“إذا” الشَرطِيّة في اتفاقاتِ “التطبيعِ” بينَ واشنطن والرياض
محمَّد قوَّاص*
تَطَوَّرَ موقفُ إدارةِ الرئيس الأميركي جو بايدن بشكلٍ انقلابي في مُقاربةِ العلاقات الأميركية مع السعودية، إذا ما قورِنَ الأمرُ بمواقفِ بايدن المُرَشَّح ثم بايدن الرئيس في بداية عهده. قد يكونُ الأمرُ عائدًا إلى مُراجعةٍ لخطابٍ مُتَسَرِّعٍ ويكادُ يكونُ هوائيًا صبيانيًا في إدارةِ علاقةِ واشنطن التاريخية والاستراتيجية مع دولةٍ كالسعودية. لكنَّ الأرجح أنّ التحوّلات الدراماتيكية التي شهدها العالم خلال العامين الماضيين أعادت تأكيدَ مكانة ودور السعوية في الاستراتيجيات الأميركية، سواءً على مستوى التوازنات الجيوستراتيجية أو أمن الطاقة أو مسائل السلم والحرب في الشرق الأوسط.
تَعَرّفَ بايدن على العالم العربي وعلى المجموعة الخليجية منه واستنتجَ تقادُمَ قواعد سابقة في إدارة العلاقة مع المنطقة. لم تَعزُف السعودية والإمارات وباقي الدول العربية على الوتر نفسه الذي عزفت عليه واشنطن في الموقف من حرب أوكرانيا. ولم يستطع الرئيس الديموقراطي “إرهاب” مجموعة “أوبيك بلاس” للتأثير في أسعارِ النفط في الأسواق العالمية. وعجز وإدارته عن ثني دول المنطقة عن توسيع دائرة علاقاتها والاندفاع شرقًا باتجاهِ دولٍ مثل الصين وروسيا.
على هذا يبدو أنّ مسألة “التطبيع” التي تسعى إليها الإدارة الأميركية قد صارت “وسيلةً” لتدعيمِ علاقات واشنطن والرياض، خصوصًا أنّها “هدفٌ” خارج السياق هذه الأيام. يكفي للمراقب أن يلاحظ أنّ البلدين يسعيان إلى إنضاجِ “اتفاقاتٍ ثُنائية” من دونِ أن يكونَ التطبيعُ شرطًا للتوصّل إليها، وإن كانت كلمة “شرط” تُستَخدَم في الإطلالات الإعلامية لموفِدي واشنطن.
ففيما تُكرّرُ الرياض في كلِّ مناسبة، وأعادت تأكيد ذلك في مناسبة الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المملكة، أنّ أيَّ تطبيعٍ مع إسرائيل مشروطٌ بمسارٍ “لا رجعةَ عنه لإقامةِ دولةٍ فلسطينية”، فإنّ بديهياتَ الوضعِ الحالي في غزّة ورواجَ التسابق ما بينَ اتفاقٍ يؤدّي إلى هدنة من جهة، والوعدَ الذي يُطلقه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، باجتياحِ مدينة رفح من جهةٍ أُخرى، سياقٌ لا يشي أبدًا بأيِّ إطارٍ للشروعِ في مسارٍ سياسيٍّ باتجاهِ الدولة العتيدة.
بمعنى آخر، إنّ واشنطن ووزيرها في المنطقة يعرفان أنّ شرطَ السعودية للتطبيع ليس مُحَقَّقًا ولن يكون محقّقًا في الأمدِ المنظور. غيرَ أنّ الولايات المتحدة تسعى إلى استخدامِ مناسبة التطبيع لتسويقِ اتفاقاتٍ ثُنائية طالبت بها الرياض وتلكّأت واشنطن في الاستجابة إليها. فإذا كان علينا أن نطّلِعَ في آذار (مارس) 2023 على تقريرٍ في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية بشأنِ مطالب الرياض لعَقدِ اتفاقٍ أمني مع واشنطن وشراكةٍ من أجلِ تطويرِ برنامجٍ نوويٍّ مدني، كشرطَين من شروطِ التطبيعِ المُحتَمَلِ مع إسرائيل، فإنّ المطلبَ الثالث المُتعلّق باشتراطِ حَلٍّ للقضية الفلسطينية يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية أعلنته الرياض علنًا، صُبحًا ومساءً، وعلى لسان كبار المسؤولين السعوديين، لا سيما ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، وبالتنسيق مع قيادة السلطة الفلسطينية، بصفته شرطًا مُطلقًا لا نسبية فيه.
وإذا ما يُعتَبَرُ الشرطُ السعودي “تعجيزيًا” بالنظرِ إلى ظروفِ الحرب في غزة حاليًا وغيابِ شريكٍ إسرائيلي للقبولِ بمبدَإِ الدولة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة وتفاخُرِ نتنياهو بأنّه الوحيد القادر على عدم إقامة هذه الدولة، فإنّ السعودية تكادُ من جهةٍ أخرى تطرحُ شروطًا أخرى لا تنسف فكرة التطبيع فقط، بل تُهدّدُ بعدمِ إمكانِ التوصُّلِ إلى الاتفاقات الثُنائية.
تُطالبُ السعودية بشراكةٍ لإنشاءِ برنامجها النووي للأغراضِ المدنية، على أن تمتلكَ السيادة كاملة على عمليات تخصيب وتخزين اليورانيوم، أي من دونِ أيِّ شروطٍ تفرضُ شراءَ هذا اليورانيوم من الخارج، وبالتالي الارتهان لمزاجِ السوق السياسي. وتُطالبُ الرياض أيضًا أن تكونَ الاتفاقاتُ الأمنية والنووية جُزءًا من “معاهدةٍ” يُصادِقُ عليها الكونغرس الأميركي وليست تفاهُمًا مع إدارةٍ تنتهي مفاعيله مع وصولِ إدارةٍ بديلة لها رؤى وأجندات أخرى.
وحَرِيٌّ التذكير، أنّ فكرةَ التطبيع هي بالأصل فكرةٌ سعودية أُعلِنت قبل أكثر من عقدين من جهود بلينكن الحالية. وإذا ما أرادت واشنطن بذلَ الجهودِ من أجل الدفع بالتطبيع كمُنجَزٍ انتخابي يحتاجه المرشح بايدن، فإنّ مبادرةَ العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز في العام 2002 لتحقيقِ السلام في المنطقة هي مبادرةُ تطبيعٍ وإن لم تكن تحمل هذا الاسم. اقترحت تلك المبادرة إقامةَ “علاقات طبيعية” مع إسرائيل مقابل إنشاء دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وإذا ما أقرّت قمّة بيروت العربية في العام نفسه هذه المبادرة، فإنّ للتطبيع سيرةً وتاريخًا وثوابت تُعيدُ السعودية تأكيدها لا اختراعها من جديد.
تَحدّث بلينكن، الاثنين، عن أنّ “الولايات المتحدة أصبحت شبه مُستَعِدّة لتقديمِ ضماناتٍ أمنية للسعودية إذا طَبّعَت علاقاتها مع إسرائيل”. ولطالما حمل بلينكن هذا العرض في معرض تقديم حوافز لإسرائيل لقبول فكرة إقامة دولة فلسطينية. غير أنّ هذه الـ”إذا” ليست مقبولة في السرديات التي تُقدّمها الرياض، وبدا أنّه من غير المقبول أن تَربُطَ واشنطن الاتفاقات الثُنائية مع الرياض بهذا الشرط. في المقابل فإنَّ للرياضِ “إذا” الخاصة بها. ووجب في هذا السياق متابعة تصريحات وزير الخارجية السعودي في التعليق عن الحدث نفسه. قال بن فرحان إنّ الاتفاقات الثنائية مع الولايات المتحدة “قريبة للغاية”، والطريقة الوحيدة التي يمكن أن تنجح بها مثل هذه الاتفاقات هي “إذا” كان هناك “طريق حقيقي إلى دولةٍ فلسطينية”. هنا فقط يَظهَرُ تبايُنٌ في الرؤى حتى لو تحدّثت البيانات والمواقف عن تقارُبٍ وتقاطُعٍ وتَطابُقٍ في وجهات النظر.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).