ماذا تُريدُ “حماس” ما بَعدَ الحَربِ في غَزّة؟

منذُ البداية، توقّعت “حماس” أنَّ غزوَها لجنوب إسرائيل من شأنه أن يجرَّ الدولة العبرية إلى صراعٍ أكبر، وهو الصراعُ الذي كانت تأمل أن ينضمَّ إليه “حزب الله” وغيره من أعضاء “محور المقاومة” الإيراني بسرعة.

السيد حسن نصرالله يستقبل إسماعيل هنية: تنسيق كامل بين “حزب الله” و”حماس” ولكن…

ماثيو ليفيت*

في السادس من أيار (مايو)، وفي محاولةٍ لإحباطِ عمليةٍ إسرائيليةٍ شبه مُؤكّدة في “رفح”، أعلن قادة “حماس” أنّهم على استعدادٍ لقبولِ اتفاقٍ مع إسرائيل بشأن تبادل الرهائن مقابل السجناء. يأتي هذا الإعلان بعد أسابيع من المماطلة من قبل “حماس”، مما أثار الآمال في واشنطن بإمكانيةِ التوصّلِ إلى صفقةٍ يُمكِنُ أن تؤدّي إلى تحرير عشرات الرهائن وإيقاف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة. ولكن حتى الآن، ظلَّ من غيرِ الواضح مدى التزام “حماس” بتنفيذ هذه الصفقة، أو ما إذا كانت تسعى ببساطة إلى إيجادِ وسيلةٍ للحفاظ على معقلها في “رفح”، حيث تعتقد إسرائيل أنَّ وحداتها المُتَبقّية وقيادتها المتمركزة في غزة تتحصّن هناك.

بعدَ سبعةِ أشهرٍ من الحرب في غزة، تسبّبَ الصراعُ بين إسرائيل و”حماس” في دمارٍ لا يُوصَف لأكثرِ من مليونَي إنسان من سكان غزة الذين تدَّعي “حماس” أنها تُمثّلهم، كما أدّى إلى تدميرِ مشروعِ حُكمِ “حماس” في القطاع. وهنا، لا بُدَّ أن نطرحَ سؤالَين أساسيين: ما هي أهداف “حماس”؟ وما هي استراتيجيتُها لتحقيقِها؟

مع هجومها غير المسبوق على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، سعت “حماس” إلى إعادةِ نفسها والقضية الفلسطينية إلى مركز الأجندة الدولية، حتى لو كانَ ذلك يعني تدميرَ قسمٍ كبير من غزة نفسها. كان الهدفُ من الهجوم أيضًا إحباطَ اتفاق تطبيعٍ مُحتمَل بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية من شأنه أن يُعزِّزَ المُعتدلين الفلسطينيين ويُهمِّشَ “حماس”.

لكن قادة “حماس” لديهم أيضًا أهدافٌ سياسية قد تبدو للوهلة الأولى غير بديهية. إنهم يحاولون إعفاءَ أنفسهم من العبء الوحيد المُتمثّل في حُكمِ قطاع غزة، الذي أصبح عائقًا أمامَ تحقيقِ هَدَفِ المجموعة المُتمثّل في تدمير إسرائيل. وكما أكّدت المُحادثات التي استضافتها الصين في أوائل شهر أيار (مايو) بين مسؤولي حَرَكَتَي “حماس” و”فتح”، فإنَّ قيادةَ “حماس” تُحاوِلُ أيضًا إطلاقَ عمليةِ مصالحة مع “فتح” والسلطة الفلسطينية، التي تسيطر عليها “فتح”، على الرُغم من سنوات العداء الشرس بين المجموعتين.

هذه الأهدافُ بدورها تَخدُمُ غَرَضًا أعمق. في سعيها إلى فَرضِ بُنيةِ حُكمٍ جديدة على غزة وإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية على صورتها، تأمل “حماس” في فَرضِ نموذجِ “حزب الله” على القطاع. ومثل “حزب الله”، الحركة الشيعية المُدَجَّجة بالسلاح والمدعومة من إيران في لبنان، تُريدُ “حماس” مُستَقبلًا أن تكون في آنٍ وحد جُزءًا من أيِّ بُنيةِ حُكمٍ فلسطينية قد تنشأ في غزة، وبعيدةً منها. بهذه الطريقة، كما هو الحال مع “حزب الله” في لبنان، تأمل في مُمارسةِ الهيمنة السياسية والعسكرية في غزة وفي نهاية المطاف الضفة الغربية من دون تحمّلِ أي مسؤولية تأتي من الحُكمِ وحدها. ولكي نَفهَمَ مشروعَ “حماس” الأكبر هذا وتداعياته المُهمّة بالنسبة إلى إسرائيل والمنطقة، فمن الضروري أن ندرُسَ تطوّرَ “حماس” في السنوات التي سبقت هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وما كانت هذه الحركة الإسلامية تأمل في تحقيقه من خلال قتل واختطاف العشرات من المدنيين الإسرائيليين.

تغييرُ المُعادلة

بعدَ أربعةِ أيام من 7 تشرين الأول (أكتوبر)، اعترَفَ أحدُ مسؤولي “حماس” علنًا بأنَّ الحركة كانت تُخطّطُ سرًّا للهجوم منذ أكثر من عامين. بَعدَ حربٍ قصيرة مع إسرائيل في أيار (مايو) 2021، أعادَ قادةُ “حماس” تقييمَ أهدافهم الأساسية. في تلك المرحلة، كانوا أمضوا في  حُكمِ قطاع غزة 14 عامًا –حيث طردوا السلطة الفلسطينية واستولوا على الحُكم في العام 2007، بعد عامَين من الانسحاب الإسرائيلي– كان بإمكانهم الاستمرار في الحفاظ على الوضع الراهن. على الرُغمِ من المناوشات المُتقطّعة مع إسرائيل، ظلت “حماس” متمركزة بقوة في غزة، مدعومةً بمئات الملايين من الدولارات في هيئة مساعدات من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، ومن أموال قطر لتغطية الرواتب العامة.

لكن بعدَ وقتٍ قصيرٍ من حرب 2021، قدم زعيم “حماس” في غزة، يحيى السنوار، لإسرائيل ما وصفه بنتيجتين بديلتَين. في ظهوره على الفضائية القطرية “الجزيرة”، شدّدَ السنوار على أنَّ “حماس” لا تزال تهدف إلى “إزالة” إسرائيل من الوجود، لكنه مُستَعِدٌّ للدخول في هُدنةٍ طويلة الأمد مع الدولة العبرية – بشرط موافقة إسرائيل على قائمةٍ طويلةٍ من المطالب، بما فيها تفكيك جميع المستوطنات، وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين، والسماح للفلسطينيين بحق العودة. لكنه قال إنَّ أيَّةَ هُدنة من هذا القبيل ستكون مؤقتة ومدفوعةً بحتمية تحقيق الوحدة بين الفصائل الفلسطينية، وهو ما يعني على الأرجح دعم موقف “حماس” المُتمثّل في إزالة إسرائيل في نهاية المطاف.

كما تفاخَرَ السنوار بأنَّ “حماس” كانت على اتصالٍ بالفعل مع “إخوانها في لبنان” (حزب الله) ومع الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وأشارَ إلى أنَّ هؤلاء الحلفاء كانوا سيدعمون “حماس” في حرب 2021 لو أنها اشتدّت وطالت أكثر. وسرعان ما بدأت “حماس” تعقدُ اجتماعات منتظمة مع مسؤولين من إيران و”حزب الله”. بعد أربعة أشهر، قامت “حماس” أيضًا برعاية مؤتمرٍ في غزة استضافه السنوار نفسه، وكان مُخَصَّصًا لخطط “تحرير فلسطين” بعدَ “إزالة” إسرائيل. ودعا المؤتمر إلى استبدال منظمة التحرير الفلسطينية بمجلسٍ جديد لتحرير فلسطين يضمُّ “جميع القوى الفلسطينية والعربية التي تؤيّدُ فكرة تحرير فلسطين، بمساندة القوى الصديقة”.

في الوقت نفسه، بدلًا من إعطاءِ الأولوية لمشروعِ الحُكمِ في قطاع غزة، بدأت “حماس” سرًّا تنفيذَ خطّةٍ طويلة الأمد ولكنها لا تزال نظرية لشنِّ هجومٍ برّي على إسرائيل والشروعِ في ما كانت تأمل أن يكون سلسلة من ردود الفعل التي من شأنها أن تؤدّي إلى تدمير إسرائيل. وتظاهرَ قادةُ الحركة بأنهم يُركّزون على حُكمِ غزة وتلبيةِ احتياجاتِ الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، في حين أنهم في الواقع كانوا يقومون بتخزين الأسلحة الصغيرة، كما اعترف مسؤول في “حماس” يدعى خليل الحيّة في وقتٍ لاحق، “إستعدادًا للهجوم الكبير”. في نهاية المطاف، كما قال الحيّة، خلصت “حماس” إلى أنها بحاجة إلى “تغيير المعادلة برمّتها” مع إسرائيل.

الآن الآن وليس غدًا

مع التخطيطِ لهجوم “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي كان يجري على قدمٍ وساق، أصبحَ قادةُ “حماس” مُقتنعين بشكلٍ مُتزايد بالحاجة المُلحّة إلى القيامِ بشيءٍ جذري. أوّلًا، بدا أنَّ الدعمَ الذي تحظى به الحركة في غزة يتآكل. كانت استراتيجية إسرائيل قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) تجاه “حماس” مَبنيةً على شراءِ الهدوءِ من خلال السماح للأموال القطرية بالتدفُّقِ إلى غزة على أملِ أن يؤدّي ذلك إلى تقليل الدعم لنضال “حماس” بين سكان غزة.

ورُغمَ كل الانتقادات التي واجهتها إسرائيل بسبب هذا النهج في الأشهر التي تلت هجوم “حماس”، هناكَ بعضُ الدلائل على أنه كان ناجحًا. على سبيل المثال، كشفَ استطلاعٌ للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في تموز (يوليو) 2023، أنَّ 72% من سكان غزة يوافقون على أنَّ “”حماس” غير قادرة على تحسين حياة الفلسطينيين في غزة” وأنَّ 70% يؤيدون الاقتراحَ الذي تَقدّمت به مُنافِسة “حماس” السلطة الفلسطينية، بتولّي الأمن في غزة. بالنظر إلى هذه الأرقام، لم يكن بوسعِ “حماس” إلّا أن تستنتجَ أنَّ مشروعَ الحُكم في غزة كان مُتعثّرًا ومُتَخبّطًا.

كانت “حماس” أيضًا تخشى من التطبيع الإسرائيلي مع السعودية. كان السعوديون يطالبون إسرائيل باتِّخاذِ خطواتٍ ملموسة ولا رجعة فيها نحو حلِّ الدولتين، وأن تدخُلَ واشنطن في معاهدة أمنية رسمية مع الرياض؛ وفي المقابل، سيعترف السعوديون رسميًا بإسرائيل. من المُرَجَّح أنَّ غالبية الفلسطينيين اعتبرت التقدُّمَ على مسار إقامة الدولة الفلسطينية أمرًا جيدًا، ولكن ليس “حماس”، التي كانت دائمًا تُعارضُ حلَّ الدولتين ومُلتَزِمةً بتدميرِ إسرائيل. لقد أدرَكَت “حماس” أيضًا أنه في ظلِّ حَلِّ الدولتين، من المتوقّعِ أن يقومَ الجانبان بقمعِ المُتَطَرِّفين العنيفين في كلٍّ منهما، وهو شيءٌ لا يُبشِّرُ بالخير بالنسبة إلى “حماس” وحلفائها.

في الوقتِ نفسه، من المُرَجَّحِ أنَّ “حماس” رأت في عدم الاستقرار الذي طالَ أمده في إسرائيل فرصةً ذهبية. إلى جانبِ تَصاعُدِ العنف في الضفة الغربية والاشتباكات بين المُصلّين الفلسطينيين وقوات الأمن الإسرائيلية في المسجد الأقصى بالقدس، واجهت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية أشهرًا من الاحتجاجات على إصلاحاتها القضائية المُقتَرَحة. وبسبب التوتّرات المتزايدة في الضفة الغربية –المدفوعة جُزئيًا بالجهود التي يبذلها قادة “حماس” الخارجيون، مثل صلاح العاروري، للتحريض على شنِّ هجماتٍ ضدّ الإسرائيليين– قامت قوات الدفاع الإسرائيلية بنقلِ المزيدِ من الموارد إلى هناك، تاركةً حدود غزة أكثر تُعَرُّضًا.

في خضمِّ هذه التطوّرات، قرّرت “حماس” شنَّ هجومها في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وبالعودة إلى مؤتمر السنوار لعام 2021، والذي هدّدّ فيه بالردِّ على الإجراءات التي اعتبرتها “حماس” بأنها تقوِّض المطالبات الفلسطينية بالقدس، أطلقت الحركة عملية “طوفان الأقصى”.

“نحن بحاجة إلى هذا الدم”

منذُ بداية خططها، توقّعت “حماس” أنَّ غزوَها لجنوبِ إسرائيل من شأنه أن يجرَّ الدولة العبرية إلى صراعٍ أكبر، وهو الصراعُ الذي كانت تأمل أن ينضمَّ إليه “حزب الله” وغيره من أعضاء “محور المقاومة” الإيراني بسرعة. (من المفهوم الآن أنَّ “حماس” احتفظت بالتفاصيل الدقيقة لهجومها، بما في ذلك التاريخ الدقيق، لكن إيران و”حزب الله” كانا على عِلمٍ بالمفهوم العام). كما خطَّطَ قادة “حماس” لاحتمالِ أن يُحَقِّقَ الهجومُ المزيد، بما في ذلك السيناريو الذي يتم فيه ربط مقاتلي “حماس” المُتَمَركِزين في غزة مع المقاتلين في الضفة الغربية ومتابعة الهجوم الأولي من خلال استهداف المدن والقواعد العسكرية الإسرائيلية. ولتحقيقِ هذه الغاية، عندما انطلق مقاتلو “حماس” من غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانوا يحملون ما يكفي من الغذاء والعتاد لأيامٍ عدة.

في نهاية المطاف، عطّلت القوات الإسرائيلية تلك الخطط المُتَطرِّفة، ولكن قبل أن تتمكّنَ من استعادة السيطرة على المناطق الحدودية حول غزة، ارتكبَ مهاجمو “حماس” فظائع مروِّعة، فقتلوا حوالي 1200 إسرائيلي ومواطن أجنبي، واحتجزوا أكثر من 200 رهينة، وقاموا بتسجيل وبثِّ جرائمهم. حتى أنَّ “حماس” استخدمت الهواتف المسروقة لاختطاف وسائل التواصل الاجتماعي وحسابات ال”واتساب” الخاصة بالضحايا، والتي بثت عبرها الهجمات مباشرة، وأصدرت تهديدات لأُسَرِ الضحايا، ودعت إلى ارتكابِ المزيد من أعمال العنف. وعثرت القوات الإسرائيلية في وقتٍ لاحق على وثائق مع جُثَثِ مُهاجمي “حماس” المقتولين تأمرهم بـ”قتلِ أكبرِ عددٍ مُمكِنٍ من الأشخاص” و”احتجاز الرهائن”. ووجَّهت إحدى الوثائق العملاء على وجه التحديد لاستهداف الأطفال في مدرسةٍ ابتدائية ومركز للشباب.

من خلالِ تنظيم هذه الفوضى وإضفاء الإثارة عليها، سعت “حماس” إلى استفزازِ إسرائيل ودفعها إلى غزوٍ برّي كبير لغزة. وكانت إحدى الركائز الأساسية لهذه الاستراتيجية هي بدء حرب من شأنها أن تتسبَّب في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا الفلسطينيين، كما أكد زعيم “حماس” السياسي في الدوحة، إسماعيل هنية، بصراحة في خطابٍ بالفيديو بعد أيامٍ من 7 تشرين الأول (أكتوبر): “إنَّ دماءَ أهل غزة نحن نحتاجها لإيقاظ الروح الثورية فينا…”.

لم يكن من قبيل المُصادفة أن تقومَ “حماس” ببناءِ أكثر من 300 ميل من الأنفاق في غزة لحماية مقاتليها، ولكن ليس ملجأ واحدًا لحماية المدنيين الفلسطينيين. كانت “حماس” تعلم جيدًا أنَّ الردَّ الإسرائيلي سيؤدي إلى سقوط ضحايا من المدنيين الفلسطينيين، وأنه سُينهي أيضًا مشروع حكم “حماس” في غزة، وهي المسؤولية التي كانت الجماعة حريصة على التخلّي عنها.

نجاحٌ كارثي

على الرُغمِ من طموحاتها القصوى للوصول إلى تل أبيب والتواصُل مع زملائها المُسَلَّحين في الخليل، فمن الواضح أنَّ “حماس” لم تكن مستعدة لنجاحها الأوَّلي في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). فقد تمكّنت “حماس” من إدخالِ عددٍ من مقاتليها إلى إسرائيل أكبر كثيرًا مما توقّعت، بعد أن افترضت أن أنظمة وقوات الأمن الإسرائيلية ستقتل وتعتقل عددًا أكبر من المهاجمين على طول الحدود مُقارنةً بما فعلته. علاوةً، تلت ذلك موجتان إضافيتان من المهاجمين مع انتشار الأخبار في غزة بأنَّ “حماس” اخترقت السياج الحدودي. ضمّت المجموعةُ الأولى أعضاء جماعات فلسطينية أخرى مثل حركة “الجهاد الإسلامي الفلسطيني” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”؛ أما المجموعة الثانية فشملت سكان غزة غير المُنتمين إلى أيِّ حزب، حيث أقدمَ العديد منهم على قتل واختطاف إسرائيليين وارتكاب فظائع أخرى في المجتمعات الإسرائيلية القريبة من الحدود.

على الرُغمِ من أنَّ الهجومَ استمرَّ من دون رادعٍ لساعات عدة، واستغرق الأمر من القوات الإسرائيلية أيامًا لإلقاء القبض على جميع المهاجمين أو قتلهم واستعادة السيطرة على الحدود، إلّا أنه لم يُحقّق العديدَ من النتائج التي كانت” حماس” تتمنّى تحقيقها. فمن ناحية، لم تشن إسرائيل على الفور حربًا برّية في غزة، حيث اعتقدت “حماس” أنها ستُحقّقُ ميزة كبيرة فيها بسبب شبكة أنفاقها. بدلًا من ذلك، استغرقت إسرائيل بضعة أسابيع للتخطيط لردّها، الذي بدأ بهجومٍ جوي عقابي أعقبه بعد أسابيع هجوم جوي وبري مشترك يهدف إلى اقتلاع البنية التحتية العسكرية التي بنتها “حماس” داخل المجتمعات المدنية وتحتها.

كما إنَّ “حزب الله” وغيره من أعضاء محور المقاومة لم يشنّوا هجومًا واسع النطاق على إسرائيل. وعندما نفّذت إيران هجومًا كبيرًا في نيسان (أبريل) ردًّا على غارةٍ إسرائيلية على كبار القادة الإيرانيين في سوريا، قامت دفاعات إسرائيل الجوية بالاشتراك مع حلفائها إلى حد كبير بتحييد ما ثبت أنها عملية لمرة واحدة. وكان كلٌّ من “حزب الله” وإيران، أقوى حليفين ل”حماس”، حريصَين على الانضمام إلى القتال، ولكن لم يكن أيٌّ منهما يرغب في حربٍ واسعة النطاق.

باختصار، كانت الحرب بين إسرائيل و”حماس” مُدَمِّرة، لكنها لم تتسبَّب في إشعالِ حَربٍ إقليمية تُهدّدُ بقاءَ إسرائيل ــ و”حماس” تقبلُ ذلك في الوقت الراهن. بالنسبة إلى “حماس”، الصبر الاستراتيجي فضيلة. وعلى الرُغمِ من أنَّ المجموعة خطّطت لاحتمالِ تحقيقِ نجاحٍ أكبر، إلّا أَّنَّ هدفها الأساسي كان بدء عملية أطول وأشدّ صرامة تؤدي إلى تدمير إسرائيل. وللقيام بذلك، كان على “حماس” أن تخرج من تحت وطأة حكم قطاع غزة، الذي خلصت إلى أنه يُقوِّضُ ويُقيِّدُ هجماتها على إسرائيل بدلًا من تمكينها. وبعد تحررها من هذه المسؤولية، يُصبح بوسع “حماس” آنذاك أن تتعهّدَ “بتكرار هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، مرارًا وتكرارًا، إلى أن يتم إزالة إسرائيل”.

نموذج حزب الله”

بشَنِّ هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، قلبت “حماس” الوضع الراهن في غزة رأسًا على عقب. والأقل ملاحظة هو ما تريده بدلًا من ذلك. في الواقع، مع استمرار الجدل حول إدارة القطاع بعد الحرب، بدأت “حماس” إرساءَ الأساسِ للتصالُحِ مع منظمة التحرير الفلسطينية والاستيلاء عليها في نهاية المطاف، وبالتالي ضمان كونها جُزءًا من أيِّ هيكلِ حُكمٍ قد يظهر. الحيّة، مسؤول “حماس” الذي أوضحَ أنَّ جماعته تُريدُ تغييرَ المُعادلة برمَّتها، اعترف أخيرًا بهذه الخطّة وطرح فكرة هُدنة لمدة خمس سنوات مع إسرائيل على أساس خطوط الهُدنة التي كانت موجودة قبل حرب العام 1967 وعلى أساس حكومة فلسطينية مُوَحَّدة تسيطرُ على الضفة الغربية وقطاع غزة. والواقع أنه منذ شهر كانون الأول (ديسمبر)، كان كبار قادة “حماس” يجتمعون مع قادة من “فتح” الذين يُعارِضُون محمود عباس، زعيم السلطة الفلسطينية الذي لا يحظى بشعبية كبيرة، لمناقشة هذا التقارب على وجه التحديد. وفي 21 نيسان (أبريل)، اقترح هنية صراحةً إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية لتشمل جميع الفصائل الفلسطينية.

بالنسبة إلى حركةٍ إسلامية مُتَشدّدة طالما تنكّرت للسلطة الفلسطينية الأكثر اعتدالًا وعلمانية، فإن السعي إلى توحيد الجهود مع منظمة التحرير الفلسطينية قد يبدو مُفاجِئًا. لكن وراء اندفاعة “حماس” الأخيرة يكمنُ الهدف الاستراتيجي الأكثر أهمية المُتمثّل في محاكاة نموذج “حزب الله”. في لبنان، يُعَد “حزب الله” اسمياً جُزءًا من الدولة اللبنانية الضعيفة، ما يسمح له التأثير في السياسة ويكون له على الأقل بعض القول في توجيه الأموال الحكومية، ومع ذلك فهو يحافظ على استقلاليته الكاملة في إدارة جيشه القوي وفي قتال إسرائيل. وبموجبِ ترتيبٍ جديد لغزة والضفة الغربية، تأمل “حماس” في ممارسة النفوذ نفسه والاستقلال عينه مع حركتها وميليشياتها الخاصة، التي لا تخضع لحكومة ولا تسيطر عليها.

في الواقع، كان قادة “حماس” في غزة يتطلّعون إلى “حزب الله” طلبًا للتوجيه أثناء تخطيطهم لهجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والذي جاء مباشرةً من كتاب قواعد اللعبة التي يلعبها “حزب الله”. على الرُغمِ من أن قيادة “حماس” الخارجية في قطر وتركيا ولبنان كانت مُهتمّة أكثر بإنهاء الحرب، إلّا أنَّ السنوار –الذي يحمل معظم الأوراق بحُكمِ تواجده على الأرض في غزة وسيطرته على الرهائن الإسرائيليين- يُركّزُ اهتمامه على استيعاب ضربات إسرائيل، والبقاء على قيد الحياة وإعلان “النصر الإلهي”. من الواضح أنه يتطلع إلى حرب العام 2006 مع إسرائيل، حيث أصبح “حزب الله” أول قوة عسكرية عربية لم يدمرها الجيش الإسرائيلي، على الرُغم من الخسائر الفادحة، وحيث تمتع بنتيجتها تمتع بتعزيز كبير لمكانته الإقليمية نتيجة لذلك. ويبدو أن السنوار قد اعتقد أن نجاته من الهجوم العسكري الإسرائيلي، سيضعه في موقع جيد لتولي منصب رفيع في الحكومة الفلسطينية المستقبلية.

بطبيعة الحال، فإنَّ فكرةَ احتمالِ حصول السنوار على مكانٍ في المستقبل في حكومةِ وحدةٍ وطنية فلسطينية هي فكرة مُنافية للعقل وغير منطقية، ليس فقط بسبب الطبيعة الشنيعة لما فعلته “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، بل باعتبارها العدو اللدود لفتح والسلطة الفلسطينية، حيث استولت على قطاع غزة بالقوة المسلحة في العام 2007 بعد حرب أهلية مع “فتح”. علاوةً على ذلك، فقد استبعدت إدارة بايدن صراحةً أيَّ هيكلِ حُكمٍ بعد الحرب يشمل “حماس”. ولكن من دونِ بذلِ جهودٍ متضافرة لتفكيكِ البُنية التحتية السياسية للجماعة في غزة بشكلٍ كامل وبناء البدائل، فقد تنجح “حماس” في وضع نفسها لتكون واحدة من أطرافٍ عدة مسيطرة عندما يتوقف القتال.

وإذا حدث ذلك فقد تتبنّى “حماس” جوانب أخرى من نهج “حزب الله”. وكما استخدم “حزب الله” ملاذه في لبنان لشنِّ هجماتٍ عابرة للحدود ضد الإسرائيليين واليهود في جميع أنحاء العالم، فإنَّ “حماس” تستطيع توسيع عملياتها العسكرية إلى ما وراء حدود إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة وتنفيذ هجمات الإرهابية التي يمكن إنكارها بشكلٍ معقول في الخارج. حتى الآن، لم تقم “حماس” قط بتنفيذِ أيِّ هجومٍ إرهابي دولي، على الرُغمِ من أنها اقتربت من ذلك في مناسباتٍ عدة. ولكن منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، اكتشفت وكالات الاستخبارات الأوروبية مُخَطَّطات ل”حماس” في ألمانيا والسويد، فضلًا عن عملياتٍ لوجستية في بلغاريا والدنمارك وهولندا.

منع إنتصار ما بعد الحرب

على الرُغمِ من إعلانِ “حماس” المُتَأخّر في أوائل أيار (مايو) أنها قد توافق على نسخةٍ ما من صفقة الرهائن مقابل السجناء، فإنَّ مسؤولي إدارة بايدن ألقوا اللوم على قيادة “حماس” لإطالة أمد الحرب من خلال عدم إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وإلقاء السلاح. ولكنهم ليسوا الأشخاص الوحيدين الذين فعلوا ذلك. هناك دلائل تشير إلى أنَّ سكانَ غزة أنفسهم، الذين أصبحوا يائسين بشكلٍ متزايد بعد ما يقرب من سبعةِ أشهرٍ من الحرب المدمّرة، بَدَأ صبرهم يَنفُد تجاه الحركة وفشلها في اتِّخاذِ خطواتٍ لحمايتهم من الانتقام الإسرائيلي الذي كانت “حماس” عازمة على استفزازه. وقال أحد سكان غزة لصحيفة “فايننشال تايمز” في نيسان (أبريل): “أُصلّي كل يومٍ من أجل موت السنوار”. وتشيرُ استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية إلى أنَّ شعبية “حماس” انخفضت خلال الأشهر الثلاثة الماضية بنحو الربع، من 43 في المئة إلى 34 في المئة. وقال صحافي مستقل في غزة لصحيفة “واشنطن بوست” أخيرًا: “كلُّ مَن حولي تقريبًا يشاركني الأفكارَ نفسها. نريد أن يتوقف شلال الدماء هذا”.

من المؤكَّد أنَّ قادةَ “حماس”، الذين يختبئون في أنفاقهم تحت الأرض، يُدركون أنَّ المدنيين الذين تركوهم بدون حمايةٍ فوق الأرض يتزايد غضبهم ضد الحركة، وهو ما قد يُفسّرُ النبرة الأكثر اعتدالًا في بعض التصريحات التي أطلقها قادة الحركة أخيرًا. لكنهم يشعرون بالقلق من الموافقة على أيِّ مبادلة للرهائن بالسجناء من دون أن يصاحبها وقفٌ كامل لإطلاق النار وإنقاذ ما تبقّى من مقاتلي “حماس” في رفح. في الواقع، من المرجح أن تؤدي أرقام استطلاعات الرأي الضعيفة فقط إلى التأكيد على أهمية تأمين منصب داخل أيِّ هيكلِ حُكمٍ يأتي بعد ذلك – وهو هيكلٌ لن تكون فيه “حماس” الحزب الوحيد الذي يحكم غزة، وبالتالي لن تكون الطرف الذي يتم إلقاء اللوم عليه عندما لا تسير الأمور على ما يرام. وتُدرك “حماس” أنها بعد إطلاق سراح الرهائن المتبقّين، فإنَّ أفضل وسيلة ضغط لديها هي كادرها القتالي المُتبقّي.

لذا، وكما ترى “حماس”، يتعيَّن عليها أوّلًا أن تُحقّقَ نصرًا على غرار نصر “حزب الله”، وذلك ببساطة من خلال البقاء على قيد الحياة. وبعد ذلك، يجب عليها أن تتبنى نموذج “حزب الله” في علاقتها بهيكل الحكم الذي سينشأ بعد الحرب، أي الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية وتغيير الحركة الفلسطينية من الداخل مع الحفاظ على “حماس” كقوة مقاتلة مستقلة. وبالنسبة إلى “حماس” فإنَّ هذا يُشَكّلُ عودة إلى المبادئ الأولى: فهي قادرة على متابعة التزامها الأساسي بتدمير إسرائيل واستبدالها بدولةٍ فلسطينية إسلامية في كلِّ ما تعتبره فلسطين التاريخية.

لإيقاف هذه الخطّة قبل أن يتمَّ تنفيذها، سيكون من الأهمية بمكان بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما العرب والغربيين إبقاء “حماس” خارج أي بُنيةِ حُكمٍ فلسطينية يتم بناؤها. وإذا لم يفعلوا ذلك، فقد يخلق التنظيم قريبًا وضعًا أكثر خطورة وزعزعة للاستقرار من ذلك الذي سمح له بشن هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). ويكمن الخطر في حقيقة مفادها أنَّ “حماس” و”حزب الله” يعتقدان حقًا أنَّ تدميرَ إسرائيل أمرٌ لا مفرَّ منه، وأنَّ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) مجرّد بدايةٍ لعمليةٍ لا رجعة فيها من شأنها أن تحقّقَ ذلك الهدف على وجه التحديد. إنَّ كلَّ مَن يؤيد حقاً فكرة التوصّل إلى تسويةٍ دائمة لهذا الصراع لا بدَّ وأن يُعارضَ ضمّ “حماس” إلى الحكم الفلسطيني لسببٍ بسيط وهو أن أهداف “حماس” الأساسية تتعارَضُ مع السلام.

  • ماثيو ليفيت هو زميل فرومر ويكسلر ومدير برنامج راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. وهو مؤلف كتاب “حزب الله: البصمة العالمية لحزب الله في لبنان”. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @Levitt_Matt
  • يُنشَرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع نشرِهِ بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى