كورونا… العالم ينتظر!

بقلم سليم مهنّا*

لا شكّ أن العام 2020 سيُشكّل علامةً فارقة في عالمِ الأعمال والاستثمار،  حيث يستمر بحفر اسمه في ذاكرةِ الإقتصاد العالمي وربما تمتدّ تداعياته لسنوات بل لعقود طويلة.

لقد استهل العام إنطلاقته على وقع انتشارٍ خطيرٍ لوباء “كورونا” أو “كوفيد-19″، فظهرت معه بوادر أزمة عالمية جديدة ذكّرت الناس بالأزمات الإقتصادية الكُبرى التي تركت ندوبها في ذاكرة الأسواق، إذ تعطّلت الأعمال وتوقّفت حركة الإنتقال، وجثمت الطائرات في المطارات، وحُجِرَ الناس في بيوتهم، وتوقّفت معظم الأنشطة الإنتاجية حول العالم.

ولأن الخوفَ هو من أسرعِ العوامل انتشاراً، فقد انعكس من النتائج السلبية للوباء على الإقتصاد العالمي حيث تسبب بركود اقتصادي وانهيارات في أسواق البورصة، وأحدث ضغوطات قاسية بوجه قطاعات الأعمال، وأوقف معظم مشاريع الدول والشركات والمستثمرين وعدّل من توقعاتهم.

لا بل أكثر، فقد شهدنا انخفاضاتٍ كبيرة في أسواق المال، وإقفالَ مؤسسات، وفقدانَ ملايين الوظائف، وتراجعاً هائلاً في الإنفاق والإستهلاك تسبّب بانهيار تاريخي في أسعار النفط، حيث شهد العالم وللمرة الأولى في تاريخ الأسواق أسعاراً سلبية لأحد المنتجات، وبالتحديد لنفط خام غرب تكساس، والذي غيّر خلال جلسة تداول الإثنين 20 نيسان (إبريل) قوانين التجارة الطبيعية بعد أن قام الباعة بعرضه مجاناً، بل حتى قاموا بدفع مبالغ وصلت الى حدود ٣٨ دولاراً عن كل برميل للتخلص منه.

كل ذلك ترافق مع تدنٍّ في أسعار الفوائد وتخلّف عن إيفاء القروض والإلتزامات وتراجع التحويلات، ما استدعى لجوء الدول إلى استخدام احتياطاتها على شكل معونات وحزمٍ اقتصادية لإنقاذ المؤسسات الإنتاجية من الإفلاس، ولتفادي خطر العَوز وتبعاته على الأوضاع الإجتماعية.

هذا الواقع المُستجد الذي تركه انتشار الفيروس التاجي عالمياً، يقودنا إلى السؤال ماذا بعد؟

بعيداً من معرفة  قدرة الأفراد والمؤسسات الإنتاجية على الصمود طويلاً في مواجهة تداعيات الحظر والإغلاق، تبدو الحاجة ملحة للنظر إلى ما بعد انتهاء الأزمة والتغيّرات المُرتَقَبة في أساليب العيش والعمل على مختلف الصعد.

فعلى صعيد المُستثمرين ستحمل الفترة المقبلة تحدّيات كبيرة، تبدأ بتحدّي القدرة على معاودة الإنطلاق في ظل تباطؤ الطلب، فضلاً عن الغموض الذي يلف مسار هذه الجائحة وتخوّف الشركات والدول من ضخ استثمارات ضخمة في ظل مستقبل غير واضح، مروراً بتحدّي تغيّر سلوك المُستهلِكين وتوجهّهم أكثر نحو التسوّق الإلكتروني، حيث ستنشط خدمة التوصيل إلى  باب المستهلك، وستتعزز أولوية السلامة الفردية، لا سيما في الفترة التي تلي انتهاء الوباء مباشرة وإلى حين عودة الأمور تدريجاً الى طبيعتها مع زوال الحذر والرهاب من العدوى.

هذا في ما خصّ المؤسسات التجارية والصناعية، لكن الأصعب سيكون من نصيب المؤسسات الخدماتية ومراكز الضيافة والترفيه التي ستُعاني طويلاً قبل استعادة الإكتظاظ الذي كانت تشهده عادة، كالفنادق والمطاعم والمقاهي والمسارح ودور السينما والملاهي الليلية والنوادي الرياضية والألعاب والبطولات العالمية، وباختصار كل أشكال التجمعات وصولاً إلى المُناسبات الإجتماعية.

وعلى صعيد الحكومات فمن المتوقع السماح بعودة الحياة تدريجاً مع بعض التشدّد في انتقال الأفراد بين الدول من دون مُبرّر مُقنع، واستمرار التحوّطات الصحية اللازمة خصوصاً في المطارات والمرافئ ونقاط الحدود البرية، مع تعزيزٍ دائم للقطاع الصحي الإستشفائي.

من جهة أخرى فإن التحدّي الأهم بالنسبة إلى الكثير من الدول، لا سيما تلك التي انتشر فيها الوباء بقوة والتي عانت من نقصٍ في المواد والتجهيزات اللازمة لمواجهة الوباء، هو تحدي التوجه نحو تحقيق الإكتفاء الذاتي وتنويع موارد الدخل القومي المحلي وخلق فرص عمل جديدة، والسعي للحدّ من الإعتماد على عائدات النفط بالنسبة إلى الدول المُنتِجة، وتشجيع الأبحاث الطبية والعلمية، ودعم قطاعات الإنتاج الأساسية من زراعة وصناعة وتكنولوجيا، حيث سيترك الفيروس أثره في القرارات الإقتصادية والحمائية التي تنتهجها معظم الدول، وسيترافق ذلك مع صحوةٍ إجتماعية ورغبة جامحة في العودة لدعم الإنتاج المحلي بدأت تتضح ملامحه من خلال عودة المبادرات الفردية الخاصة لناحية الإهتمام بالممتلكات الزراعية وتربية الحيوانات الأليفة.

اما على صعيد العلاقات الدولية، فإن الصراع الجيوسياسي في العالم سيبقى سمة المرحلة المُقبلة، فالفيروس الخفي الذي عَبَر الحدود من دون جواز سفر، لم ولن ينجح – وللأسف – في إيقاظ الضمير الإنساني، حيال ما جنته الأنانية لدى معظم قيادات العالم، بدل التعاون والجهود المُشتَرَكة والتكاتف في إيجاد الحلول لمشاكل تُهدّد العالم بأسره وليس بلداً بذاته، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مشكلة ثقب الأوزون الذي رأينا كيف أنه حالياً قد التأم بفعل التوقّف شبه الكامل عن الإستخدام المُفرط للوقود الأحفوري، وكأن الدول الكبرى خصوصاً، وبقية دول العالم تُكابر في الإعتراف بالإيجابيات التي حملها الفيروس لنا جميعاً.

بالإضافة إلى الأنانية التي ستبقى سائدة بالوتيرة ذاتها، لن ينجح الفيروس في كسر الحدود السياسية وتخفيف حدة الخلافات على المصالح بين القوى الدولية المُتصارعة، بين أميركا الخائفة على اهتزاز موقعها المُتصَدِّر، وأوروبا المُترَدّدة في أن تصبح قوة، والصين التي أكّدت حضورها، وروسيا التي أظهرت أنه من الخطأ تجاهلها، لن يُغير الوباء هذه الصورة وإن بدت مهتزة، وستبرز بشكل لافت القوى الإقليمية الساعية إلى الإستقلال الإقتصادي والراغبة في تعزيز مناعتها السيادية لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية كثيرة بعضها يتعلق بالأمن الغذائي والسلامة والبيئة.

سريعاً سينسى العالم “كورونا”، وسينصرف الحكام إلى مصالحهم وصراعاتهم الإقتصادية والسياسية المُعتادة، ولكن من المؤكد أن الإهتمام سينصب مباشرة بعد انتهاء الحظر على اعتماد خطط الإنعاش والتحفيز لاستعادة مسار النمو، ومع الوقت سيتعافى الإقتصاد وستعود دورة الإنتاج الى طبيعتها وربما بشكل أقوى، وستبقى الأسئلة الأهم بعيداً من السياسة والإقتصاد: مِن أين أتى هذا الوباء، وهل كان انتشاره محض مصادفة؟ مَن يحمي الإنسانية من خطر انتشار الأوبئة الفيروسية الناتج عن بعض السلوكيات الغذائية الغريبة؟ مَن يَحميها من خطر التجارب الفيروسية وابتكار الأسلحة الجرثومية التي قد تتسبب بفناء البشر جميعهم؟ ثم من يَضمن عدم تسرّب هذه الفيروسات وانتشارها بشكل أعنف من جديد؟

أسئلة ربما ستبقى بصيغتها الإستفهامية لسنوات إذا لم تُغيّر الدول المُتحَكِّمة بعالمنا من نهجها تفكيراً وسلوكاً حيال هذه المشاكل المُستجِدّة وغيرها من المشاكل الآتية، والتي ربما تكون أيضاً أشد خطراً ووطأة على الإنسانية جمعاء.

  • سليم مهنا، مصرفي وباحث إقتصادي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى