كلّ عامٍ ووَعيُنا بخير

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

في مَطلع كلّ عامٍ ميلادي، يحتفل الناس في شتى بقاع الأرض بما تعارفوا على تحديده ميلاداَ للمسيح عليه السلام. وفي بلادنا المأسوف على وعيها، يثور في كل عام وفي التوقيت نفسه اللغط عينه حول مشروعية تهنئة المسيحيين بأعيادهم ولا سيما عيد الميلاد. فينقسم المسلمون طائفتين، فيراه بعض الغيورين فسوقاً عن الدين، ومشاركةً لأهل الكتاب في شركهم، مُستَندين إلى فتاوى فضيلة الشيخ ابن تيمية والشيخ ابن القيم، ومن وافقهما وسار على دربهما من علماء السلف كأمثال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليهم جميعاً. فيما لا يرى آخرون غضاضة في تهنئة زملاء العمل والجيران وأبناء الحي ورفاق الدراسة والأقارب نَسَباً أو مُصاهَرة، مُتّكئين على عصا الشيخ العلامة يوسف القرضاوي ومن سار على دربه من الفقهاء، والذين لا يرون غضاضة في تهنئة النصارى بأعيادهم، بل ويعتبرونه من البر الذي لم ينهنا الله عنه (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، طالما لم ينخرط المهنئون في شركيات ولم ينغمسوا في طقوس تخرجهم من دائرة التوحيد. بينما تقف كثرة كاثرة من المسلمين الذين يخبطون خبط عشواء، فلا هم إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فتراهم يحتكمون في أمورهم إلى العادة و”الإتيكيت” وما يرتضيه أو لا يرتضيه الذوق العام. والحقيقة أن هذا النوع من الجدل لا ينتهي بانتهاء مراسم الإحتفال، ولكنه يهدأ تحت رماد الظروف الإجتماعية أو المستجدات الإقليمية، ثم يعاود الظهور في كل مناسبة دينية للإخوة الأقباط بالدعاوى ذاتها والوجوه نفسها، فلا يقتنع أحدٌ برأي أحدٍ، ولا يأخذ أخٌ برأي أخيه، وكأننا نمارس الجدل كنوع من إثبات الوجود فوق ساحة تعج بالجماجم الفارغة التي تجيد الجعجعة ولا تجيد الطحن.

ولقد دفعني السأم من هذا الجدل البيزنطي إلى التقليب في صفحات التاريخ لأرى وهجاً في أول النفق قبل أن يدفعنا اللجاج إلى حائط فولاذي في آخره. فعدت إلى موقف من سيرة خاتم الأنبياء حين هاجر إلى المدينة فرأى اليهود يحتفلون بيوم عاشوراء، فلما سألهم عن ذلك، قالوا: “هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه.” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فنحن أحق وأولى بموسى منكم”. وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. لم يجد المعصوم – بأبي هو وأمي- غضاضة في مشاركة اليهود احتفالهم بيوم نجا الله فيه موسى، ففعل كما فعلوا. لكن انتظر أيها القارئ العزيز. أكاد ألمح خلطاً في القياس هنا، فالمحتفل في الحالة الأولى موسى عليه السلام، والاستنان هنا بموسى وليس بأتباعه، فالمسلمون – ونبيهم من قبل – أولى الناس بموسى. ثم أن الاحتفال بتلك المناسبة كان صياماً وتعبّداً، ولم يكن طعاماً وشراباً وهدايا تُكلف البشرية المسحوقة تريليونات الدولارات سنويا على طقوس لا تمت للمسيح بصلة، فلم يؤثر عن عيسى ولا عن حوارييه ولم يرد في العهد الجديد شيء يتعلق باحتفالات الميلاد الصاخبة التي نراها في الواقع وعبر الشاشات هنا أو هناك. كما أن المناسبة هنا غير المناسبة هناك، ففي الأولى، يحتفل النبي وأتباعه بنجاتهم من الغرق، وإهلاك عدو الله وعدوهم، بينما في الحالة الثانية، يحتفل المبتدعون بميلاد نبي لم يتفقوا على يوم مولده، إذ اختلف التقويم الغريغوري عن التقويم اليولياني الذي كان مُتّبعاً من قبل ثلاثة عشر يوماً بالتمام والخلاف. وإرضاء لأطراف الاحتفال كافة، تبدأ الطقوس في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) وتنتهي بعيد الغطاس في السادس الشهر الذي يليه (كانون الثاني (يناير)) من كل عام. ولكن ما سر اختيار الخامس والعشرين تحديداً دون غيره يا ترى، رغم أنه لم يرد في ذكره شيء لا في كتاب منزل ولا في تاريخ مُدَوَّن؟

الحقيقة أنني أصبت بالدهشة والذهول حين علمت أن سر اختيار الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) ميلاداً للمسيح يعود إلى احتفال روماني وثني تزامن مع الحساب القديم لموعد الانقلاب الشتوي. فتحوّل “عيد الشمس التي لا تُقهر” بقدرة عابث إلى ميلاد جديد للمسيح عليه السلام، بحجة أن المسيح هو “شمس البر” كما ورد في كتابات يوحنا. وكما احتفل الوثنيون القدماء بموسم الانقلاب الشتوي بالبقاء في منازلهم وإنارة المنازل وإعداد صنوف الطعام، فعل المُبشّرون الأوائل خلال نشر المسيحية في الدول الاسكندنافية شمال أوروبا، ولكن هذه المرة إحتفالا بميلاد مزعوم لنبي كريم، من خلال إضفاء طابع مسيحي على تلك الإحتفالات، ومنها انتشرت في أوروبا والعالم خلال القرنين التاسع والعاشر. (يبدو أنه بالنسبة إلى المسيحيين، كما يردد أساقفتهم، يُعتَبَر الإعتقاد بأن الله قد جاء إلى العالم في صورة إنسان للتكفير عن خطايا البشرية، بدلاً من معرفة تاريخ ميلاد المسيح عليه السلام بالضبط، هو الهدف الأساس في الإحتفال بعيد الميلاد).

أما شجرة الميلاد وزينتها، فحكايتها أدهى وأمر، إذ أنها مُرتبطة بعبادة وثنية كان أهلها يُقدّسون الشجرة ويعبدونها من دون الله، وقد حاولت البعثات التبشيرية في ألمانيا في عهد البابا القديس بونيفاس الإبقاء على قدسية الشجرة وتزيينها مع إضفاء طابع مسيحي عليها، ثم انتقلت تلك الاحتفالات الوثنية وهي ترتدي هالة قدسية إلى فرنسا ومنها إلى انكلترا والولايات المتحدة وأوستراليا. ثم أضيفت الأناشيد والقصائد الملحنة للميلاد لتعزف في الكنائس، ومن أشهر من قاموا بكتابة تلك الترانيم مارتن لوثر، ومن أشهر منشداتها المطربة اللبنانية فيروز. ثم أضيفت صور ل”سانتا كلوز” أو “بابا نويل” ورجال الثلج إلى جانب الشجرة، وتلا ذلك بعض الرموز والأيقونات كنجمة بيت لحم والحمامة البيضاء ليصبح العيد بدعياً بامتياز.

وقد قامت بعض الدول المسيحية بحظر احتفالات عيد الميلاد (اسكتلندا ١٦٤٠ و والولايات المتحدة ١٦٥٩) كما قام البرلمان الإنكليزي في القرن السادس عشر بمنعها تماماً باعتبارها “مهرجان كاثوليكي بلا مبرر من الكتاب المقدس”، كما اعتبرها “هدر للوقت وإسراف في الأموال تتخللها ممارسات غير أخلاقية”. لكن هذا لا يبرر بالطبع ما تمارسه بعض الدول كجمهورية الصين الشعبية التي شنت حملات معادية للأديان في القرنين الأخيرين، فقامت بإغلاق الكنائس وإزالة أشجار عيد الميلاد في تلك المناسبات.

لا تغضب أخي المسيحي والقبطي إن لم أُهنّئك في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) بعيد “الشمس التي لا تقهر”، وسامحني إن لم أشاركك في طقوس عبادة الشجرة وتزيينها بدم المسيح الذي أؤمن أنهم “ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم”. واعذرني إن رفضت نسبة كل هذه التخاريف والزخارف والزينة المبالغ فيها إلى طفل بسيط وُلِد في بيت لحم ودرج في الناصرة، وناضل كي يجمع خراف بني إسرائيل في حظيرة الرب لينقذهم من الضلال ويردّهم إلى سبيل الرشاد كما فعل أخوه محمد ومن سبقهما من الأنبياء والرسل. وتأكد أنني لو علمت يقيناً بميلاد المسيح عليه وعلى نبينا السلام، لكنت أول الواقفين على عتبة بابك، وأول المصافحين لك، ولشاركتك صيام هذا اليوم ودعائه.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer129@me.com

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى