لماذا قرّرَ أميرُ الكويت ذلك؟

محمّد قوّاص*

تمكّنت الكويت خلال العقود الأخيرة من المحافظة على تجربة ديموقراطية خاصة. وحتى “تقاليد” حلّ مجلس الأمة مرات عدّة (12 مرة منذ العام 1961)، فإنّها كانت تؤكّدُ على ديناميات يُتيحها الدستور والتزامًا بالعمل بأحكامه. بَيدَ أنَّ أمرَ الصراعِ بين برلمان وحكومة بات قاعدة وغاية بحدِّ ذاتها، بحيثُ أنّ الهدفَ بات تعطيليًا خطيرًا. ولئن افتخرت الكويت بتجربتها واستثنائيتها، غير أنَّ الاستثناءَ المزعوم بات ينسحبُ على ظواهر أخرى.

بدا أنّ دول مجلس التعاون الخليجي جميعها، بجرعاتٍ وإيقاعاتٍ وأساليب مُتعدّدة، تنطلِقُ صوبَ آفاقٍ مُتقدّمة في التطوّرِ والتنمية والازدهار. تصالحت دول الخليج مع قواعدِ الراهن ومُتطلّباته، حتى غدَت بعضُ التجاربِ رائدةً لافتةً مُتقدّمةً عن تجارب دولية كبرى. بات هَمُّ القفز إلى ما بعد عصر النفط أولوية أطاحت أنماطًا بليدة سابقة. في المقابل شلَّ “الاستثناءُ” الكويتي قُدراتَ البلد في الالتحاقِ بقطارات تنمية وازدهار، بدا أنّها تسيرُ بسرعاتٍ تاريخية لدى دول المنطقة. لم تستقرّ حكومةٌ تستطيعُ تنفيذَ برامجها، فما بين 2007 و 2024 مثلًا شهدت البلاد تشكيل 20 حكومة.

في السنواتِ الأخيرة، وفيما دولٌ مثل السعودية والإمارات، تدافع عن حاضرها ومستقبلها وتواجهُ استحقاقاتٍ إقليمية خطيرة وتحوّلاتٍ دولية مُقلقة، راجَ في الكويت خطابٌ بدا أنّه خارج سياق البلد وتاريخه. بدا بعضُ الأصوات يُدافِعُ عن انتماءاتٍ خارج هوية الكويت، من خلالِ خطابِ الإسلامِ السياسي، بشقّيهِ السنيّ والشيعي، والذي بدا في مرحلةٍ مُتنافسًا وبدا في أكثر المراحل متواطِئًا. وحين أعلنت الكويت قبل سنوات إحباطَ مُخطَّطٍ أمنيٍّ شديد الخطورة وإسقاط خلية تعمل لصالح “حزب الله” وإيران من ورائه، بدا أنّ الظاهرة محلّية كويتية، مُستفيدةً من منظومةٍ سياسية، يُمثّلُ مجلس الأمة أحد واجهاتها. ظهر في السنوات الأخيرة مسارُ تقاطُعٍ بين السياسة والفساد. صارت العملية الديموقراطية جُزءًا من هذا المشهد وليست نقيضًا له. لا بل راحت توفّرُ له مظّلةً لِما باتَ من أعرافِ وتقاليدِ الحياة الاقتصادية في البلاد.

إذا كانت مراكز النفوذ تحمي مصالح وخيارات في البزنس والاقتصاد والسياسة، فإنّ برلمان البلاد بات مرآةً لهذا المشهد، يُضفي شرعيةً دستورية عليه، من دونِ أن يملكَ الإرادة وإمكانيات مواجهته. لسانُ حالِ أيّ مراقب يقول هذه هي الكويت، وهذا ما تستطيعه منظومتها السياسية. وإذا ما كان في ذلك الاستنتاج استسلامٌ لقدرية، فإنّ قرارات أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح تُمثّلُ لحظةَ تحوّلٍ تاريخية تقول: إنّ أمرَ هذا التعفّن ليس قدرًا.

منذ الساعات الأولى لتَقَلُّدِهِ الموقع الأول في الكويت، أظهر الأمير تبرُّمًا من سلوكيات وتقاليد وأعراف باتت بُنيَويّة في يوميّات الحُكمِ والإدارة. وكان واضحًا أنّه على عِلمٍ بمعضلات البلد ومواطن ضعفه. خاطب مجلس الأمة، وخاطب الكويتيين مُلَمّحًا إلى أنَّ قواعدَ أخرى ومُقارباتٍ جديدة وَجَبَ أن تدخُلَ أبجديات إدارة البلد. ورُغمَ ما أظهرته مواقفه من تَوَعُّد، غير أنّه آثرَ، مع ذلك، علاجَ الداءِ بالتواصُلِ والحوار والاستشارة واستطلاع الرأي. فإذا ما مَكَّنهُ الدستور من صلاحياتٍ مُتقدّمة، فإنّ الأمير عَوَّلَ على أن يُدرِكَ ساسةُ الكويت شيفرة ما تسرّبَ من كل مواقفه.

في الأشهر الأخيرة جال الأمير على كلِّ دول مجلس التعاون الخليجي. سمع في عواصم المنطقة ما يَعرِف، واطّلَعَ على تجارب لم تكن خافية عليه. كانت التقارير الدقيقة قد تتالت على مكتبه، تُسهِبُ في شرح التحوّلات التي جرت في السعودية والإمارات وعُمان وقطر والبحرين. أنصَتَ جيدًا إلى كل تجربة. استنتجَ تفاوُتَ سرعاتها واختلاف أحجامها. لكنها جميعها نقلت بلدان المنطقة من عصرٍ إلى عصر. وبدا أنّ الكويت خارج هذا العصر. وكان على الأمير أن يزورَ لاحقًا مصر وتركيا، ويُدركَ بعدَ كلِّ هذه الزيارات أنّ العالمَ قد تغيّر، وأنَّ على الكويت بعجالة أن تتغيّر.

لم يَكتَفِ الأمير بحَلِّ مجلس الأمة. فالأمرُ من العاديات. جرى اللجوءُ إلى هذا الإجراءِ سابقًا بصفته ترياقًا لعِلّة. واتَّضَحَ أنَّ العِلّةَ تُجَدِّدُ نفسها، باقية، وتتمدّد. فكان على الأمير اللجوء إلى الجراحة الطارئة. سبق للعاهل المغربي محمد السادس أن استنتَجَ في العام 2011 التحوّلات الجارية في المنطقة، فقرّرَ بجرأةٍ التعاملَ معها، وأصدرَ إصلاحاتٍ دستورية أنقذت المملكة من بلادةٍ وجُمود. والظاهرُ أنّ أميرَ الكويت قرّرَ بحَسمٍ وحزمٍ رَدعَ إنقلابٍ كان يُعدُّ باسم الدستور والديموقراطية والعملية السياسية، ليس ضدّ حكومة ووزراء فقط، بل يتوعّدُ منظومةَ البلاد السياسية وأميرها.

اختصاصيو الدستور في الكويت يتذكّرون أنّ دستورَ العام 1962 وُضِعَ بشكلٍ مُوَقَّتٍ على أن يتمَّ تعديله لاحقًا وفق مُتطلّبات التجربة الكويتية. جرى تعليقه في العامين 1976 و1986 ثم العودة إليه من دون أن تَفرُضَ تلك المفاصل تعديلاتٍ جذرية. كان على الأمير أن يقرَّ أوّلًا أنّ المعضلةَ تَكمُنُ في هذه الفوضى التي تُتيحها بنودٌ دستورية حَمّالة أوجه. تمنعُ هذه البنود تشكيلَ الحكومة، وتُتيحُ تهديدَ البعض بإعدادِ استجواباتٍ تفخّخها مُسبقًا، وتسمح بالتطاول على صلاحيات الأمير ورئيس وزرائه. وحتى حينَ قرّرَ الأمير تعليقَ بنودٍ في الدستور وحلّ مجلس الأمة، تمّ تسليطُ الضوءِ على بنودٍ دستورية تلتفّ على خطاب الأمير وتُنذِرُ بالمواجهة.

الحدثُ كويتي، لكنهُ حدثٌ خليجي بامتياز. لم تخفِ دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة قلقها من “الحالة” الكويتية. فإذا كان تخّلّفُ الكويت عن دورةِ التنمية والتطوّر هو خيارًا كويتيًا مع تحفّظِ دول الجوار على هذا الخيار، غيرَ أنَّ عدمَ الاستقرارِ السياسي، خصوصًا في حيثياته المُستَورَدة من خارج الحدود، وما أظهره من اختلالاتٍ أمنية، بات منذ مدة همًّا لدول الإقليم الصديقة، وليس فقط الخليجية. فاستقرارُ الكويت نظامًا واقتصادًا وأمنًا بات جُزءًا من أمن المنطقة. والمنطقة ساهرة على استقرارِ الكويت ولها عيونٌ حريصةٌ على أمنها.

لم يُوارِ الأمير لُبَّ الحقيقة وجوهرَ عجالتها. لقد أتاحَ تَرَهُّلُ النظامِ السياسي، وتَخبُّطُ العلاقة بين السلطات، وضعفُ رقابة الدولة عقودًا تَرعرَعَ فيها الفساد. والخطورة تكمنُ في أنّ الفسادَ يَنخُرُ الجسمَ الأمني والقضائي. وحين تصلُ الأمورُ لتنال من قلب “الدولة العميقة”، فإنّ الكويت في خطرٍ وجودي يستلزِمُ جراحاتٍ دفاعية جذرية، حتى لو بقيت كلماتُ الأمير مُتّسقةً في مفرداتها مع عِلمِ السياسة ونصوصِ الدستور.

بعدَ يومين من قراراته، صدرَ مرسومٌ أميري بتشكيلِ الوزارة الجديدة، برئاسة الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح، ضمّت 13 وزيرًا. أمام الكويت سنوات من تحوّلٍ وتغيير. وككل حكايات التحوّل، فإنّ أمام البلاد مواعيد مُعاندة وتبرُّم، ومواعيد إعادة قراءة وتفكير، ومواعيد يُقرّرُ فيها وليُّ الأمر، بما يمنحه له الدستور من صلاحيات لصَونِ الإمارة والدفاع عن استقرارها، استشرافَ مستقبل الكويت.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى