرزته مع إيران في الأسابيع الأخيرة.
في الوقت نفسه، يلوحُ في الأفق احتمالُ حدوثِ تصعيدٍ خطيرٍ آخر في المنطقة. قد يؤدي التوغّلُ الإسرائيلي في رفح إلى التعجيل بمواجهةٍ أُخرى إذا شعرت إيران وحلفاؤها بأنهما مُجبَران على التحرّك مع تفاقم الأزمة الإنسانية هناك أو لمنع إبادة “حماس”. كما إنَّ وَقفَ إطلاقِ النار طويل الأمد بين إسرائيل و”حماس” من المُمكن أن يُمَهِّدَ الساحة لمزيدٍ من الصراع، لأنه من شأنه أن يُحَرِّرَ إسرائيل للتركيز على “حزب الله” ــ كما ألمحت سابقًاــ أو استهداف إيران مرة أخرى في سوريا. إنَّ إيران وإسرائيل ليستا مُستَعِدَّتَين للقتال الآن، ولكن إذا استمرت كلٌّ منهما في النظر إلى الأخرى باعتبارها تهديدًا مُميتًا ووجوديًا لا يمكن مواجهته إلّا عسكريًا، فإنَّ الصراعَ المستقبلي يصبح أمرًا مؤكّدًا.
مخاطر متصاعدة
إن استعدادات البلدين لهذا الصراع من شأنها أن تُغَيِّرَ التوازن الأمني في المنطقة بطُرُقٍ عدة. أوّلًا من خلال سباق التسلّح – فبعد التبادل العسكري الأخير بينهما، سوف تقوم إيران وإسرائيل بتسريع مساعيهما للحصول على قدراتٍ هجومية ودفاعية أكثر تقدّمًا. ولأنَّ إيران وإسرائيل لا تشتركان في حدودٍ مشتركة، فإنَّ الحربَ بينهما لن تتطلّبَ دبابات ومدفعية وجنودًا بل ستكون بالصواريخ والطائرات المسيَّرة، وعلى الجانب الإسرائيلي، الطائرات المقاتلة. إنَّ تكديسَ هذه الأسلحة لن يجعلَ الحرب بين العدوّين أكثر احتمالًا وأكثر تدميرًا فحسب؛ بل سيؤدي إلى حشدٍ عسكري مُزعزِع للاستقرار في جميع أنحاء المنطقة. وطهران، التي تعلم أنها لن تكونَ قادرةً على الأرجح على مواكبةِ سباقِ التسلّحِ التقليدي، قد تُضاعِفُ جهودَها لتأمين الأسلحة النووية.
سوفَ يتطلّعُ كلا البلدين أيضًا إلى الحصولِ على مِيزةٍ جغرافية. في الجولة الأخيرة من الهجمات، لم تعتمد الفعالية النسبية للضربات الإيرانية والإسرائيلية على القدرات التكنولوجية فحسب، بل أيضًا على مواقع إطلاقها. كان على الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ الإيرانية أن تجتازَ العراق والأردن للوصول إلى إسرائيل، مما قلّلَ من عنصر المفاجأة وأتاح للأردن والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الفرصة لاعتراضِ عددٍ كبيرٍ منها قبل أن تصلَ إلى أهدافها. وعلى النقيض من ذلك، من المُحتَمَلِ أن تكونَ إسرائيل قد شنَّت هجومها من المجال الجوي العراقي عبر الحدود الإيرانية مباشرة.
لقد اتَّبَعَت إيران منذ فترةٍ طويلة استراتيجية تسليح “حزب الله” بالصواريخ على حدود إسرائيل بينما تحاول حرمان إسرائيل من مكانةٍ مُماثِلة في البلدان المحيطة بإيران. لم تلجأ طهران إلى “حزب الله” في الآونة الأخيرة، لكنها قد تفعل ذلك في المرة المقبلة. وقد تسعى إيران أيضًا إلى زيادة قدراتها الصاروخية والطائرات المُسَيَّرة في سوريا، التي تشترك في الحدود مع إسرائيل. وهذا من شأنه أن يُشَكِّلَ تهديدًا كبيرًا لإسرائيل، التي من المُرَجَّحِ أن ترُدَّ بتكثيف الهجمات على مواقع إيران و”حزب الله” في لبنان وسوريا. وبالتالي فإنَّ القوات الأميركية التي تبقى في سوريا لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضا ب”داعش”) يُمكِنُ أن تنجذبَ إلى مهمة أخرى: منع الحشد العسكري الإيراني الذي يمكن أن يؤدّي إلى حربٍ إيرانية-إسرائيلية.
ومع تعزيزِ إيران لقدراتها العسكرية على حدود إسرائيل، قد ترد الأخيرة بالمثل من خلال ترسيخ وجودها الاستخباراتي والعسكري على حدود الجمهورية الإسلامية. وتشهدُ أذربيجان والمنطقة الكردية في شمال العراق بالفعل أرضية للعمليات الإسرائيلية. ومن المرجح أن تقوم إسرائيل بتوسيع تلك البصمة، الأمر الذي سيستدعي ضغطًا ديبلوماسيًا وعسكريًا إيرانيًا على كلٍّ من أذربيجان وكردستان العراق. وقد أجرَت إيران أخيرًا مناوراتٍ عسكرية واسعة النطاق على حدودها مع أذربيجان، وأطلقت صواريخ على قواعد استخباراتية إسرائيلية مزعومة في المنطقة الكردية شمال العراق. ومن الممكن أن تزداد حدّة هذه الضغوط. وقد تتطلّعُ أذربيجان وحكومة إقليم كردستان بعد ذلك إلى تركيا والولايات المتحدة للحصول على الدعم الديبلوماسي والدفاع الجوي. قد تكون تركيا قادرة على التوسط بين إيران وأذربيجان، لكن الولايات المتحدة وحدها هي القادرة على توفير الحماية لحكومة إقليم كردستان – ومن المرجح أن تتطلب مثل هذه الحماية وجودًا عسكريًا أميركيًا أكبر.
قد يكونُ التوسّعُ المُحتَمَل لشراكات إسرائيل في الخليج العربي أكثر أهمية. تتمتع الدولة العبرية بعلاقات رسمية وثيقة مع البحرين والإمارات العربية المتحدة، وتتعاون هاتان الدولتان، إلى جانب المملكة العربية السعودية، مع إسرائيل في قضايا الاستخبارات والأمن. لكن إسرائيل لا تمتلك حتى الآن قاعدة عمليات في هذه المنطقة يُمكنها من خلالها استهداف إيران مباشرة. حتى قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت إيران تخشى التوصل إلى اتفاقٍ بوساطة أميركية تحصل بموجبه إسرائيل على قاعدة في السعودية ستكونُ مَحميّةً بموجب اتفاقية دفاع أميركية مع الرياض. ومع تحوّل الرأي العام السعودي بشكلٍ حاد ضد إسرائيل منذ بداية الحرب في غزة، فإنَّ هذا الاحتمال ليس وشيكًا. لكن محادثات التطبيع الإسرائيلية-السعودية المُتَوقِّفة لن تمنعَ واشنطن والرياض من تعميق شراكتهما الاستراتيجية. ومن المحتم أن تصبح هذه الشراكة متشابكة مع الصراع الإيراني-الإسرائيلي، مما يُعرّضُ أمنَ دولِ الخليج للخطر ويُقوِّضُ طموحاتها الاقتصادية.
بالنسبة إلى هذه البلدان، فإنَّ إمكانية إبرام اتفاقية دفاعية مع واشنطن تُمثّلُ معضلة. إنها تتوق إلى مثل هذا الضمان، لكنه سيجعلها أيضًا أهدافًا في أيِّ صراعٍ يتعلّق بإيران. فالصواريخ الإيرانية قادرة على الوصول إلى شواطئها في ثوانٍ؛ الاتفاق الديبلوماسي لا يُغيّرُ هذه الحقيقة. ومن عجيب المفارقات أن اتفاقية الدفاع تكون أكثر جاذبية في سيناريو تعمل فيه الولايات المتحدة وإيران على خفض التوترات بينهما.
لذلك فمن المرجح أن تُحاوِلَ دول الخليج البقاء في المنطقة الرمادية بين إيران وإسرائيل، على الأقل في الوقت الحالي. لكنَّ الحفاظَ على التوازن سيُصبحُ أكثر صعوبةً حيث تواجه ضغوطًا من كلِّ جانب لمنع الطرف الآخر من الوصول إلى أراضيها ومجالها الجوي. وسوف تضغط إسرائيل على واشنطن لاستخدام نفوذها في عواصم الخليج لتأمين التعاون، في حين ستُهدّدُ إيران بعواقب على أولئك الذين يتعاونون. كما إنَّ السكانَ العرب الغاضبين من الحرب في غزة سوف يضغطون على حكوماتهم حتى لا تساعد إسرائيل. وقد اكتشف الأردن، على سبيل المثال، صعوبة التنقّل في خطوط المعركة المتشددة هذه. لقد حذت حذو الولايات المتحدة في إسقاط طائرات مُسَيَّرة إيرانية مُتَّجهة إلى إسرائيل، لكن الانتقادات الشعبية لهذا القرار دفعت الحكومة إلى تكثيف انتقاداتها لسلوك إسرائيل في غزة.
سوف يُعاني العراق أكثر من أيِّ دولةٍ أُخرى في لُعبةِ شدِّ الحبل بين إيران وإسرائيل. وأصلًا، استخدمت إيران الأراضي العراقية والميليشيات العراقية لدعم عملياتها في سوريا ولمهاجمة القواعد الأميركية في العراق وسوريا، ونفّذت المخابرات الإسرائيلية عملياتٍ داخل إيران من المنطقة الكردية في شمال العراق. وخلال المواجهة الأخيرة، حلّقت طائرات مسَيَّرة وصواريخ إيرانية فوق العراق للوصول إلى إسرائيل، ومن المرجح أن إسرائيل شنّت هجومها على إيران من الفضاء العراقي. سيُصبِحُ العراق أكثر أهمية كخطِّ دفاعٍ أول ضد الهجمات الصاروخية الإيرانية، الأمر الذي قد يُشَجّعُ الولايات المتحدة على الاحتفاظ بتواجدها العسكري في البلاد وحتى توسيعه. من جانبها، ستُكثّفُ إيران الضغط على الحكومة العراقية لدفع الولايات المتحدة إلى الخروج من أراضيها. على سبيل المثال، قد تزيد الميليشيات الشيعية من هجماتها على المنشآت العسكرية الأميركية وأفرادها في العراق. وستُريدُ طهران أيضًا أن تُوقِفَ حكومة إقليم كردستان التعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة. وقد نفذت إيران بالفعل هجمات صاروخية على أهداف في شمال العراق تَدّعي أنها مُرتبطة بالموساد، وكالة المخابرات الإسرائيلية، وطلبت حكومة إقليم كردستان حماية دفاع جوي أميركي ضد إيران. كل هذه المعارك بالوكالة ستُعرّضُ استقرارَ العراق الهشّ للخطر.
العودة إلى فن الحُكم والدولة
قد يُجبِرُ التصعيدُ بين إيران وإسرائيل الولايات المتحدة على التخلّي عن خططها لتقليل وجودها العسكري في الشرق الأوسط. إذا كان هدفُ واشنطن هو تجنُّبَ التورّطِ في حربٍ إقليمية، فعليها ضمان الاستقرار الإقليمي. قد تكون غريزة واشنطن هي الاعتماد على قوتها العسكرية لردع إيران، لكنها في الحقيقة تحتاج إلى استراتيجيةٍ غير عسكرية في المقام الأول لاحتواء الصراع وإدارته. وبادئ ذي بدء، يتعيَّنُ عليها أن تستخدمَ كامل قوّتها الديبلوماسية للعمل نحو إنهاء الحرب في غزة، على أن يَعقُبَ ذلك السعي الجاد والمستدام إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. وهذه النتيجة ضرورية لبناءِ نظامٍ إقليميٍّ أوسع نطاقًا يعملُ على تقييد الدوافع التصعيدية التي تدفع الآن عملية صنع القرار الإيرانية والإسرائيلية. وقد أدت الحرب في غزة إلى تكثيف هذه الدوافع، ولن تهدأ التوتّرات إلّا من خلال إنهائها.
إنَّ نهايةَ حربٍ لا يجبُ أن تكونَ بدايةً لحَربٍ أُخرى في لبنان. سوف يكون لزامًا على إسرائيل و”حزب الله” أن يستعيدا السلام البارد الذي حافظا عليه في الفترة بين حربَي العام 2006 والسابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. إنَّ النجاحَ على هذه الجبهة، مُقتَرِنًا بخطواتٍ نحو حلٍّ سياسي للقضية الفلسطينية، أمرٌ بالغ الأهمية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وكذلك بين إسرائيل وبقية العالم العربي.
القطعةُ الأخيرة من اللغز هي إيران نفسها. إنَّ إدارةَ التهديدِ الذي تُشَكّلهُ إيران الآن على إسرائيل يجب أن تتجاوزَ تسليحَ إسرائيل وبثَّ الخوفِ من الانتقام الأميركي في طهران. يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تُفَكّرَ في القيام بدفعةٍ ديبلوماسية، على غرار جهودها للتوسّط بين إسرائيل و”حزب الله” خلال الأشهر الستة الماضية، لوَضعِ خطوطٍ حمراء بين إسرائيل وإيران. وعلى كلِّ طرفٍ أن يُوَضِّحَ أنواعَ الاستفزازات التي قد يعتبرها سببًا للتصعيد، ويُعقَدُ اتفاقًا ضمنيًا لتجنّبِ تجاوز تلك العتبات. ولكن لكي تبدأ مثل هذه العملية، يتعيَّنُ على الولايات المتحدة وإيران أن تعملا على الحدِّ من التوترات بينهما من خلال تجديد المناقشات حول برنامج إيران النووي والقضايا الإقليمية التي بدأاها في سلطنة عُمان العام الماضي ثم توفقت بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ومن المُفيد استئناف هذه المحادثات، الأمر الذي قد يُخفّضُ درجةَ حرارة التوتر بين إيران وإسرائيل. إنَّ مثلَ هذه التهدئة ضرورية قبل أن يُصبِحَ من الممكن تحقيقُ أيّ انفراجةٍ ديبلوماسية في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني – وهي قضيةٌ مُلِحّة أصبحت أكثر أهمية بسبب التنافس الإيراني-الإسرائيلي.
الجانبُ المُشرِقُ من أزمة نيسان (أبريل) هو أنَّ واشنطن وطهران تحدّثتا خلف الكواليس طوال أسبوعين. كان تواصلهما هو المفتاح لتجنُّبِ الكارثة. وبينما ترسُمُ واشنطن مسارها الديبلوماسي التالي، يجب عليها الاستفادة من هذا الانفتاح لتقليلِ خطرِ نشوبِ حرب أوسع. وينبغي لها أن تعملَ على إشراكِ إيران في مجموعةٍ من القضايا الإقليمية، مثل تهديد الحوثيين للشحن الدولي في البحر الأحمر، والبناء على جهودها الديبلوماسية السابقة لتحقيق الهدوء على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية. وهذا ليس الوقت المناسب للولايات المتحدة لتلجأ إلى الخيارات العسكرية كحلِّ الملاذ الأول. بدلًا، تتطلّبُ الظروف الأمنية المحفوفة بالمخاطر في المنطقة أن تُدرِكَ واشنطن إمكانات الدولة الأميركية.
- وَلي رضا نصر هو أستاذ ماجد خدوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. وهو مؤلف مشارك لكتاب “كيف تعمل العقوبات: إيران وتأثير الحرب الاقتصادية”. كان سابقًا مستشارًا للشؤون الإيرانية في وزارة الخارجية الأميركية. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” (X) على: @vali_nasr
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.