هذه هي أَثمن لوحة في العالم

خلال جلسة المزاد العلني

هنري زغيب*

إِذا كانت مطرقةُ المزاد العلَني هي التي تُعلنُ الثمن الأَعلى لعملٍ فنيٍّ، فإِن الـمُزايدين عادةً يرفعون السعر، مراتٍ لإِرادتهم أَن يقْتَنوا هذا العمل، ومراتٍ لأَن ثمنه يُحسَم من ضريبة الدخل السنوية، وغالبًا ما يعودون فيبيعون العمل من جديد في مزادٍ لاحقٍ أَو في صفقةٍ فردية، فيكون اقتناءُ العمل الفني استثمارًا ناجحًا يُتْقنه تُجار الفن أَو سماسرتُه.

مقالي اليوم عن أَثمن لوحة على الإِطلاق في تاريخ الفن: 450 مليون دولار في مزاد “كريستيز” (نيويورك).

حين كانت في متحف لندن الوطني

“مُـخَلِّص العالَم”

إِنها لوحة “مُخلِّص العالَم” لليونارو دافنتشي (1452-1519)، رسمها في فترة يرَجَّحُ أَنها بين سنة 1490 وسنة 1500. كانت حتى سنة 2017 معلَّقَةً لدى “متحف لندن الوطني”. وصمَّم لها المهندسون المعنيون في أَبو ظبي حيِّزًا خاصًّا في متحف اللوفر هناك، لكن المزاد العلني سبَقَهم فلم يشاهدها زوار “لوفر أَبو ظبي”.

هذه اللوحة بقيَت زمنًا طويلًا بعيدة عن العيون كسائر الأَعمال الفنية الكبرى بين مجموعات المتاحف خلف الأَقفال في غُرفٍ مُـحصَّنة، حتى لتضيع قيمتها المادية إِن لم تنكشفْ وتُعرَض للمهتمِّين وهُواة جمْع التُحف الفنية النادرة في جلسات عامَّة من المزادات العلنية المتخصِّصة.

اللوحة في الفيلم الوثائقي

كما قنبلة فوق رُؤُوسهم

هكذا أَمكن تحديد القيمة المادية لأَثمن لوحة في تاريخ الفن: “مخلِّص العالَم” في مزاد “كريستيز” سنة 2017. كان ذلك في ختام جلسة متشنِّجة صاخبة لم تستمرَّ سوى 18 دقيقة فقط تَنَافَسَ فيها أَكبرُ الـمُزايدين في العالَم، حتى إِذا أُعلِنَ المبلغ النهائي وصَفَ الصحافي البريطاني سْكُوتْ رايبورن تلك اللحظة بأَنْ كانت “كما لو انفجرَت قنبلة صاعقة فوق رؤُوس الحاضرين”. فالشاري لم يكن مندوب مؤَسسة عالمية أَو دولية كبرى، بل كان مندوبًا عن فردٍ غيرِ عادي هو ولي العهد السعودي الأَمير محمد بن سلمان. ومن يومها وهذه التحفةُ العالمية الفريدة محفوظة بأَمانٍ واحترامٍ لدى العائلة المالكة السعودية، وبذلك استطاع ولي العهد السعودي أَن يخطف هذه الرائعة من اقتناء كبار المزايدين في تلك الجلسة. وحتى اليوم ما زال سرًّا عميقًا مكانُ حفظ هذه اللوحة التحفة: هل في مكانٍ خفيٍّ من لوفر أَبو ظبي أَم في لوفر باريس، ويرجح البعض أَن تكون في يخت محمد بن سلمان الفريد بفخامته هو الآخر، بدليلِ أَنْ حين تناهى إِلى الأَسماع أَنَّ هواء البحر قد يؤْذي قماشة اللوحة وأَلوانها، سرى أَن تم نقلُها سنة 2021 إِلى مكان سري خاص في المملكة العربية السعودية. وحول ذلك صرَّحت الناقدة ومؤَرخة الفن ديانا موديستيني (أُستاذة تاريخ الفنون في كلية نيويورك الجامعية للفنون الجميلة) بأَنَّ حجبها عن العرض أَبعدها عن عشاق الفن لتأَمُّل هذه التحفة الفريدة في العالم.

خُدُوش في اللوحة قبل ترميمها

أَصلية؟ أَم نسخة مزوَّرة؟

كانت هذه اللوحة، لعقود طويلة، موضع شكٍّ وجدَل أَنْ تكون هذه اللوحة نسخةً عن الأَصلية وليست هي الأَصلية، لكنَّ الوقائع أَخيرًا أَثبتَتْ أَنها هي فعلًا النسخة الأَصلية الوحيدة التي تركها ليوناردو في محترفه عند وفاته، فتولَّاها تلامذتُه بعده.

وبلغَت أَهمية هذه اللوحة أَنْ كان غيابها عن الأَنظار عقودًا طويلةً عنوانًا لتسمية “ليوناردو الضائع” ذاك الفيلم الوثائقي الذي حقَّقه سنة 2021 المخرج الدانماركي الشاب أَندرياس كوفود (مولود سنة 1979 في كوبنهاغن). ويسرُدُ الفيلم تاريخ اللوحة الطويل منذ ضاعت طويلًا في غياهب النسيان، وأَن ليوناردو رسمها نحو سنة 1500 بناءً على طلب ملك فرنسا لويس الثاني عشر، وأَنَّ ملك إِنكلترا شارل الأَول اشتراها سنة 1625، ومن يومها لم يعُد أَحد يعرف أَين كانت، إِلى أَن ظهرَت في مطلع القرن العشرين فتبيَّن أَنها كانت محفوظةً لدى الرسام الإِيطالي برناردو لْوِيني (1480-1532) وهو كان من حلقة ليوناردو الضيِّقة إِبان عصر النهضة. ويقال إِنه كان، مع زميله اللومباردي جيوفاني أنطُونيو بولترافيو (1466-1516)، ممن عملوا مع ليوناردو في محترفه.

… بل أَصلية وأَثمن لوحة في تاريخ الفن

أَول ما ظهرت اللوحة علنًا كان عند مزاد علني في نيو أُورلينز سنة 2005. كان اشتراها تاجرا الأَعمال الفنية أَلكسندر باريش وروبرت سايمون وعرضاها للمزاد. سوى أَن اللوحة كانت تعاني من خُدُوش وجُرُوح وتمزُّقات وتلفٍ في بعض نقاطها، فأَخذاها إِلى ديانا موديستيني (أُستاذة الفنون في جامعة ولاية نيويورك) فأَكَّدَت أَنها اللوحة الأَصلية وليست نسخةً مزوَّرة، وعملَت في دقة فائقة على ترميمها بطريقتها البارعة. وحين انتهت من الترميم حملَت اللوحة إِلى لوك سايسُون في متحف لندن الوطني، فعمَدَ مع خبرائه في المتحف إِلى التدقيق في طبقات الأَلوان فالتأْكيد أَنها اللوحة الأَصلية بريشة ليوناردو.

ومن متحف لندن انتقلَت اللوحة إِلى تاجر اللوحات السويسري إيف بوفييه ومنه انتقلَت إِلى مؤسسة “كريستيز” للمزادات العلنية حتى كان ما كان وبلَغ ثمنُ بيعها 450 مليون دولار.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى